شهادة وفاة

بعد ثلاثة عشر قرنا من اجتماع الأجداد في سقيفة بني ساعدة وقع الأحفاد في لوزان السويسرية شهادة وفاة الدولة العتيدة واكتفوا من الغنيمة بساحتهم القومية مع بعض الأشلاء من ارض الشام ونفوا عن انفسهم تهمة الدولة الأسلامية وتركوا خلفهم الكثير الكثير من الايتام اللذين لم يسعفهم الوقت لينالوا اثارة من علم ينفع او حظا من ثروة تسعف ليواجهوا بعد وقت قصير حرب عالمية ثانية لا قبل لهم بها توزعت على اثرها بلادهم ودمائهم بين القبائل المستعمرة الجديدة .

كما ان المنتصرون في الحروب يكتبون تاريخ المهزومين فهم كذلك يصنعون المصطلح ويجبرون المهزوم على اعتناقه والترويج له, فمنذ ذلك التاريخ صنع لنا الغرب مصطلح الدولة القطرية وقسم حاضرنا وشيطن ماضينا واصبح لنا حدودا اقليمية ملغومة وصار هدفنا الحفاظ على حدودنا الجديدة وهي في ذات الوقت نقطة ضعفنا المميتة .

كما قبلنا من قبل مصطلحات المستعمر الجديد فقد قبلنا ايضا هيئته ولغته وثقافته وصناعته وما ارتضاه لنا من انظمة حكم رغبا ورهبا . حتى انه زرع في اللاوعي خاصتنا مسلمات يبدوا ان الكثير منا يعتنقها كما الدين بلا تفكير أو تمحيص فلا يكاد احدنا ينطق بجملتين لتكون الثالثة انه ضد الارهاب وفحوى كلامه انه ضد الاسلام , اما دولنا المصطنعة فتنفق الملايين لتروج لمدنيتها في مسعا خفي لنفي صفة الاسلامية عنها , يجب ان نعترف انهم نجحوا بسلخنا عن ديننا الذي كان سببا لتوحدنا ورفعتنا وحضارتنا وكذلك غيروا اولوياتنا وبؤر اهتماماتنا كمجتمع .

قبول مصطلحات العدو لا يأتي فجأة فالامر يتطلب اجيال واجيال وانظمة تربية وتعليم واعلام ونخبة تروج كي يصبح المصطلح راسخا كجزء من العادات والتقاليد والمسلمات , ان اصعب مرحلة في طريق التخلص من هذا الداء هي مرحلة التشخيص والاعتراف بالداء ابتداءا .

تعالوا نعترف جميعا اننا مسلمون بالهوية فقط والدين عندنا لا يمشي على قدمين فهو مقعد كسيح صوته خافت لا يكاد يسمعه احد , تعالوا نعترف اننا مؤمنون داخل اسوار المساجد فقط وما ان نخرج من حيز المسجد حتى نكون ابناء عصرنا نتحدث بلغته ونتصرف بقيمه المستوردة اصلا ونؤمن بالمصطلحات التي اصطنعها لنا المستعمر.

لا عجب والحال كذلك اننا كأمة اصبحنا عالة على باقي الأمم , نحن ناكل مما يزرعون ونلبس مما ينسجون ونرفل بكل الكماليات التي ارادوها لهم ولنا , قدوتنا صار منهم واحلامنا رهنا بقدرتهم على ان يترجموها واقعا معاش , نحن امة من المعجبون بكل ما ياتي من مستعمرنا شئنا ام ابينا .

بعد كل هذا فلم لا نكون اصحاب اسوأ نظام تعليمي بين الأمم ولدينا ما يزيد عن ثمانماية جامعة افضلها تاتي في المرتبة الاربعماية واثنين والثانية في المرتبة الثمانماية بين جامعات العالم ناهيك عن ان باقي جامعاتنا تحتل المراكز الأخيرة بين جامعات العالم ولا تجد لها منافسا اضف الى ذلك اننا لا نملك مركزا بحثيا معتبرا واحدا يمكن ذكره على سبيل التباهي .

هذا عن الجامعات وماذا عن الصناعة والزراعة والطباعة بل والرياضة , يكفي ان نعلم ان بلدا اوروبيا واحدا مثل المانيا تنتج مطابعها عشر اضعاف ما تنتجة جميع مطابع الدول العربية مجتمعة.

