غيمة ثورية

وطن-  تقول الأسطورة القديمة إن محباً افتقد الوطن والأمان، النيل والبحار، العمق والكيف، البر والصحارى، الأنس والكُره، الليل والعمران، السير والتيه، الألق والإيمان، الثورة والإذعان، الحكم والانحلال.. ولما كان الفارس “المغوار” بلا جواد فقد اعتاد أن يحارب “مترجلاً”.. لكنه لا يرحم مبارزاً سواء أكان “الخصم” ممتطياً جواده.. أو سابحاً في عمق الفضاء، وكم انتابه ألق الجراح، وكم عمي عن عينيه لفرط الألم تنفس الصباح؟!.. وتاقت الرياح إلى أن يأخذ فترة وهدة ولو قليلة..

من مدينة جنوبية في اليمن احترف الترحال فما توقف لدى الهند .. ولا حدتْ آماله السند أو تركيا .. وفي كوالامبور أدرك،  تماماً، كونه أخطأ في عناوين الأيام، ولإن الطريق لم يدل خطوه عليه، ولم يقوده يوماً إليه.. فقد توقف في طهران، واليمن، وبغداد، وأفغانستان متسآلاً عن إمكانية نيله المحال بيديه .. أو “تطويقه القمر” بين هدبيه” بدلاً من العينين!

لإنه، أيا سيدتي، واسمحي لي .. أن أروي لك عنه، وأن يأخذ من بعض عمرك شيئاً من “التطواف” في آفاق نفس بشرية، ربما لم تعهدي ومرة أخرى لن تلتقي، ولإنه المأزوم أبداً .. المحارب دوماً، فقد خلع “سترة النجاة” من فوق أقمصة الموت الضيقة لحظات بقربك.. قال لك إن الفارس الأخير الذي بارزه “صاحبي” مال بجذعه عليه، واستكانت روحه الشريرة لديه مُصرّة على “قبض حشاشته” .. ولكن صاحبي الفارس غير المغوار .. أراد أن يكون بالغ الشجاعة فقرأ عليه “صورة عينيك”.. بل أراهما له في إلتماعة شغاف قلبه المنتظرة لحد السيف.. أو لون الرصاصة .. فألتاع القاتل .. متوقفاً عن “سيناريو الجرم” قبل أن يبدأ ..

حول غسان كنفاني

كنتِ إليه، وما زلتِ، غيمة ثورية، من ظل المطر أراد الارتياح لديك، كنتِ لديه نكهة الانهمار على أرض بكر نديّة ما تتشبع ولاتتئد، آتاك وكل المساءات تحولت داخله إلى ركام، وكل صباح يناديك أن تجيدي طرق هذه الأبواب ..فخلفها مدن ملتاعة تشتاق آفاق الفرحة وامتصاص زلزال فاسد الأنظمة..مدن تخرج من فراغ الفساد إلى الوجود .. تحاول استنشاق الهواء ..

الرائحة الأولى للتراب الذي تخلفه أقدام المتعجلين للقاء التمرد على الظلمة، النظام المفتقد في أماكن الحشود المائلة للميدان.. اكتمال النظام السائر نحو الثورة.. مؤقتاً من آسف، بتمام التدفق .. الخُطى البشرية الصامدة نحو القصر الجمهوري.. تمتات الشهداء ب”لا إله إلا الله” في اللحظات الاخيرة بعد أن هل الرصاص إلى صدورهم متدفقاً بالحياة، رائحة الغاز والخرطوش المسال، لهف أم على صبيها ووحيدها إذ تتخطفه يد القساة ..تلك آمال الشعوب لحظة التوحد والتوحش تنساح إليك.. تُقبلُ أطراف ثوبك .. ترفض أن تتولي بعدما أقبل عاجل الأحلام إليهم ..

كنتِ غيمة ثورية في واقع شديد الاضمحلال، غني بأنفاس الطغاة، كنتِ نظرة طفل يتيم حالمة تبحث عن وطن في صدر، كنتِ لفتة محروم من الضياء لما تُوصفُ له عوالم الألوان، كنتِ نداء سكّير مدمن بالتوبة لما أذن الفجر للصلاة أن”حي على الفلاح” ، كنتِ عصاة تائه يحاول تلمس مكان للفراغ وسط الزحام لا عنوان بيت، كنتِ صورة للمعاندة في دماء مسجون يبحث عن لحظة انعتاق من أسر زنزانة، كنتِ آهة كم أطلقها مُصابٌ ولم تخفف من آلامه حتى جئت فجعلتها شعاراً وعنواناً لانتهاء المحنة..

غيمتك الثورية أحيّت من العدم نفوساً أصبحت بك مزدهرة. . وأقماراً كانت قد عرفتْ الطريق إلى الأفول.. وأقداراً مضت طويلاً إلى الغياب .. لكن جل المشكلة إن الغيمة، أيا سيدة البهجة، لم تكن مثقلة .. تمطتْ معلنة العصيان على المطر لا الحكام .. وإن الجميع اشتهى فيك مآلاً لم يتحقق في إحدى دول ما يُسمى الربيع العربي .. وما تحقق أقل من حجم الخيبة في دولة الياسمين مفتتح الربيع الأولى ..

فإذا جاءت شعوب إلى أبوابك .. مطيّلة التلفتْ في “غرفة” أنت فيها.. فرأيتِ فيها رونقاً للاستقرار ..فإنما خدعتكِ عيونك.. وإنما كلاكما كان ينتظر غيمة ثورية مضت في طريقها فما تأخرتْ ولا حققت موعداً!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى