العودة حق مقدس بقلم: محمود كعوش

By Published On: 13 مايو، 2015

شارك الموضوع:

العودة حق مقدس

محمود كعوش

يرى المهتمون بالشأن القومي العربي أن المقاربة النهضوية التقليدية للواقع العربــــي ما بين \\\”معنى النكبة – 1948\\\” و\\\”معنى النكبة مجدداً- 1967\\\” في كتابي الدكتور قسطنطين زريق لم تتغير، وأنها بقيت تدلل على أن الخطاب النهضوي العربي لم يستطع أن يقوم بمراجعة جذرية لأساسياته وأولياته الفكرية بين هزيمتين. ووفق ما نقل الأستاذ محمد سامي كيال فإن الإنجاز الأبرز لهذا الخطاب تمثل في محاولته توحيد إشكالية \\\”النكبة\\\” مع إشكالية \\\”النهضة\\\” بوصفهما تحدياً واحداً يواجه المجتمع العربي، وإن التلقي والتطبيق المشوه لطروحات ذلك الخطاب في السياق التاريخي العربي المعاصر لم يدفع صائغيه إلى توجيه أسئلة أكثر عمقاً لجذر خطابهم بالذات.

ولدى البحث عن الأسباب الذاتية للنكبة، رد الدكتور قسطنطين زريق وأقرانه من تقليديي الفكر النهضوي تلك الأسباب للتخلف الطاغي على الوضع العربي، ورأوا أن حالة الانتكاس المعنوي التي تعيشها الجماهير العربية ستبقى قائمة ما دامت الأقطار العربية بعيدة عن قيم التقدم والحداثة، ثم خلصوا إلى طرح قائمة طويلة من التوصيات للنهوض بالأمة وتحديثها، دون تقديم معالجة نقدية مكثفة للبنى السلطوية والاجتماعية والاقتصادية العربية في سياقها التاريخي \\\”النكبوي\\\” إن صح التعبير.

جاء كتاب \\\”معنى النكبة\\\” في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي ليكون الطرح الأكثر تماسكاً ضمن ذلك المنظور، وليشكل خطوة فكرية كبيرة إلى الأمام رغم كل ما قد تقدمه قراءتنا المعاصرة من انتقادات بخصوصه. وبعد نكسة الخامس من حزيران 1967 انطلقت موجة جديدة من النقد الذاتي طالت العديد من مظاهر وتجليات الوضع العربي، وحاولت مساءلة البنى العربية المترسخة حول دورها في إنتاج وإعادة إنتاج النكبة، إلا أن تلك الموجة رغم كل عنفها وصخبها لم تستطع أن تتجاوز طروحات النهضويين العرب الأوائل بشكل جذري، فكانت تنويعاً حاد النبرة على النغمة نفسها، ولهذا لم يكن من المستغرب أن يقوم الدكتور قسطنطين زريق بإعادة صياغة طروحاته القديمة في كتاب جديد بعنوان \\\”معنى النكبة مجدداً\\\”، لم يقدم فيه أكثر من صياغة جديدة للأفكار نفسها بعد توسيعها وتطوير لغتها بما يتناسب مع لغة الستينيات من القرن الماضي.

ما زال الطرح النهضوي العربي التقليدي حول \\\”معنى النكبة\\\” حتى يومنا هذا من أكثر الطروحات عقلانية وتماسكاً، رغم أنه لم يثمر على أرض الواقع إلا أكثر النتائج تخييباً للآمال، وأكثر التطبيقات تشوهاً، فهل مازال بإمكاننا البناء عليه في تعاملنا مع \\\”النكبة\\\” كواقع ومفهوم؟ ولماذا لم نستطع أن نقدم حتى الآن طرحاً يتجاوزه نقدياً، ويوجه أسئلة أكثر تجذراً للبنى والمفاهيم التي خلقت واقع النكبة؟

إن مجرد مراجعة خاطفة للأحداث التاريخية المفجعة التي عصفت بالوطن العربي خلال العقود الستة الأخيرة يدلل على أن الأمة العربية من المحيط إلى الخليج قد مُنيت بمسلسل طويل ومتواصل الحلقات من النكبات والنكسات والهزائم والكوارث والمحن، وكأنه كان مقدراً لهذه الأمة التي كانت خير أمة اخرجت للناس أن تظل رفيقاً ملازماً للنحس ونذير الشؤوم، وأن تنتقل من نكبة إلى نكسة فهزيمة فكارثة فمحنة. وإن مزيداً من الاستذكار بحيث نشمل الأحداث الكبيرة التي شهدها العالم على مدار التاريخ، يجعلنا ندرك أن كثيراً من أمم الأرض تعرضت هي الأخرى في أوقات استثنائية ومتباعدة إلى نكبات ونكسات وهزائم وكوارث ومحن مماثلة، أو ربما أشد وطأة وأكثر إيلاماً في أحيان عديدة. لكن المفارقة العجيبة أنه في حين تغلبت تلك الأمم على جميع تأثيرات ونتائج وتداعيات نكباتها ونكساتها وهزائمها وكوارثها ومحنها ونجحت في استعادة زمام المبادرة من خلال إيقاظ أحاسيسها ومشاعرها الوطنية وأحياناً الدينية ومن خلال شحذ وتنشيط قدراتها وإمكاناتها والنهوض بها مجدداً وأجراء مراجعات شاملة لمكامن ضعفها وقوتها، فإننا شهدنا شيئاً مغايراً ومعاكساً تماماً في الأمة العربية.

فالأمة العربية التي عُرفت بعظمة تاريخها وحضارتها وثقافتها ومكانتها الدينية والدنيوية وموقعها الاستراتيجي وثرواتها الهائلة، بدل أن تستوعب الدرس وتستلهم العبر من تلك الأمم وتتمثل بها وبما فعلت وتحذو حذوها في إصلاح أوضاعها وأوضاع أبنائها طلباً للنجاة، رأيناها وللأسف تألف الاستكانة والهوان وتحتفظ لنفسها بالضعف والوهن وتستسلم لمقاديرها، وكأن النكبات والنكسات والهزائم والكوارث والمحن استوطنت في داخلها وأصبحت جزءاً مكملاً وضرورياً لكيانها ونسيجها الحياتي، وبالأخص في القرن الماضي والعقد الأول من القرن الجاري.

لا يختلف وطنيان عربيان حول حقيقة أن نكبة العام 1948 في فلسطين العروبة والرباط والعزة والكرامة والمجد والإباء والتي يُحيي القوميون والوطنيون العرب ذكراها السابعة والستين هذه الأيام بكثير من الحزن والأسى المتقاطعين مع التفاؤل والأمل، كانت ولم تزل هي النكبة الكبرى وأم النكبات والنكسات والهزائم والكوارث والمحن التي تعرض لها الوطن العربي على مدار تاريخه القديم والحديث. ولا أعتقد أن ثمة خلاف حول حقيقة أنه لو أحسنت الأمة العربية التعامل مع الظروف الموضوعية والإيجابية والفرص الذهبية التي توفرت لها في أوقات كثيرة سابقة، لقدر لها، بالاعتماد على القانون الدولي والأعراف والعقل والمنطق والانتماءين الوطني والقومي، أن تحول هذه النكبة إلى \\\”مرجل\\\” يحرك فيها مواضع القوة والإمكانات والمدارك، وإلى \\\”مِهماز\\\” يشحذ فيها الإرادة ويُحفز في نفوس أبنائها النخوة والعزة والكرامة، لتعد العدة اللازمة والضرورية وتستأنف من جديد معركتها الفاصلة مع العدو المغتصب للأرض والمتمادي في عدوانه، والتي بموجبها، وبموجبها وحدها فقط، تستعيد الحق الذي طال انتظاره كثيراً.

لكن من سوء طالع الأمة العربية أنها من حيث درت أو أريد لها أن لا تدري قسراً لا طواعية، غلّبت النزعات القُطرية الخاصة على التوجهات القومية العامة وحصرت نفسها في قوقعة النهج الشمولي وزجت بنفسها مجبرة لا مختارة في آتون الخصومات والنزاعات الحزبية والعقائدية والطائفية والمذهبية والعرقية والقبلية، فأسقطت نفسها في متاهات ومخاطر الانقسام والتجزئة والتفتت. وهي بذلك قدمت للكيان الصهيوني الفرصة التي لم يحلم بها في وقت من الأوقات، فجاء عدوانه الإجرامي في الخامس من حزيران العام 1967 والذي تمكن بموجب نتائجه المأساوية من توسيع رقعة احتلاله لتشمل ما تبقى من أرض فلسطين التاريخية وأراض عربية أخرى من مصر وسوريا وخليج العقبة الأردني وحتى الخليج العربي. وبنتيجة ذلك العدوان وقع المحظور من جديد واتسعت رقعة النكبة لتشمل جزءاً من المصريين والسوريين والأردنيين والخليجيين، إلى جانب كل الفلسطينيين.  وفي محاولة منه للتقليل من وطأة الهزيمة التي مُنيت بها الأمة نتيجة ذلك العدوان والتأثيرات والنتائج والتداعيات التي كان من الممكن أن تترتب عليها لو أن العرب غلبوا روح الهزيمة على الرغبة في النصر واستسلموا لليأس والقنوط، اختار لها القائد العربي التاريخي الراحل جمال عبد الناصر تسمية \\\”النكسة\\\”. لكن الحق يُقال أن الأمة العربية من محيطها إلى خليجها لم تتعظ من أحداث التاريخ ولم تستخلص الدروس والعبر كما يجب. فهي بدل أن تعيد النظر في نهجها الشمولي وسياساتها المحنطة وتستجيب لمتطلبات المصلحة الوطنية والقومية المشتركة، تمسكت بذلك النهج المتهالك وتلك السياسات الفاشلة ومضت في ثرثراتها المعهودة، مما زاد من طمع الكيان الصهيوني بها وأجج غريزته العدوانية فقام بغزو واحتلال جنوب لبنان في العام 1978 بذريعة إبعاد المقاومة الفلسطينية عن حدود فلسطين المحتلة الشمالية، ثم عاد وغزا لبنان مجدداً في العام 1982 وصولا إلى عاصمته بيروت التي استبسل أهلها في الدفاع عنها وظلوا يقاومون وحدهم وبدون نجدة \\\”المعتصم\\\” إلى أن كان لهم ما أرادوا فتمكنوا بواسطة المقاومة اللبنانية الباسلة من دحر الاحتلال الغاشم بشكل نهائي في العام 2000، مما أفشل جميع أهدافه السياسية المعلنة وغير المعلنة.

ومن هناك انبثقت آمال أنبأت بقرب حدوث نهوض عربي جديد لم تمكنه إدارة المحافظين الجدد السابقة في واشنطن من بلورة نفسه واستكمال دورة نموه بعدما فاجأت الأمة العربية في العام 2003 بضربة قاسية ومؤلمة تمثلت بغزو واحتلال العراق والسعي الحثيث لتفتيته وتقسيمه وتهجينه في سياق تهجين عربي شامل، ظناً منها أنها بذلك ستتمكن من كتابة نهاية الأمة. لكن خاب فأل تلك الإدارة الحمقاء عندما هيأت لها عنجهيتها الزائدة أنها ستكون قادرة على فرض شرق أوسط جديد يحظى بديمقراطية \\\”الفوضى الأميركية الهدامة\\\” ويكون الكيان الصهيوني العنصري محوره الرئيسي، على حساب إلغاء الوطن العربي وجامعته العربية وكل ما تبقى للعرب الأصيلين من مظاهر تبعث على الأمل باحتمال تحقيق وحدتهم أو اتحادهم أو حتى تضامنهم أو ترمز إليهم. فالآمال ما لبثت أن انبثقت من جديد من رحم المعاناة العربية عندما نجحت المقاومة اللبنانية في إنزال هزيمة نكراء بالكيان الصهيوني في العام 2006، وهو ما اعترف به بيان لجنة \\\”فينوغراد\\\” الصهيونية وتصريحات المسؤولين الصهاينة في تل أبيب، لتضاف تلك الآمال إلى آمال عربية كثيرة وعريضة سبق أن انبثقت وتبلورت في كل من فلسطين والعراق تجسدت بتصدي المقاومة في البلدين للمشروع الاستعماري والاستيطاني الأميركي – الصهيوني المشترك. وتضاعفت تلك الأمال مع فشل هذا الكيان الغاصب في حربه الإجرامية التي شنها ضد قطاع غزة الفلسطيني، إلا أنها عادت وأُحبطت مجدداً مع هبوب ما سمي ب \\\”الربيع العربي\\\” الذي لم يزل يعصف بعدد من البلدان العربية منذ ما يقارب الخمس سنوات !!

صحيح أن نكبة العام 1948 في فلسطين فرخت نكبات ونكسات وهزائم وكوارث ومحن على امتداد العقود الستة الأخيرة، ربما كان آخرها وأشدها وجعاً ومرارة جريمة اقتتال اخوة الوطن واللغة والمبادئ والسلاح والمصير المشترك التي كان قطاع غزة الفلسطيني ميداناً دموياً لها والتي أدت بأسبابها ونتائجها وأهدافها إلى تباعد كبير وعميق بين القطاع والضفة الغربية بما فيها مدينة القدس المباركة وتباعد أكبر وأعمق بين أبنائهما من الجِلدة الواحدة. لكن الصحيح أيضاً هو أننا وإن كنا نستقبل الذكرى السابعة والستين للنكبة العربية الكبرى هذا العام في ظل تواصل عواصف \\\”الربيع العربي\\\” الملعون، إلا أننا لن نسقط الأمل أبداً، لمعرفتنا الصادقة والواثقة بأن النكبة التي حلت بفلسطين عام 1948 ستظل فعلاً حاضراً في وجدان الأمة وستظل العودة حقاً مقدساً بالنسبة لجميع الفلسطينيين إلى أن تحين ساعة الانتصار والتحرير وإعلان الاستقلال الوطني وتأكيد الانتماء القومي.

نعم إن العودة إلى فلسطين هي حق مقدس ولا تنازل عن هذا الحق أو تفريط به مهما تبدلت وتغيرت الظروف، ومهما طال زمن الاغتصاب. فلا يحسبن أحد في الكون أن حق العودة سيغدو في يوم من الأيام ضميراً غائباً. وستبقى آمالنا بالعودة عريضة ومتواصلة لثقتنا بأمتنا وبأنفسنا، ولقناعتنا بأنه لن يضيع حق وراءه مطالب مقاوم يرفض الاستسلام ويعشق الموت في سبيل حرية بلده!!

محمود كعوش

كاتب وباحث فلسطيني مقيم بالدنمارك

مايو/أيار 2015

 

شارك هذا الموضوع

Leave A Comment