الهوية والحق العربي

يقول الله تعالى في محكم التنزيل: ‘يا أيُّها الإنسانُ إنّك كادحٌ إلى ربِّك كدْحًا فمُلاقيه’. (سورة الانشقاق84 :6)

في جمادى الثانية سنة 1359 هـ، خاطب جدّي الملك المؤسس عبدالله بن الحسين، أبو طلال ـ طيّب الله ثراهما – النشء العربيّ في رسالة حملت عنوان ‘من أنا’ قائلاً: ‘يجب على كل عربيّ أن يحكم بأن السلامة في الوحدة وأن الهلاك في التفرقة’. (الآثار الكاملة للملك عبد الله بن الحسين، 498). فكانت رسالة من عربي يتحدث عن العرب يؤكد فيها ثوابت العقيدة ويعرض تاريخ الأمة العربية وإنجازاتها منذ أن كرّمها الله بالهداية الإلهية والرسالة النبوية الشريفة.

رافق هبوب رياح التّغيير والإصلاح على المنطقة، سيطرة مظاهر الاقتتال ونوازع الحرب وغياب الأمن والاستقرار على بقع عزيزة من الوطن العربي الكبير. وفي غياب الأولويات، يتم هدر مقدّرات الأمة وتنحرف بوصلتها عن المسائل الاستراتيجية والقضايا الوجودية الكبرى اللصيقة بالهويّة والكينونة. فهل لا تزال قضية الحق العربي في فلسطين والقدس الشريف على رأس أولوياتنا؟ 

وفي ضوء عدم التشاور والتناصح والتوافق، والاستكانة إلى الإخفاق والتنازل وتضييع الفرص، يُنتهك الحق العربي، وينتقص الاستيطان كل يوم من الأرض العربية. كما تتداعى القدس السياسية، التي هي جوهر القضية الفلسطينية، ويقيد الاحتلال القدس الدينية بالقانون والإجراءات الإقصائية. وإذا كانت القدس قد بحثت سياسيًا، وبقيت القدس الدينية موضعا للتشاور الديني، فإن السؤال الملح هو: أين نحن من المستقبل؟ 

وفي إطار ما هو حادث في العالم العربي، وبالنظر إلى ما حصل طيلة العقود الفائتة، تبرز العديد من المفاجآت، التي نخشى أن يكون فيها الاختلاف هو الأصل، وما عداه، أي الاتفاق، هو الاستثناء، الذي نجدُّ السعي لإيجاده في واقع حياتنا. وليس أدلَّ على ذلك ما نسمع به، ولا نعلم تفاصيله، من مفاوضات تجري، تتغير فيها قواعد اللعبة، وتتبدل طبيعة القضايا، من دون أن يعلم عنها العرب والأصدقاء المتعاطفون كثير شيء.

ونحن هنا لا نُصدر حكمًا، وإنما نُذكر فقط بأن هناك الكثير على المحك، بالنسبة لنا كأردنيين. كما أن قدرنا المشترك يفرض علينا أن نكون معاً، ومُكوِّن هويتنا الوطنية ينطق بذلك، وتاريخنا يُحدث به، وحاضرنا يشهد عليه. ونحن نريد أن نُعطي دعمًا معنويًا وأخلاقيًا تقابله رغبة صادقة في انتصار الحق وتحقيق العدالة للأشقاء، لا تنتقص مما يجتهدون في تحصيله. فالأردن هو الرباط والثغر الصامد، إن شاء الله، ويبقى دائمًا واحة أمان في سياق إقليمي وعالمي، نظرًا لأهميته الاستراتيجية والجغرافية بالنسبة لقضية العرب؛ فلسطين. كما للأردن تأثير إيجابي في عالم يضطرب فيه توازن المصالح.