بعد كل ما سبق وهو لا يعدو عشر معشار الحقيقة فلم لا نقف مع انفسنا قليلا ونسأل : لماذا .

لا اظن ان منصفا قد يعتقد ان في الأمر سببا جينيا مثلا فالله خلق جميع الأمم من ذات المكونات العضوية ولكن ترك للانسان ان ينمي ذاته وقدراته بل وخص هذه الأمة دون غيرها بقران عربي لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من اي جهة كانت وامرها ان تبينه للناس وتهديهم به , وليست الهداية هنا خطبة عصماء او مقال هنا أوهناك بل ان افضل التبليغ ان تكون قدوة حسنة يرنوا الجميع اليها ويتسائل عن محركها الأساسي .

الأمر ايها السادة اننا نتعبد الله بتراث الأسلام وشعائره لا بالاسلام ذاته وهذا يفسر لنا السبب الحقيقي وراء احتجاز هذا الدين بين جدران المساجد فالتراث الاسلامي بني في زمن اخر غير هذا الزمان ولم يعد يجيب على الكثير من الاسئلة الملحة في عصرنا وهذا ليس عيبا في المجتهدون الأوائل بل العيب كل العيب في قصورنا نحن بحيث لا زلنا نعيش فقها كتبه الأجداد قبل عقود كثيرة ولم تتمكن انظمتنا الثقافية انتاج اجيال تتصدى لفقه الواقع وتطور المذاهب السابقة وتبني عليها .

ما ذنب احمد بن حنبل والشافعي وغيرهم من اصحاب المذاهب المعتمدة ان قانون المرور والضرائب المتعددة والجمارك وضريبة المبيعات لم تكن على ايامهم , اليس فينا من يتصدى لفقه اليوم ويجعل من الدين عنصرا فاعلا في كافة تصرفات الناس .

الحقيقة انه لا يوجد حتى الان, فنظرة سريعة الى معدلات القبول في الجامعات تشي بالامر كله فادنى الدرجات تذهب للدراسات الدينية المختلفة ومن لا يحصل على علامة النجاح في الثانوية العامة يذهب للجيش او الشرطة اما المتفوقون فيذهبون للدراسات التطبيقية كالطب والهندسة لان المجتمع ومعه الدولة يقبلون ان يكون مرتب الطبيب عشرة اضعاف مرتب الفقيه الشرعي او عالم اللغة ويبدوا ان سيباويه لو عاش في ايامنا لكان فقير الحال معوز مسكين او كان عليه ان يكون مهندسا او طبيبا .

ومن هنا اصبح المرض العضال ينخر في كل نواحي الحياة التي نعيشها , فالموجهون الحقيقيون للمجتمع واهل الفقه والمسؤولين عمليا عن تطوير البنية الأخلاقية والثقافية للمجتمع هم اقل فئات المجتمع حظا من الثروة او القدرة على الابداع بينما المتفوقون علميا اصبحوا اصحاب الثروة التي تستنزف صاحبها وتستغرق عمره فبقي الدين حبيس الفقه القديم ولا يتناول الحاضر ابدا فتغـرب الفقه وبقيت الشعائر التي لا تتأثر بالزمان .

لذلك كله ففي بلاد الاسلام لا تجد اسلاما حقيقيا في المصنع او الحقل او المكتب او اي من مراكز النشاط في المجتمع , التاجر كذاب والصانع غشاش والنخبة غارقة في النفاق ولا تكاد تجد ملمحا واحدا من ملامح صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم في اي فئة من فئات مجتمعنا الا من رحم ربي وهم قليل قليل .

وبعد هذا كله , كيف نتوقع نماءا وازدهارا ما دام السقوط الاول لا زال يعمل فينا ولم نصل قاع المنحدر بعد .

المؤكد عندي انه ما لم نقم على مستوى الامة بمراجعة الذات والوقوف على اسباب الانهيار الذي بدا منذ المراحل الأخيرة للدولة العثمانية وحتى الان فان تلك الوثيقة التي وقعها الجد القريب في لوزان ستكون شهادة وفاة الأمة وليست شهادة وفاة دولة الخلافة الاخيرة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى