الأميركان وحكام طهران : تآلف قطبي الإرهاب

وطن _ الأميركان وحكام طهران طريق الإرهاب ومن طبيعي أن تقف الولايات المتحدة مليّا أمام قرار نظام الملالي ترشيح إرهابي ساهَم في عملية احتجاز الرهائن الأميركيين عام 1979 سفيرا لإيران في هيئة الأمم المتحدة ، وأن تعترض على ذلك وترفض منحه تأشيرة دخول إلى أراضيها . لكن غير الطبيعي أن تأتي هذه الوقفة بعد سنوات طويلة من مسايرتها لهذا النظام وسكوتها عما ارتكبه من جرائم أفظع وأشمل حتى اليوم ، وهو ما يستوجب تسليط الضوء على هذا الحدث بما خفي منه وما ظهّر .

صحيح أن البلد المضيف لأعلى منظمة دولية ملزم على العموم بالسماح لدبلوماسييّ الدول الأعضاء فيها الالتحاق بمراكز عملهم في نيويورك وفق الاتفاقية الموقعة مع الأمم المتحدة ، إلا أن هذا الإلزام ليس مطلقا بالضرورة . أي لا يشمل بطبيعة الحال الإرهابيين المعروفين ، ومن هم في مستوى خطورتهم ككبار تجار المخدرات على سبيل المثال. ولهذا يجوز للبلد المضيف في ظروف محدودة رفض منح تأشيرات دخول لمثل هؤلاء ، حتى وإن كان زعيم الإرهاب الرسمي وإن لم ينص الإتفاق على حقها في ذلك أيضا.

ضياع معنى الإرهاب في متاهات الأحداث

هذه الوضعية تنطبق على السفير الإيراني حميد أبو طالبي المرَشّح من قِبَل نظام الملالي . ومع ذلك ، وأيا كان الرأي بـمواقف ” القوة الأكبر” المعادية للشعوب ، فقد ارتأت التصرّف مع نظام الملالي بنعومة ـ كعادتها ـ ، وألا تذهب في البداية أبعد من التعبير عن قلقها ومخاوفها حيال هذا الترشيح . ثم طلع علينا ايد رويس رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي موضحا “ان قواعد وزارة الخارجية تسمح بحجب منح التأشيرة لأسباب أمنية، وهذا الشخص متورط بما من شأنه ان يوجب علينا تطبيق قرار الحجب عليه”.

وفي تأكيد على هذا التوجّه سارع الكونغرس تفاديا لأي تصعيد غير مرغوب فيه ـ منذ القديم ـ مع ملالي طهران إلى إقرار قانون جديد يسمح بمنع المشتبه في تورّطهم بأعمال إرهابية من تمثيل بلادهم لدى الأمم المتحدة. وهكذا يكون المنع قد أصبح تطبيقا لنص قانوني ، وليس تَبعَا لظرف استثنائي محدود وغير منصوص عليه في القانون القديم . وهذا ما دفع رويس بعدها إلى القول “الوقت مناسب الآن للضغط وإفهام الإيرانيين أنه لا قدرة لهم على قلب الطاولة في البيت الأميركي ” . وكأن كل ما اقترفه النظام الإيراني طوال ثلاثة عقود ونصف لم ير الأميركان إزاءه الوقت مناسبا لمجرد الضغط . عدا عن واجب السؤال : … وماذا عن بيوت الآخرين ، وهل البيت الأميركي وحده هو الذي لا يُسمَح بالإقتراب منه ، بينما يُعربد النظام الإيراني في كل اتجاه وسط استمرار تفرّج العالم عليه وهو يَقلِب الدنيا على رأس شعبه وجيرانه والأمم الأخرى ، دون أي رادع غير الكلام المؤشر إلى تآلف قُطبَي الإرهاب الأميركان وحكام طهران ، مهما علت بينهما أصوات التهديد اللفظي.

أما الأكثر مدعاة للتساؤل هنا : هل جريمة هذا الإرهابي تنحصر في اشتراكه بعملية احتجاز الرهائن لا أكثر ، وهو السبب الذي استندت إليه الولايات المتحدة في رفض السماح له بدخول أراضيها ؟ وهل مقياس درجة إرهابه وخطورة نظام بلده لا يُحسَب حسابهما إلا إذا مسّ ضررهما الولايات المتحدة وحدها فقط . أم أن سجلّه الحافل بالعمل الإرهابي القديم والمتنقل معه من بلد لآخر ومن قارة إلى أخرى هو المؤشر الذي يتوجب أخذه بالحسبان ؟

إذا كان العدل والمنطق يفرضان عدم النظر بعين واحدة إلى هذا الحدث في سياق التعامل مع ظاهرة الإرهاب ككل والتي هية من الأميركان وحكام طهران  ، فإن سِجل هذا المرشح كسفير في أعلى منظمة دولية يتضمن ما لم يجر الكشف عنه في وسائل الإعلام إلا نادرا من قبل مطلعين على دقائق وضعه .ففي سُلّمه الوظيفي ثمة ما يؤشر إلى أنه كان ينتسب في بداية “الثورة الإيرانية” إلى استخبارات حرس خميني ( وما أدراك ما حرس خميني فكيف باستخباراته ؟) . ثم التحق بسلك وزارة الخارجية في العام 1981. وفي العام التالي على الفور انتقل بقدرة قادر للعمل في جهاز المخابرات في السفارة الإيرانية بباريس ، ولم يلبث أن عاد إلى طهران بعد عامين فقط من ذلك ، وبقي فيها إلى أن تم نقله للعمل في السنغال . ولم يمض على وجوده هناك فترة طويلة حتى أعلنت السلطات الرسمية هناك اعتباره شخصا غير مرغوب فيه ، وقامت بطرده فعاد ثانية إلى طهران التي ارتأت بطبيعة نظامها العاشق للعناد والمشاكسة الرد على عملية الطرد من خلال مكافأته بتعيينه سفيرا في إيطاليا ، حيث بقي في هذا الموقع أربع سنوات من العام 1988 إلى 1992 .

إلى هنا قد يبدو هذا التسلسل في مسيرة الرجل اعتياديا في نظر البعض رغم كل ما يمكن أن يُسجّل عليه من ملاحظات . لكن غير الإعتيادي فيه ما كشف عنه تحقيق السلطات القضائية الإيطالية على أثر اغتيال المعارض الإيراني محمد حسين نقدي في شهر آذار من العام 1993 ، الذي سبق له أن شغل منصب القائم بأعمال السفارة الإيرانية بعد الثورة ( وهو أعلى مرتبة دبلوماسية للنظام في إيطاليا ) ، قبل أن ينشق عنه في العام 1982 احتجاجا على عمليات الإعدام والتعذيب التي يمارسها بحق أبناء شعبه ، ويلتحق بصفوف المقاومة ثم يصبح ممثلا لمجلسها الوطني في إيطاليا ، ويقوم بحكم خبرته وموقعه السابق المساهمة في الكشف عن جرائم عديدة ارتكبها النظام .. إلى أن تم اغتياله .

ومع أن عملية الإغتيال قد وقعت بعد عام من ترك أبو طالبي عمله في العاصمة الإيطالية إلا أن سير التحقيق القضائي الذي شمل شهادة شاهد مطلع على الحدث قد أفضى إلى نتيجة مفادها أن أبو طالبي هو الذي وقف وراء تنفيذ هذه العملية الإجرامية .وجاء في التفاصيل التي كشفتها دوائر الشرطة القضائية في بحثها عما يؤكد هذه النتيجة أن أبو طالبي هذا قد عاد ثانية إلى روما بعد عام من تركه السفارة ، وجاءت عودته بالتزامن مع اغتيال نقدي . وأكثر من ذلك تم التأكد أنه دخل إيطاليا تحت اسم مستعار وبوثائق ثبوتية مزورة بهدف الإشراف على تنفيذ ما أوكل إليه ، وأنه فوق ذلك ممنوع من دخول دول اتفاقية شنغن .

وحرصا على الإنصاف ، يتوجب عدم الإغفال هنا أن المقاومة الإيرانية سبق لها أن أعلنت بعد عملية الإغتيال مباشرة استنادا لما لديها من معطيات أن سفارة نظام الملالي في روما ضالعة في هذه العملية الإجرامية ، وجاء إعلانها في ذلك الحين قبل عشر سنوات من ظهور نتيجة التحقيق التي أُعلن عنها في العام 2003 !

إذن ، القرار الأميركي برفض دخول هذا الإرهابي إلى الولايات المتحدة لم يأت تحت “حجّة ” أنه إرهابي ، على حد ما أوردت صحيفة القدس العربي في صدر عنوان ما كتبته حول هذا الحدث (عدد 4 نيسان الجاري). ذلك لأن الحجّة تعني في هذه الحالة الذريعة التي تُستعمل للتعتيم على الحقيقة وادعاء ما يُخالفها ، وهو ما لا ينطبق على قضية هذا الإرهابي الحقيقي ، بل ينطبق ـ كمثل صارخ لا ينكره أحد ـ على ما استندت إليه الولايات المتحدة من أكاذيب لشن الحرب على العراق واحتلاله تحت حجّة أسلحة الدمار الشامل التي فضحتها الأيام أمام العالم ، بعد كل ما ارتكبته قواتها وميليشياتها المرتزقة من جرائم وإرهاب بحق هذا البلد وشعبه ، قبل أن تقوم بتسليمه تسليم اليد إلى نظام الملالي نفسه الذي رَشّح أبو طالبي الإرهابي سفيرا له في أعلى منظمة دولية .

خبير مصري: 400 موظف في البيت الأبيض ينتمون للإخوان .. والأمريكان الذين تظاهروا ضد ترامب من الجماعة

أمَا وقد وصلت الأمور إلى نقطة لا رجوع عنها إلا بخيار واحد من إثنين: إمّا الإصرار على ترشيح الرجل ، وهذا يعني الصدام مع الأميركيين في الوقت الذي يجري السعي للتقارب معهم . أو التراجع عن ذلك وجعل استقلال البلد موضع تساؤل نتيجة خضوعها للضغوط . وهذا ما يجعل الإيرانيين يتساءلون على حد قول شبكة”فوكس نيوز” في التاسع من نيسان الجاري : ” لماذا فعل روحاني”المعتدل” ذلك وهو يعلم جيدا تاريخ أبو طالبي المثير للجدل ، حتى يُقرر إرساله كمبعوث في الأمم المتحدة ويضع نفسه في هذا الموقف المحرج؟”.

هل تحصل المعجزة ويقع الصدام على هامش ما حدث للرهائن الأميركيين قبل ثلاثة عقود ونيف ، مع أنه كان مستحيلا أمام أحداث أخطر بكثيركثير قبل الآن ، أم أن واقعة السفير كلها من نسج أجهزة القطبين ؟

… وهذه قصة أخرى تستدعي القراءة حول ما لم يخطر على بال .قراءة بعقل “خبيث” كخبث الأميركان وملالي طهران .

* كاتب وصحافي عربي يقيم في باريس

Exit mobile version