مع قرب مضي العمر ..علمتني الحياة!
والعام الأول بعد منتصف العقد الخامس من العمر يتوغل في المضي بي في ظل بقية قليلة من رحلة الحياة، مع استقبال العام الخامس والأربعين واستمرار أيام منه وليالي تتسرب من بين يدي، إذ تسقط من شجرة الخريف التي تمثلني، يوماً بعد يوم، ورقة بعد أخرى، كانت بالغة الإخضرار فتحولتْ بقدرة قادر إلى النحول الشديد، ثم السقوط .. لتصير عصفاً مأكولاً..أو هشة صفراء بعد أن كانت خضراء يانعة تسر كل من ينظر إليها، وأنا أرقب العمر يتفلتُ من بين يدي..
ها أنا ..في زاوية من الذاكرة.. في العقد الأول من العمر .. أذكر نفسي بالبنطال القصير . ب”الشورت” أسير خلف أبي في دروب المدينة الجنوبية بمنتصف الخط المتعرج من خارطة مصر، إذ أسيرخلف أبي في مدينة “بني مزار”..أسعد بخطبة الجمعة في مسجد “عمر بن الخطاب” ويسألني عن رأيي فيها عقب انتهائها، في العقد الثاني ها أنا ذا لكأني “كنتُ” أمس فقط .. أو لكأنه مرتْ عشر دقائق على “العقد الأول” مني.. لا سنوات.. منذ “كنتُه” الصبي “الغر” الذي لا يعرف من الدنيا سوى محاولة تقديم الخير للآخرين جميعاً .. وكونهم لديه أخياراً يحبون الهناء لجميع البشرية..
في العقد الثاني لكأني منذ خمسة وثلاثين دقيقة لا عاماً أبكي أبي وأسير خلف “النعش” بالدمع السخين غير مصدق إني أفقده إلى الأبد دون ذنب جنيتُه .. من وجهة نظري.. وكان لاختيار الله الفضل علي وأرجو أن تكون الرحمة أيضاً لأبي..
إنني في قرابة العام الرابع عشر من عمري إذ أجتاز مفازة .. صحراء أكثر أزمة عصفتْ بحياتي.. وضع يدي في الماء المثخن بالجراح.. الشديد السخونة .. بعد ان كانت في الماء المتجمد لكن المحبب البرودة.. فمن النقيض إلى النقيض تقلبتْ متطلبات الحياة بي .. وكان لربي الفضل الأول والأخير في تماسكي رغم افتقادي ما هو أعز من ضرورات الحياة .. حضن أبٍ يضمني!
إنني منذ قرابة نصف الساعة لا قرابة ثلاثين عاماً كاملة “أراني” في جامعة لم أحبها، وكانت قيد التكوين فيما ندرس فيها.. وتتساقط بعض مبانيها.. أدرس في كلية لم أردها .. وبشعبة كنتُ أتمنى غيرها، ولكن كان فضل الله علي أن أدرس في “كلية التربية” لأبدأ في رصد دواخل النفس البشرية في فترة مبكرة نسبياً من العمر، كنتُ وزميل في نفس الشعبة أصغر طالبين في الجامعة كلها.. إذ أدخلني أبي، رحمه الله، المدرسة صغيراً عاماً وشهوراً، وبكلية التربية رصدتُ البشرية ومحاولات الغرب والشرق تربية النفس الجانحة الكثيرة “الانزلاق” . وكانت دراستي على يد تلاميذ للراحل طه حسين في المقام الأول من الدكاترة علي البطل، كامل الصاوي، عمر عبد الواحد، عبد المجيد هريدي، وعادل خلف.. رحم الله من مات منهم وأمد في عمر الحي.. فأثر ذلك في تكويني تاثيراً عكسياً بمحبتي تعاليم ديني أكثر، وجاءت شعبة اللغة العربية لتقربني من لغة القرآن أكثر وأكثر، أما تعليمي بجامعة المنيا ورؤيتي الامكانات الفقيرة للمباني والأفراد .. ومعايشتي أحزان المدينة والمحافظة.. وتسللي لمكتبة كلية الآداب وقراءة “لا شىء يهم” و”لم تكن أبداً له” و”الهزيمة كان اسمها فاطمة” لإحسان عبد القدرس، و”شهر الزفاف” و”تحت العرش” و”حكايات حارتنا” لنجيب محفوظ .. ومئات الروايات الأخرى .. كما تسللي إلى دار العرض السينمائي أيام الخميس .. ورفضي القرب من زميلة في تلك الأمسيات بحال من الأحوال.. بل خوفي التعلق بإحداهن لئلا أجد “بندول” وقلب وعقل الصعيدي مني لدى إحداهن مغلقاً ومعلقاً .. تجربة المنيا كلها زادت في “ألق” تكوين المبدع بالداخل مني.. وقد أراد الله أن يكون مبكراً .. وله الفضل والنعمة..
ثم إنني منذ دقائق قليلة في العقد الرابع استمر في رفض المهنة الحكومية الشريفة المناسبة لدراستي لما شعرتُ بإن جناحي إبداع بداخلي يذهب عني، وأذهب لمبنى التلفزيون في سابقة نادرة من قبول من بلا واسطة ولا طريق معروف لهذا المكان .. الجميع يعرف مفرداته .. ثم ها أنا يتم أقصائي لظروف لا تخص عملاً حاولت تجويده أو إدارة بكت لتخليها عني مجبرة بفعل جهاز طلب مني العمل معه فلما رفضتُ جازاني بشر ما يجازي البشر بعضهم بعضاَ..