وقد يستتبع سؤالنا السابق عن المستقبل أسئلة استحقاق أخرى: أين الأردن من كل ما يجري؟ وهل له أن يكون حاضرًا في المشهد السياسي؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة قد لا تكون ببساطة طرحها، ولكن ما يمكن أن يعين عليها هو قدرتنا، كأردنيين، على تناول الهموم الأساسية في الداخل، وما يرتبط منها بالخارج. ويندرج ضمن هذه الهموم، بل من أخصها، والذي يصعب الفصل فيه بين داخل وخارج، هو بين ما هو أردني وما هو فلسطيني. 

وقد يتبادر إلى الأذهان أكثر من سؤال في هذا السياق، ما الذي يربط بين منظومة المواطنة العربية الحرة المسؤولة والهوية العربية والشأن الفلسطيني، وما المغزى العملي من الحديث عن الاستقرار والجوار الآن؟ قطعًا، فإن الرابط بين القضيتين لا يخفى على ذي بصيرة، وأن تناولهما بهذه الطريقة ليس تلبية لحاجة طارئة، أو محاولة إرضاء مكون مجتمعي دون غيره وتغييب الهدف الرئيسي من طرحنا للموضوع، بل يكمن المغزى وراء هذا المسعى في رغبتنا التأكيد على الثوابت؛ ثوابت الهوية العربية المشتركة للأردنيين، مهما اختلفت المنابت والأصول. فأنا لا أفهم المنابت والأصول إلا في بعدها الكلي. 

وفقاً للمنطق السائد حاليًا، تتجاذب الهوية القومية انتماءات فرعية وعصبيات ضيقة لا تمت للواقع الموضوعي بِصلة. وعليه، يتحتم علينا تكوين قناعات راسخة لدى الجميع بأن وحدة المصير والهمّ الوطني والقومي المشترك من الأولويات المرتبطة بنا فكريًا ووجدانيًا. وتمثّل مسميات مثل الهلال الخصيب وبلاد الشام وبلاد ما بين النهرين تجسيرًا بين المشتركات الفكرية والوجدانية، بعيدًا عن مسميات الصوملة والبلقنة التي درجت في الماضي القريب.

إن الانتماء الصادق للعروبة وقضاياها يجعلنا نشعر بأننا أصحاب القضية المشتركة للأردنيين والفلسطينيين، ولكل العرب والمسلمين؛ أعني فلسطين. لذلك، فإننا نسعى لمدّ يد العون لأي حل عادل يضمن الحق الفلسطيني والعربي. فإذا كانت علاقتنا ببعضنا في الإطار الأردني هي علاقة الذات بالذات، فإن العلاقة بين هويتنا والقضية الفلسطينية هي علاقة بين الذات والموضوع، كما يجب أن يتحدد بوعينا بهويتنا موقعنا من الصراع العربي-الإسرائيلي، الذي لا يمكن إلا أن يحسمه إدراكنا لضرورة التناصر بين مكوناتنا الاجتماعية وثوابت انتمائنا الوطني والقومي.

علينا أن نسعى معًا بمسؤولية إلى استشراف المستقبل بما يحقق الصالح العام. وهي الغاية التي لطالما سعيت إلى تحقيقها عبر قنوات الحوار والتشاور وبمساعدة الإخوة الشرفاء من أبناء هذا الوطن. 

وقد أدرك أخي – المغفور له بإذنه تعالى – الحسين ضرورة كتابة تاريخ الأردن المعاصر، فكان توجيهه لي بتشكيل اللجنة العليا لكتابة تاريخ الأردن عام 1987، وما تم تحقيقه حتى الآن في هذا المسعى يمثل منجزًا وطنيًا شارك فيه كوكبة من أبناء الوطن بأطيافه كافة. وفي هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ الأمّة، لا نملك إلا أن نعمل على استشراف المستقبل والتطلع نحوه بعين العلم وبصيرة القيادة المستنيرة. فلا يعد الاستشراف هروبًا إلى الأمام بل تقييم للأولويات والمضي قدمًا بما يخدم الصالح العام ويصون هويتنا وكينونتنا.

وفي ضوء الأزمات التي تحيق بالمنطقة، فإن ما يشهده الأردن من استقرار هو الضامن للمستقبل. كما أن الاستقرار الاجتماعي في الأردن لا يرتبط ارتباطًا مباشرًا بالاستقرار السياسي في جوارنا المباشر والمنطقة بأسرها. ومن المؤلم أن نسمع بعض الأصوات التي تربط بين الاستقرار الذي ننعم فيه بالأردن وبين تدفق اللاجئين هروبا من ويلات الحرب وطلبًا للأمن والاستقرار. وكلنا نعرف أن الضيافة العربية الأصيلة، تراث عريق ارتبط بالإنسان’العربي’في حله وترحاله، وغناه وفقره، وأفراحه وأتراحه، نمارسها هنا بشكل فردي وبشكل رسمي. 

وفي الواقع، ومع تأثيرات الصراعات في الجوار، وما جرّته حراكات الربيع العربي من تحولات، وما راكمته الأزمات الإقليمية والدولية من تكاليف، استطعنا في الأردن التعامل مع هذه الظروف بقدر معقول؛ انطلاقًا من ثبات وحدتنا الوطنية والقوة النابعة من أصول هويتنا، والاستقرار الاجتماعي الذي ننعم به. ولكن تبقى تحديات المياه والطاقة والبيئة الإنسانية من الأولويات، فهي من القواسم المشتركة التي يجب التعاطي معها من منظور شامل فوق قطريّ يتجاوز الحدود الضّيقة، ويستند إلى رؤية تأخذ بالحسبان البعدين العلمي والإنساني. 

إن التفكير الجاد يدعونا دائما إلى البحث عن الخيارات والبدائل للوقوف أمام أي مشكلة قد تطرأ، والإمساك بوسائل معالجتها قبل أن تستفحل وتكبر. والآن، قبل فوات الأوان، نحن بحاجة لنظرة فاحصة متبصرة في أسس هويتنا الاجتماعية،’وأن ندرك بوضوح نشأتها وطبيعتها لنطور معًا عوامل ديمومتها، وأن يستشعر المخلصون من أبناء هذا الوطن المخاطر المحدقة بهم، وأن يستوعبوا المبادرات الرسمية والأهلية الخيرة، التي تهدف إلى وحدة الصف وتعزيز تماسك الجبهة الداخلية، وتأكيد قيم المواطنة الجامعة؛ المواطنة العربية الحرة والمسؤولة، والكرامة الإنسانية، درءًا لأي مخاطر قد تأتي من حيث لا نحتسب. إن الاستقرار الذي ينعم به الأردن يجب ألاّ يفهم على أنه استقرار نسبي مرهون بما يدور حوله في المنطقة. فهو بحقّ السند والعضد لأبنائِه. والأردن، هذا الجزء الغالي من الوطن العربي الكبير، كان وسيبقى أردن كل العرب. وأذكر في هذا السياق كلمات أخي الحسين رحمه الله الذي أكد أهمية الترتيب الموضوعي للبيت الداخلي لنتمكن من الصمود في وجه أي تحدٍ خارجي مهما بلغت درجته. وتمثل مسيرة الإصلاح الشامل التي يقودها جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين الضامن للإستقرار والتنمية في الوطن.

وتستند منظومة الإصلاح المنشودة الى تفعيل الأضلع الثلاثة: السياسي، والاقتصادي-الاجتماعي، والمجتمع المدني. وستسهم هذه المكونات المتكاملة في تفعيل الإرادة والعقل العربي، فتتحقق، بذلك، الصحوة الحقيقية ذات المحتوى التي ننتظرها جميعًا. 

الامير الحسن بن طلال

‘ رئيس منتدى الفكر العربي 

قد يهمك أيضاً

تعليقات

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

تابعنا

الأحدث