الراحلون

 

حين يلتقط الحي إشارة إلى قرب التوديع فهي مزية تؤهله للاستدراك والعمل الصالح، وطلب المسامحة من الآخرين.
تحفزه لأن يكتب وصيته بما له وما عليه، بأبعادها الأخلاقية لمن وراءه بالتواصل وحسن العلاقة وأداء الفرائض، وبالحج أو الأضحية أو سائر الأعمال الصالحة، وقد شرع الله الوصية بالثلث فما دونه بعد الموت.
 
جميل أن يتعود المؤمن حسن الظن بالله في حياته، ليؤهله ذلك إلى حسن الظن بالله ساعة الرحيل والضيق، والخوف على الماضي، والقلق من المستقبل، والحزن على الحاضر {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} (فصلت: 30).
 
قال عكرمة: «لا تخافوا ما أمامكم، ولا تحزنوا من ذنوبكم، ولا على أولادكم»، وذلك عند الموت، ولذلك كانت وصية النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يموتنَّ أحدُكم إلا وهو يحسن الظَّنَّ بالله». (أخرجه مسلم).
 
العويل وتقنين الحزن ليس مشروعًا، ولا هو من الوفاء للميت، ولا من طاعة الشريعة، فوصية الله {لَا تَحْزَن} (التوبة: 40)، ووصية رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتصبر ولتحتسب». (أخرجه البخاري، ومسلم).
 
إن طقوس اللطميات الخاصة والعامة هي تكريس لحالة الانقسام والحزن، وتجديد للآلام، بينما العقل الرشيد يقتضي تجاوز الألم وطيه، واستحضار كل معنى جميل محفز لأن نعيش الحياة أفرادًا وطوائف وأممًا بأمل وإشراق.
 
إن الموت الحقيقي هو لأحياء لم يعرفوا معنى الحياة، ولا تنعموا بمناجاة الله في عليائه {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} (الأنعام: 122).
 
هل علينا أن ننسى أهلنا وأصدقاءنا الذين سبقونا؟
 
كلا، لا تحاول نسيانهم، اذكرهم بخير، وأثن بخير «هذا أثنيتم عليه خيرًا فوجبت له الجنة». (أخرجه البخاري، ومسلم).
 
نصنع لهم أعمالًا تجعلهم حاضرين بيننا: صدقات، برادات، مساجد، كفالة يتيم.
 
في صالة المنزل «حصالة نقود» نضع فيها القليل الذي يباركه الله ويزكيه.
 
وقف ولو كان يسيرًا.
 
إطلاق أسمائهم على جزء من المكان، مكتبة، أو حتى شجرة… في القرية كنا نسمي النخل بأسمائهم، فيرحلون ويبقى النخل والاسم.
 
نزورهم ونسلم عليهم، ونستحضر أنهم يعلمون ذلك ولكنهم لا يردون.
 
نراهم في أحلامنا فنسعد كما لو كنا رأيناهم في اليقظة، فالأمر قريب.
 
الدموع لا تضر، والله لا يؤاخذ بدمع العين، ولا بحزن القلب، الآلام تخف مع الدموع، (90%) يرون أنهم يكونون أفضل حالًا بعد البكاء.
 
قد تكون الدمعة قصيدة، رأى أحدهم في المنام دمعة تسقط من عيني بعد رحيل صغيري عبد الرحمن فكانت قصيدة.
 
شعر الرثاء أصدق الشعر، وكذلك شعر الحب.
 
ومن أجمل شعر الرثاء قول ابن الرومي يرثي يحيى العلوي:
 
أيحيى العلا لهفي لذكراك لهفة … يباشر مكواها الفؤاد فينضج
 
لمن تستجد الأرض بعدك زينة … فتصبح في أثوابها تتبرج؟
 
عفاء على أرض نزلت بغيرها … فليس بها للصالحين معرج
 
سلام وريحان وروح ورحمة … عليك وممدود من الظل سجسج
 
ولا برح القاع الذي أنت جاره … يرف عليه الأقحوان المفلج
 
ويا أسفي ألا ترد تحية … سوى أرج من طيب رمسك يأرج
 
وقول مُتَمِّم بن نُويرة يرثي أخاه مالكًا:
 
وإني متى ما أدع باسمك لا تجب … وكان جديرًا أن تجيب فتُسمِعا
 
وعشنا بخير في الحياة وبعدنا … أصاب المنايا رهط كسرى وتبعا
 
وكنا كندماني جذيمة برهة … من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
 
فلما تفرقنا كأني ومالكًا … لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
 
وقد تأثر بها عمر وقال: «وددت أني رثيتُ أخي زيدًا بمثل ما رثيتَ به أخاك مالكًا».
 
وقصيدة أبي ذُؤيب الهُذلي يرثي بنيه السبعة الذين ماتوا بالطاعون في عام واحد:
 
أمن المنون وريبها تتوجع؟ … والدهر ليس بمعتب من يجزع
 
زرت مرة صديقًا فقد أطفاله الخمسة ثم أمهم في حادث حريق، وآخر فقد ثلاثة من أولاده في حادث سيارة..
 
المفاجأة أشد إيلامًا، و«الصبرُ عند الصَّدمة الأولى». (أخرجه البخاري، ومسلم)، «ومَن يتصبَّر يصبِّرْهُ اللهُ». (أخرجه البخاري، ومسلم).
 
مع الوقت يعطيك الألم قوة وصلابة، تقول: جربت الألم فلماذا الخوف؟
 
سؤال يهجم لأول وهلة: لماذا أنا بالذات دون غيري؟
 
إحساس عابر بالأنانية حتى في الحزن، فمن ذا الذي لم يصب؟
 
تعرضت «ماكساين شنال» لأزمة مريعة عندما أصيبت ابنتها بحادث سيارة أودى بقدرتها على الاهتمام بنفسها، وزاد من ذلك إحساسها بالألم والذنب من جراء إهمالها لها، ومن فهمها العميق لهذه التجربة المضنية كتبت كتابها الشهير:
 
«الشدائد تصنع الأقوياء: تحويل المحن إلى منح» ترجمة: ليلى النابلسي.
 
وهو مجموعة مبادئ وتمارين عملية تساعد في عبور الممر المتعرج من الفقدان، وهو حافل بقصص أشخاص مروا بمصاعب كبيرة أو صغيرة.
 
سلمان العودة
Exit mobile version