إنني في مقبل العقد الخامس أعود من غربة متوسطة في مدينة نفطية أحببتُها رغم محنتي بها بلا أهل غالباً . وأظن إن وقت تحرير بلادي قد حان .. بعد ما اتفقنا على تسميته بثورة يناير .. ثم ها أنا في ديار غربة جديدة..
أعرف إنه ليس في العمر خمسة وأربعين عاماً قادمين بحال من الأحوال ..وإنني قد أمضيتُ زهرة العمر برأي “توفيق الحكيم” بأحزانها ومباهجها وانتظر “وشك النهاية” فلن أكتم الله واضحة برأي الشاعر المعروف “جرير”..
..عرفتُ المئات والمئات من الناس بعد أبي، ولم يكن في الناس، من الأحياء لي.. ولن يكون مثل أبي .. تأملتُ في كثير منهم، وعافتْ نفسي البعض فبادرتُ بالعداوة قليلاً .. وتلقيتُها أحياناً، وعافتْ نفسي العداوة نفسها فترفعتُ عنها غالبًا.. وبقيتْ بداخلي كلمات منذ العقد الثاني من حياتي لن أنساها :”لا عظيم إلا الله”..
افتقدتُ حياة عشتُ فيها لسواه.. وما وجدتُ آنساً وطيباً ونعيماً .. سكينة نفس ..وراحة روح ..وطمأنينة قلب إلا لدى تراب أبوابه..
وما ملّتُ إلى أحد غير الله ووجدتُ لديه بريقاً .. إلا اكتشفتُ إنه ..وبعد قليل جداً .. ما كان إلا سرابٌ!
ووالله ما أحببتُ شيئاً أو حتى فرداً في الحياة وحاولتُ الاعتماد عليه ..من دون الله.. ولو في بعض راحة لا يكلفه شيئاً ولا يكلفني إلا خذلني ..
وما رجوتُ من الله شيئاً إلا اعطاني من واسع فضله .. دون أن ألهث أو أكرر الطلب أو ألح في الرجاء ..
وما قدمتُ إلى باب بشر، أيّاً ما كان عزيزاً أو ذليلاً فأظهرتُ رغبة في الاستمرار لديه إلا وجدتُ من مآزق ومصاعب الدنيا ما لا يعد ولا يحصى .. على عظم الذين أتيتُ أبوابهم من البشر .. ولكن ماذا وقد قال قائل العرب منذ عشرات القرون؟:
لئن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه!
وما قدمتُ باب بشر ابتغي لديه لقمة عيش ومال قلبي إلى “زينة” من الحياة الدنيا لديه، ورغبني، هو نفسه رغبني فيها، إلا صرف الله قلبي عنه وعن زينته..
كم من رجل هنا .. وفتاة وامرأة فضلتُ بل أردتُ الارتباط بها ورن في أذني جرس كلمات العرب السابقات..
وكم من ألم ما خففته إلا يد العناية الإلهية.. وكم من كائد ومعاند وعدو في ثياب صديق بل مُحبةِ “عنكبوتية زائفة” ما أنجاني منهم و”منها”إلا الله تعالى ..
وما كان عمري بأصدقاء سعدتُ بهم أيما سعادة، وزوجة وهبني الله في ظلها السكينة والطمأنينة والتجاوز عن عثرات قليلة عفيفة لي لكنها كانت مؤثرة لديها، وما هو بأبناء سعدتُ بهم، وآلام تجاوزتُها وتمادتْ فيّ، ولا بأفراح عميقة وقليلة .. ما أحسب كل هذا كان مفيداً إن لم يكن لله تعالى من قبل ومن بعد!
ألا إنه في قلب محنة وصفوف تثبت وأخرى تتقلب .. إن لم يكن بك يارب علي غضب فلا أبالي بالدنيا.. ولا بقلوب أخلصتُ لها فبالغتْ في الخيانة، ولا بعقلاء ظننتُ الحكمة بهم فجهلوا علي.. وحزنتُ جداً لقليل جهلي عليهم في المقابل .. إلا إن غدراتٍ نُقشتْ على صفحة القلب.. ووفاء نادراً من إخوة وأحباب .. إن لم يكن حسن هذه الحياة في سبيلك يارب ..وقبيحها تتجاوز عنه فما أبالي بهذه الحياة كلها وما فيها ..
شعرتُ عمري بيدك تربتُ على قلبي ..يارب ..وتحن علي .. وتأسرني لما تمسح عن جوانب روحي أفعال البشر وكم آلمتني .. ولكم جاء سرورهم بعد طلبي منك فسقتهم إليّ بالخير .. وما ضاقت الدنيا في وجهي فبكيتُ لك وحدك منذ الصبا راجياً فضلك إلا وحدك رحمتني من شرورها .. ولكم صرفتَ عني بعفوك ورضاك شرور آناس توسمتُ بضيق عقلي وأفقي.. بل برغبة دفينة في الأعماق السعادة لديهم .. فأقصيتهم برحمتك بلطف من طريقي لما طلبتُ منك ألا تجعل من ليس في جعلهم رضاك في حياتي.. فلا تخزني، يا كريم، في آخر العمر ..
ألا إن من وجدك لم يخسر شيئاً .. ومن فقد الله لم يجد شيئاً ..
ألا إنها حكمة حياتي الغالية.. لو تعلم ,,
اللهم تقبل واغفر وتجاوز وارحم..