250 صحفياً من الموصل فقدوا وظائفهم وتم اعتقال الكثيرين منهم من قبل تنظيم الدولة الإسلامية المتشدد ونزح العشرات خارج المدينة في وقت ما يزال مصير البعض مجهولاً حتى باتت اخبارهم تملأ وكالات الانباء.
إعلاميو نينوى الذين طالما نشروا القصص والأخبار عن مدينتهم اصبحوا اليوم مادة دسمة تتسابق إليها وسائل الإعلام العراقية والأجنبية، فعيون”داعش”تراقب الفارين من الموصل، وبنادقه ما زالت مصوّبة نحو صدور العالقين فيها.
“انهم قادمون للقبض علينا، فلنهرب بسرعة”، هذا ما قاله أحمد أبو ريتا لشقيقه وهو يرتجف خوفاً فور تلقيه اتصالاً هاتفياً منتصف الليل، وفصلته دقائق قليلة عن الوقوع أسيراً بأيدي تنظيم “داعش”.
بعد قليل من هروب الشقيقين بعد تسللهما عبر الدور المجاورة، اقتحم عناصر التنظيم المتشدد والمعروفون بتسمية”الأمن الخاص” منزلهما وعندما عجزوا عن إيجاد ضالّتهم أخذوا سيارة أحمد غنيمة لهم دون أن تردعهم توسلات الأم ودموعها.
تبيّن فيما بعد إن هذه المداهمة كانت ضمن حملة شنتها هذه القوة على منازل الإعلاميين وأسفرت عن اعتقال إثني عشر منهم إذ قامت بعصب عيونهم واقتادتهم إلى جهة مجهولة.
هذا ليس أول استهداف من نوعه، ففي الأيام الأولى لسيطرة”داعش”على الموصل مطلع حزيران الماضي تم اعتقال خمسة إعلاميين بينهم مقدمة برامج تلفزيونية، ولم يُعرف مصيرهم حتى اليوم.
الصحفيون جاءوا في أولويات حملة الاستيلاء على المنازل والممتلكات، والبداية كانت مع مدير مكتب قناة الشرقية جمال البدراني فقد استولى التنظيم على بيته، ثم شملت الحملة عشر صحفيين آخرين يقيمون اليوم بعيداً عن مرمى نيران المتطرفين.
وخشيّة تعرض ذويهم للأذى، يفضل معظم الصحفيين ممارسة العمل في الظل، فلا شك أن عيون”الخليفة”تلاحقهم وتستقصي عنهم.
نقابة الصحفيين في نينوى تسجل نحو” 250″شخصاً يعملون في قنوات فضائية ومحطات إذاعية وصحف ووكالات إخبارية، نصفهم تقريباً غادروا المدينة، أما من بقيّ هناك فهاجس الاعتقال وربما القتل يكاد لا يفارقهم.
كان الجميع يعتقد أن أبو ريتا وشقيقه تم اعتقالهما أيضاً، فالتقارير تحدثت عن”14″صحفياً مختطفاً، والحقيقة أن الاتصال الذي ورده ليلة المداهمات كان من أحد زملائه، وسأله حينها عن الطريق إلى بيته.
“علمتُ حينها إنه يتحدث إليّ تحت تهديد السلاح” يقول أو ريتا.
أما أخطر ما مرَّ به الشاب كان عند محاولته الفرار إلى دهوك ويقول”أقبلت على نقطة التفتيش الرئيسة والخوف بدأ يتملكني، فهناك يبحثون في حاسوب محمول عن أسماء مطلوبين، وكنت أتوقع إن اسمي على القائمة، لكن لحسن حظي كانوا منشغلين ولم يدققوا في الأسماء فنجوت”، يختم ابو ريتا الذي وصل إلى دهوك بمساعدة أحد أصدقائه الأكراد حديثه.
إعلاميون كثُر عجزوا عن دخول إقليم كردستان العراق، الملاذ الآمن للفارين من بطش الإرهاب، فبعد تمدد التنظيم في مناطق متاخمة للإقليم وفرض جهاز الأمن الكردي تشديدات على مداخله صارت بطاقة العمل الصحفي غير مجدية تماماً.
أحد هؤلاء خاض تجربة خاصة حينما خُطف من أمام بيته ونُقل بسيارة رباعية الدفع إلى موقع ليس بعيد، ولم ير شيئا إلا بعد رفع العصابة عن عينيه ليجد نفسه بين مجموعة رجال ملتحين.
“الرعب استحوذ عليّ وبالكاد كنت التقط أنفاسي، اعتقدت ساعتها إنني ميت لا محالة” قال الصحفي فيما بعد لأحد اصدقائه.
وتابع “هدأوا روعي ثم طلبوا مني العمل معهم في الترويج الاعلامي وقراءة بياناتهم، فأجبت بعدما اطمأننت على حياتي، دعوني أفكر”.
بعد ساعتين عاد إلى البيت واستقبلته عائلته بفرحة كبيرة ثم قرر الرحيل وحمل حقيبته صباح اليوم التالي قاصداً مدينة اربيل، لكنه مُنع من الدخول ولم تشفع له هويته الصحفية، كرر بعدها المحاولة ثلاث مرات وفشل أيضاً.
وحتى وقت قريب كان يعتقد بأنهم نسوه، وجازف بالسفر إلى بغداد ومن هناك طار إلى اسطنبول وإذا انتهت مشكلته الأمنية فهو ليس أفضل ممن سبقوه إلى هناك، يدور في دوامة البحث عن فرصة عمل.
التحركات الهادفة لمساعدة الصحفيين نابعة من جهود فردية لناشطين في إقليم كردستان وفي بغداد ، بينما رؤساء المؤسسات الإعلامية التي تلاشت في نينوى لم يسألوا عن موظفيهم أبداً، كما تكتفي منظمات”الدفاع”عن حقوق الصحفيين بإعداد التقارير عن الانتهاكات ضدهم.
المشكلة هي إن هناك محاذير جديّة ترد عند ذكر أسماء الإعلاميين العالقين، لأن إثبات صفاتهم عند داعش تهمة تستحق القتل، لكن وسائل الإعلام لا تنفك تذكّر بها، ويقول أبو ريتا”إنه أُعتقل وأُعدم كذا مرة، حسبما أفادت تقارير صحفية كاذبة”.
الصحفيون الذين تم الإفراج عنهم مروا على مدى عشرين يوماً بظروف صعبة للغاية وكانوا يخضعون لتحقيق يحاكي أساليب الأجهزة الأمنية، وبحسب من التقى بهم فانهم لم يتعرضوا للتعذيب وإن التحقيق كان يسعى لمعرفة أسماء من ينقل الأخبار والقصص إلى الوكالات.
آثار الحرب النفسية كانت واضحة على وجوه الناجين: “كل يوم كانوا يأخذون إثنين من القاعة ويتم إبلاغ الباقين بانهم مقتادون لتنفيذ الإعدام بحقهم”، هذا أبرز ما قالوه لأنهم على يبدو يخشون الحديث عن ما تعرضوا له، والمؤسف أنهم لم يستطيعوا طمأنة عائلتي زميليهما الذين لم يخلَ سبيلهما بعد.
وعندما حاول البعض مساعدة الناجين من الصحفيين على الخروج من الموصل، تبيّن إن الأوان قد فات لأنهم ممنوعين من السفر.