“فورين بوليسي”: “الدولة الإسلامية” ستشق طريقها لا محالة خلال سنوات دون الحاجة إلى “مارتن لوثر”
وطن- نشرت مجلة “فورين بوليسي” مقالاً يتضمن نبوءة بالغة الأهمية تشير الى أن “الدولة الإسلامية” ستشق طريقها لا محالة خلال السنوات وربما العقود المقبلة، ودون الحاجة إلى “مارتن لوثر إسلامي” يقوم بعملية “إصلاح ديني” كما حدث بالنسبة للمسيحيين.
ويستعرض كاتب المقال كيف أن البابوية في الفاتيكان على مدى 250 بابا مختلفاً، كان كل منهم يفهم نصوص الكتاب المقدس على طريقته الخاصة، على الرغم من عدم المساس بالنصوص المقدسة، وهو ما يمكن أن يحدث بالنسبة للمسلمين الذين لا يحتاجون من أجل إقامة دولتهم أن يغيروا النصوص المقدسة، وإنما عليهم أن يقرؤوها ويفهموها جيداً، حيث أإن السياسة والتاريخ هما اللذان يشكلان “الدولة الإسلامية”، ويؤديان إلى تطبيق مختلف للدين، مع بقاء العقيدة والنصوص الشرعية على حالهما دون تغيير.
وفيما يلي الترجمة الكاملة للمقال الذي يمكن أن يشكل بداية لحوار سياسي ديني مفتوح:
توقَّفوا عن انتظار «إصلاح ديني» للإسلام
بقلم: نيك دينفورث
صلَّى البابا «فرانسيس»، بابا الفاتيكان، الأسبوع الماضي لأجل ضحايا تنظيم «الدولة الإسلامية» في سوريا والعراق خلال خطابه السنوي في ذكرى عيد الميلاد. كانت صلواته لأجل الضحايا المسيحيين والمسلمين الذي سقطوا نتيجة عُنف «الجهاديين» ختامًا مناسبًا لواحدٍ من أبشع ما حدث في عام 2014. لكن كلماته أظهرت تناقضًا صارخًا بين تواضع الفاتيكان ووحشية «الخلافة» المُعلنة حديثًا.
لقد أدَّى هذا التناقض ببعض المراقبين (مثل بيل ماهر) إلى التصريح بأننا [في العالم الغربي] يجب أن نتخلَّى قليلاً عن قواعد التهذيب والعبارات الدبلوماسية، ونُقر بما هو واضح: الإسلام ما يزال عالقًا في العصور الوسطى. وحتى الذين كانوا يعتقدون أن هذا التفسير بدائي للغاية، كانوا عالقين في محاولة بائسة لتوضيح السبب الذي جعل الكثير من دول الغرب تصل إلى طريقة لفصل المؤسسة الدينية عن الدولة، في حين أن الدول الإسلامية، من السعودية حتى مصر وتركيا، ما تزال غير قادرة على ذلك.
يقول واحدٌ من أكثر التفسيرات شيوعًا إن العالم الإسلامي يحتاج إلى إصلاح ديني من الداخل، أي إلى «مارتن لوثر» [تعرَّف إليه من هنا] مسلم يأخذ بدين محمد إلى العصر الحديث. إنها حجةٌ ساقها الكثيرون من أمثال «توماس فرايدمان» لأكثر من عقدٍ من الزمان، وانضم في السنة الماضية فقط شخصان إلى القائمة القصيرة لـ «مارتن لوثر الإسلامي» المحتمل: فتح الله كولن من تركيا، وعبد الفتاح السيسي من مصر.
تقرير البنتاغون: تنظيم الدولة الإسلامية هُزم .. لكن ليس في سوريا والعراق!
ويبدو أن العديد من مُحللي الإسلام ومُنتقديه ما يزالون متمسكين بفكرة أنه لابد من وجود شخصٍ بإمكانه أن يزيل حيرة المسلمين بشأن العلاقة بين المؤسسة الدينية والدولة في بلادهم، ويساعد في انتقال الإسلام من الأصولية الشمولية، إلى دينٍ ليبرالي مستنير، سواءً كان هذا الشخص واعظًا تركيًا منعزلاً مثل فتح الله كولن، أو جنرالاً مصريًا مستبدًا مثل السيسي.
لكن، وقبل أن يبدأ المراقبون الأوروبيون في تطبيق دروس التاريخ الأوروبي على العالم الإسلامي، يجب علينا أن نفكّر بهدوء، ألم يكن الإصلاح الديني هجومًا على الكنيسة؟ ألم يكتب «مارتن لوثر» – الرجل الذي بدأ هذا الإصلاح – كتابًا عنوانه «ضد الباباوية الرومانية: مؤسسة الشيطان»؟ في الحقيقة، إن كل مرة يحاول فيها كاتب غربي أن يعثر على «مارتن لوثر» بين المسلمين فإنه يثير تساؤلاً لم يصل أحدٌ إلى إجابته بعد عن المجتمع الغربي ذاته: هل يعني وضعُ العالم المسيحي الآن انتصارًا للبروتستانتية على البابا؟ أم أنه تعبيرٌ عن الطبيعة العلمانية للديانة المسيحية في البروتستانتية والكاثوليكية على حد سواء؟
ليس السبب أيًا منهما. لقد نتجت الثقافتان السياسيتان المختلفتان بين الدول المسيحية والمسلمة عن تاريخ شديد التعقيد، تطوَّر في مسار ملتوٍ لا يقدم لنا إلا أقل القليل من الدروس المستفادة.
كان بديهيًا لغالبية البروتستانت الأمريكيين أن الفصل بين المؤسسة الدينية والدولة في معظم التاريخ الأميركي لم يكن ممكنًا إلا بفضل ترويض الإصلاح البروتستانتي لسلطات الفاتيكان في القرن الـ 16. كان الغالبية يرون الكاثوليكية باعتبارها دينًا ينتمي إلى العصور الوسطى، ويتعارض مع التقاليد العلمانية المستقرة في إنجلترا وأميركا.
لم يكُن العداء الأمريكي تجاه الكنيسة الكاثوليكية بلا مبرر. لم تكن الفاتيكان تُمثل بأي حالٍ وجهًا معاصرًا للدين في ذلك الوقت، أعلن قادة الكنيسة معارضتهم للقواعد الأساسية للديمقراطية مثل الاقتراع، وأصدر البابا «بيوس التاسع» منشورًا في عام 1864م يدين الليبرالية، وحرية العقيدة، والتقدمية.
لكن معظم المسيحيين البروتستانت الآن سيتفقون على أن البابا «فرانسيس» يبدو شخصًا لطيفًا، ولا يُمثل تهديدًا للديمقراطية بأي حال، إن البابا -هذا البابا بالتحديد- يدعم التقدم، بل حتى يدعم نظرية التطور الآن، فماذا حدث؟
كان الأمر الوحيد الذي اتفق عليها قادة الكنيسة ونظراؤهم من الملوك عبر أغلب تاريخ أوروبا، هو أن الكنيسة والدولة يجب أن يكونا كيانًا واحدًا، كان اختلافهم فقط على من يجب أن يملك زمام القيادة، فكان الأمر الوحيد الذي أبقى الكنيسة والدولة منفصلتين هو صراع القوة بين المعسكرين: قادة الكنيسة والملوك.
وحين فقدت الإمبراطورية الرومانية سيطرتها على أوروبا خلال الألفية الأولى، حافظ البابا على سيطرته على الكنيسة (وممتلكاتها الضخمة) عبر امتداد الإمبراطورية الرومانية. لكن سلطة البابا الدنيوية وليس الدينية، كانت تدفعه إلى الصدام مع ملوك أوروبا حين كان هؤلاء الملوك يحاولون الاستيلاء على أراضي الكنيسة، أو يشرفون على تعيين الأساقفة، هذا الصراع هو ما دفع بعضًا من قادة أوروبا الأقوياء إلى الوقوف ضد البابا بشأن مُعضلة اختيار الملوك والباباوات: من يجب أن يُعيِّن من؟ كان كلٌ منهما يرغب في لعب دور «الخليفة»، ويجمع السلطتين: الروحية والدنيوية، لكن وبرغم أن كلا الطرفين كانا يعتمدان على بعضهما البعض لاكتساب الشرعية، فإن واحدًا لم يستطع السيطرة على الآخر لقرون طويلة.
أعطى الإصلاح البروتستانتي أخيرًا ملوك أوروبا مثل «هنري الثامن» تبريرًا دينيًا للجمع بين الكنيسة والدولة تحت سلطة واحدة، بدلاً من سلطة الفاتيكان، لقد دعم البروتستانت فصل الكنيسة عن الدولة، فقط إذا كانت هذه الكنيسة هي الكنيسة الكاثوليكية، وحرَّر «هنري الثامن» نفسه من سيطرة بابا الفاتيكان.
لكن لا يبدو أن أحدًا في المجتمعات الإسلامية يطالب بظهور «هنري الثامن الإسلامي»، لا يسعنا التهرب من حقيقة أن «هنري» حوَّل إنجلترا إلى مملكة ثيوقراطية، أعلن الملك نفسه أرفع سلطة سياسية ودينية في إنجلترا بذات الطريقة التي قد يتصوَّرها المسلمون لدور الخليفة.
جاء توحيد الكنيسة والدولة تحت الملوك البروتستانت داعمًا للعلمانية الحديثة؛ لأن الحكام الجُدد كانوا جادين بشأن سلطاتهم السياسية الجديدة، لا سلطاتهم الدينية، لقد أرادوا لبلادهم أن تكون أكثر ثراءً وقوة، وفي ظل ما يتمتعون به من سلطات دينية، كان بإمكانهم لوي عنق النصوص الدينية لتحقيق أغراضهم الدنيوية. وبينما أصبحت الدول الأوروبية أكثر ثراءً واستقرارًا وقوة عبر القرون المتعاقبة، أصبحت الثقافة السياسية الخاصة بهم أكثر ليبرالية وديمقراطية، وأصبح وضع الدين مستقرًا في يد الملوك البروتستانت، تم تحجيم سلطات الملكة «إليزابيث» عن طريق البرلمان والقانون العام في إنجلترا، ولن تعُد تستطيع استخدام سلطاتها في قرارات مثل دعم استعباد أسرى الحرب، على سبيل المثال، كما فعل تنظيم «الدولة الإسلامية»، باختصار، لم تكُن بأي حالٍ مثل «الخليفة» الذي يريده تنظيم «الدولة الإسلامية».
لكن تطوُّر العلاقة بين الكنيسة والدولة كان مختلفًا في الدول التي حافظت على الكاثوليكية، مثل فرنسا وإيطاليا، وبدلاً من أن يصبحوا قادة لكنائس جديدة، سعى قادة الثورة مثل «روبسبير» في فرنسا و«غاريبالدي» في إيطاليا إلى إلغاء المؤسسات الكاثوليكية بالكامل.
صادرت الثورة الفرنسية، على سبيل المثال، أراضي الكنيسة، وحظرت الأوامر الرهبانية، وأجبرت الأساقفة على حلف يمين الولاء للدستور المدني، (بالطبع لم يخلُ هذا من قطع للرؤوس)، شعر البابا وخُلصاؤه، بالطبع بالهلع، أمضت الفاتيكان أغلب فترات القرن الـ 19 على هامش الحياة السياسية، ورفضت التعاون مع الأنظمة العلمانية في أوروبا.
في بداية القرن الثامن عشر، خضعت الكنيسة الكاثوليكية للوضع الجديد الذي تلعبه الدولة، ولبعض من جوانب أيدولوجيتها الليبرالية، نظير استمرارها في مكانة مُعتبرة، وجاء اتفاق الفاتيكان مع الدولة الإيطالية في عام 1929م، ليمنح المتدينين حق التصويت في الانتخابات المدنية، دون خوف من الملاحقة بطريقة ما، مكَّنت هذه التنازلات الكنيسة والدولة من أن يجدا حلاً وسطًا لخلافاتهم، وفي أثناء ذلك، وضعت الحكومة في فرنسا وإيطاليا قواعد الوضع الأوروبي الحالي، وأعطت الفاتيكان الحق في استعادة بعض من نفوذها ومملكاتها السابقة.
يُذكّرنا تطور تاريخ العلمانية في الدول البروتستانتية والكاثوليكية بأن السياسة والظرف التاريخي يُشكّلان الدين وتطبيقه في المجتمع أكثر من أي فقه ديني نظري، تستطيع هذه العوامل إحداث تغيير جذري في أيَّة عقيدة، حتى إذا بقي النص المقدس على حاله لم يُمس، إن ادّعاء أن المسيحية تحمل في جذورها قواعد علمانية أو إنسانية لا يصمد طويلاً أمام تاريخ 250 من الباباوات قرأوا الإنجيل ذاته، وخرجوا باستنتاجات مختلفة عن دور الكنيسة في المجتمع.
لكن، إذا كان فصل المؤسسة الدينية عن الدولة أمرًا سياسيًا لا فقهيًا، فيجب علينا أن نطرح سؤالاً مُلحًّا: أي النماذج السابقة في تاريخ الدول الغربية يصلح للعالم الإسلامي؟ هل حقًا التجربة الفرنسية في تحديد العلاقة بين المؤسسة الدينية والدولة هي ما يحتاجه المسلمون، وليس التجربة الإنجليزية في عهد «هنري الثامن»؟
لا يبدو هذا احتمالاً راجحًا، الجواب الحقيقي هو أنه ليس ثمَّة طريق واحد واضح ومثبت تاريخي للعلمانية الحديثة، لنستعرض مثالاً واحدًا فحسب: لقد كانت الثورة الفرنسية وطريقة معالجتها لدور الكنيسة في الدولة النموذج الذي اعتمد عليه واحد من أشهر العلمانيين في العالم الإسلامي: مصطفى كمال أتاتورك في تركيا.
رأى «أتاتورك» أن المؤسسة الدينية الإسلامية هي العدو الذي يجب القضاء عليه، مثلما رأى الثوَّار في فرنسا الفاتيكان عدوةً لثورتهم، صادر «أتاتورك» ممتلكات المؤسسات الدينية وحظر الفتاوى الدينية، كما فرض رؤية معادية للكاثوليكية في تدريس تاريخ أوروبا، استلهامًا من الأفكار العلمانية للثورة الفرنسية والبروتستانتية الأمريكية، لدرجة أن الكثير من الشباب التركي – حتى اليوم – يعتقدون أن البروتستانت هم المسيحيون العصريون، وأن الكاثوليك هم المسيحيون الرجعيون.
لكن من يتابع الأخبار القادمة من تركيا خلال العقد الماضي تقريبًا يعلم جيدًا أن سياسة «أتاتورك» العلمانية لم تنجح تمامًا؛ لقد ظلَّت السياسة التركية منقسمة بشكل حادٍ بين الذين يعتقدون أن بلادهم أصبحت علمانية أكثر من اللازم، وبين الذين لا يتوقَّفون عن الشكوى من أنها ليست علمانية بما يكفي.
لذا فإن لم يستطع «أتاتورك» نفسه أن يفعلها، فهل يبقى لدينا أيُّ أملٍ في التوصل إلى إجماعٍ بشأن دورٍ للدين في الحياة العامة يكفي لإقامة ديمقراطية ليبرالية في الدول ذات الأغلبية المسلمة؟ أو حتى يكفي لتخفيف حدة العنف الذي شهدناه في عام 2014؟
إذا كنا ننظر إلى عام 2015 الجديد بعين التفاؤل، يمكننا استخلاص درسٍ واحدٍ من قرون طويلة من الصراع بين الكنيسة والدولة في أوروبا: إن الدول الإسلامية ستشق طريقها مثلما فعلت الفاتيكان، حتى دون اتباع نموذج معين، ودون «مارتن لوثر إسلامي» يقود الإصلاح الديني.