“كالعهن المنفوش”:بشر ومطر .. يتساقطون

وطن- لم أتخيل “العهن المنفوش” الذي وصف الله الجبال به يوم القيامة في قوله عز من قائل:”ويوم تكون الجبال كالعهن المنفوش” إلا لما رأيتُ الأمر على حقيققته مرتين صباح الأمس..
(1)
انتهى المطر الثلجي ولم أكن قد شهدتُه من قبل، تذكرت الدعاء بالخير، وفرح الصغار إلى جواري، وهرولتُ في رحلة إلى العمل، فرأيت نتفاً ليست من ثلج تعلق بالملابس والوجه، تُقبلُ بالعشرات، وتنتهي فوراً لينمو غيرها، فيها من المطر قليل جداً، ولكأنها ظله، او قل انعكاسه، من أتربة وما شابه، فحتى الأمطار لها وجه آخر يغمر الكون بعد انتهائها، وسبحان من جعل الأمطار ثلجاً يابساً نقيًا ..وجعل منها شيئاً كالعهن يتطاير بعدها لما يذوي بمجرد لمسه لشىء من البشر..
(2)
كنتُ اتسآءل، على الدوام، عن المسافة بين ما نكتبه والبشرية فينا، فنيّات الكتابة التي لا تسمن ولا تغني من جوع في عالم اليوم، والبعض ممن يحُسن أكلها “والعة”، كُتّاب يتطوحون طوال الوقت كالمهرجين فوق الأرض، مدعين التعبير عن الإنسان، وهم لا يفتأون يحسنون أماكن نومهم، وموائد شربهم من دماء الآخرين، ونفايات بطونهم وفروجهم، أعز الله القارىء الكريم، هؤلاء يتناسلون، ويتناسخون كما الجراد أحياناً، تعرفهم في كل مقلب يتلاقون، في هيئة قصور ال….، وبين اردية اتحاد الكُتّاب في مصر والوطن العربي، مخطىء من يظنهم يتلامسون عندنا فقط، بل إنهم في دول تشرب النفط أكثر مللاً وأشد نفاقاً، رأيتهم يأكلون بذميم لعق أحذية الشيوخ من الحكام، ويلبسون “كنادير” او جلالبيب برفعهم لمصاف الأنبياء، ورأيتُ من بني جلدتنا من يلمعون أقفية أحذيتهم، فيما الأحذية عنهم في شغل، وعاصرتُ قضايا مصيرية يتناوب هؤلاء حملها في أرفف السيارات .. فيما المستندات عامرة بالأرقام والأضواء لاذعة..
من مدينة المنيا المنسية والخطو لحي أرض سلطان حيث المكلف باحتواء مبدعيّ الصعيد، وكنتُ شديد السذاجة بحيث ظننتُه يقصد التقرب إلى الحقيقة بعرض مثلي على الرأي العام، فيما كان مكلفاً من قصور الثقافة وما فوق بابتلاع شباب صغير يحاول نهضة ادبية في نادي أدب ببني مزار، إحدى مدن المنيا المنسية، لم أكن قد تعلمت من رؤية أول ما نشرت في حياتي بقسم الشرطة، لما احتجزتُ على إثر نسيان مقال في مستشفى للتأمين بالدقي، ولما كنا في عالم لا تقارب المسافة فيه بين الأديب واطبيب اي حدود فقد أبلغ الأخير عن الأول لمقال وقعه باسمه وصارت مشكلة..
ومازلتُ بعد ربع قرن من هذه “الحادثة” الخطيرة أتحسس الساذج الغض بداخلي .. كلما رأيتُ من يمعنون الجري خلف الحاكم من المنتمين لمهنة أصحاب القلم .. ألا رحمنا الله ..
(3)
قال لي:
ـ إن من البشر من هم أجهل من دابة؟!
كان يقصد من لا يستطيعون التكسب من عرق جبينهم، وأذهلتني الجملة، الرجل عرّفني عليه صديق عن آخر بمقال عن ظلم “فاجر” نتيجة منع السادة في الجهاز إياه الذي عاد بعد إخفاء مستتر فترة ما بعد الثورة، كما عاد من آسف آلاف المدعين الثورية إلى لعق أردية العسكر على أكثر تعبير نقاءً..
وكان من نتيجة المقال عشرات ومئات المقالات في موقعين أثراهما بليبرالية احترافية بكلمات تخصني وتخص العشرات وانتقلنا معه من مكان لآخر نبتغي وجه الحقيقة ومن قبل الله .. ولا زاد لنا على الدرب إلاهما..
(4)
يوم جمعة الغضب، كلاكيت ثاني مرة لكن دون رضا الجيش، ألتقيته بأسرة صغيرة زادته ألقاً وكبراً في عيني، ابن شاب جميل المحيا، يبدو نقاء السريرة على وجهه الغض، وزوجة وابنة تمسك بأطراف ردائها، وسعدتُ بالأسرة أيما سعادة، قبلها بساعات كان قد قال لي:
ـ إن الجنرالات إذا ما جأوا للحكم لا يذهبون بسهولة!
وفرحت بإنه يحاول مثلي إزالة السهولة هذه!
حدثته بعدها عن إصابة زوجي في نفس اليوم ولطف الله بنا .. فنسي ..
(5)
كانت لقمة العيش تتأرجح في مصر وأشعر ان باباً آخر يُفتح في عالم الغيب لما ألتقيته.. فبادرني بعتب شديد:
ـ لماذا لم تعد تكتب مقالك الأسبوعي في الموقع؟ّ
قرأت في عينيه إنه يظنه المال.. قلت له ما لدي عن تغضن الصدق في جوف زملاء ورؤساء أكلوا على موائد الإخوان ثم يرمون بالنواقص غيرهم.. ومضيت اكتب كما اعتدت لديه..
ومنذ أسابيع أبعد مقالاتي إلى الداخل من الموقع.. قلت له:
ـ ما السبب؟
ـ قال إنك بعيد .. والضرب هنا في المليان!
ـ كنتُ قريباً .. ولم اقصر .. ودفعت الضريبة بحمد الله ..
فصمت ولكنه اليوم آذنني ببيّن وبعاد طويل لما قال:
ـ عندي مشكلة في النشر لك كما كان!
وساق ما ساق من مبررات..
(6)
إن نحيت قلمك يوم اللقاء .. وتبارت الفرسان وألتحمت وكنتُ بمأمن من السهام .. فلقد فررتَ يوم الزحف ..
نحى الصديق الليبرالي صديقي الذي عرّفني، على البعاد المكاني، به، مع اللقاء القلبي، نحاه عن الموقع كله بضغط من “الأمن” وبعد حين نحاني ..
“وتكون الجبال كالعهن المنفوش”..

مذهب يستمد حياته من الغباء والعناد

قد يهمك أيضاً

تعليقات

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

تابعنا

الأحدث