المشهد الخامس : الحصاد المُرّ :
المشهد النهائي هو الحصاد الذي جنته مصر من وراء ثورة فجرها البرءاء من شباب الشعب المصري الذين كان يحدوهم وطيد الأمل في الإسلاح والصلاح ، ولكن مضادات الثورة بالشكل الذي فصلناه في المشاهد السابقة أفسدت نتاج تلك الثورة وبددت جهود الشباب بل وزادت الطين بلة ، فكان الحصاد مريراً !!
أولاً : الثورة المصرية والصراعات السيادينية :
لعله من نافلة القول أن نؤكد لكل من يقرأ هذه السطور على اختلاف توجهاته الموضوعية والوظيفية والفكرية والأيديولوجية أننا نعمل وفق قواعد منهجية بعيدة عن الولاءات الوجدانية والانتماءات أياً كانت .
مما تقدم يخلص المتابع إلى أننا لسنا طرفاً في صراع مع أي فاعل سياسي أو فكري أو أيديولوجي أو ضده ، ولكننا نعبر بصدق عن ما ننتهي إليه من نتائج منهج التحليل ، إلى حد التماهي ، لأن المنهج هو سلاحنا ونحن المقاتلون به ، فلا يمكن لأي منا أن ينفصل عن الآخر .
إن الثورات العربية هي إحدى القواعد الثابنة في منهج النحليل ، لأنها تستهدف إزالة الاستبداد والفساد عن شعوب من مقومات وعناصر وجودها أن تنعم بحكم رشيد وحياة طيبة .
أ : هوية الثورة المصرية : الأمر المهم بل بالغ الأهمية هو التأكيد على هوية أي ذات الثورات العربية ، حتى نبطل ادعاء الخطف أو الاستحواز أو التلوين لتلك الثورات ، فثورات الكرامة العربية هي ثورات شعبية إنسانية هدفها إزالة واقع فاسد وإقامة واقع جديد ذي حكم رشيد وقيم إنسانية ، ومن ثم فهي ثورات ليست دينية وليست مذهبية وليست طائفية وليست قومية وليست أيديولوجية ، ومن غير المنهجي أن يدّعي احد غير ذلك .
ب : مرحلة التوحد والاصطفاف : قامت الثورات وشارك فيها كل ألوان الطيف الشعبي والاجتماعي حسب ما قُدّر لكل لون ، وأفلحت الثورات في إزالة الأنظمة المستبدة الفاسدة ، وهنا ينبغي التأكيد على أن الجميع قد توحد واصطف في عملية التقويض ، وسيأتي الخلاف في عملية البناء .
ت : بداية التداخل والصراع :بعد الفراغ من تقويض الأنظمة الفاسدة ، كان الاتجاه نحو البناء ، وكان السؤال هل سنتوحد ونصطف في البناء كما فعلنا في التقويض ، فرفض رفاق الأمس التوحد والاصطفاف ، وأبوا إلا الانفراد بالبناء ، وسبب ذلك أن في التقويض غرم ، أما البناء ففيه الغنم كل الغنم ، ولكن لا بأس فالاختلاف وارد ، وهو سيتحول إلى حوار ونقاش وتوافق حول الأصلح .
ث : الدفع بالأيديولوجيات :لقد شرع كل فريق يشحذ الهمم من أجل الدفع بأيديولوجيته على أنها الأنسب للمرحلة الحاسمة ، وهي مرحلة البناء والفوز بأكبر نصيب من الفريسة ، وتجسدت الأطماع ، وبدأت التحالفات تتشكل ، وكل ذلك من السياسة ، ومقبول تجريبياً وحركياً في التنافس السياسي .
لكن الملفت أن ثمة فاعلاً جديداً دخل إلى الساحة السياسية لأول مرة في العالم العربي بشكل رسمي ومباشر ومشروع بعد الثورات العربية ألا وهو القوى السياسية ذات المرجعيات الدينية مثل الإخوان المسلمين والجماعات السلفية وغيرها من الجماعات الإسلامية ، وبدا أن لتلك القوى منطلقات تاريخية وخلفيات شعبية ، يمكن أن تؤهلها للقيادة السياسية للدول الجديدة !!
وإلى هنا لا يزال المشهد هادئاً وطبيعياً ، إلا أن القوى السياسية التقليدية الموجودة في الساحة منذ الأنظمة البائدة لم تخف امتعاضها من القوى الجديدة ذات الشعارات الدينية ، وبدأت الحساسيات والاحتكاكات تبدو على السطح ، وأضمر كل طرف للآخر ما لم يعلن عنه ، إلا أن حرب الأيديولوجيات كانت قد بدأت واشتد وطيسها ، وانتصبت الحرب على دعوى مفادها أن كل أيديولوجيا تعتبر نفسها هي الأصلح لقيادة المرحلة من الأخريات ، وأيضاً إلى هذا المدى لا تزال الأمور في مسارها الطبيعي ، وهذا هو التنافس السياسي المعمول به وفق مبدأ الديمقراطية .
ج : فواعل جديدة غير سياسية تقتحم الساحة السياسية :لقد فوجئنا بفواعل ذات صبغة خاصة اقتحمت الساحة السياسية ، وهي قوى ليست من الفواعل السياسية ، ممثلة في الجيوش ، وأجهزة العدالة ، والإعلام ، والأجهزة الأمنية ، واعنبرت كل هذه الأجهزة نفسها إما فاعلاً سياسياَ صريحاً كالجيوش أو من وراء حجاب كالأمن والقضاء والإعلام .
وما من شك في أن دخول هؤلاء اللاعبين إلى الساحة السياسية كان قد أربك المشهد السياسي ، وكان ذلك بمثابة التشويش على المشهد وتشويهه في ذات الوقت ، وبتنا في انتظار تطورات غير محمودة العواقب .
ح : تبادل التهم بين السياسة والدين : لقد انتقلت الحوارات والمجادلات الخاصة بالكفاءة والفعالية الأيديولوجية إلى إشكال شائك ومؤلم وهو : هل نفصل الدين عن السياسة أم أن الدين منطلق السياسة والدولة لا بد من أن تدار من خلال طروحات دينية شرعية .
وكان من الواضح أن إثارة هذا الإشكال كان بمثابة الشرك الذي نصبه القوى السياسية التقليدية ومعها الفواعل السياسية المقتحمة للساحة السياسية لتشويه ثم لإبعاد ثم لاستئصال القوى السياسية الدينية من الحياة السياسية في الدول نتاج الثورات .
خ : سياسات استئصال القوى السياسية الدينية : استثمرت القوى السياسية الدينية ما أشرنا إليه من منطلقات تاريخية وأرضية اجتماعية لكي تحرز تقدماً شهدته كافة الدول نتاج الثورات العربية ، ما أثار الامتعاض بل والهلع الشديد لدى القوى السياسية التقليدية والفواعل المقتحمة للحياة السياسية ، وبصفة خاصة أن للفواعل الأخيرة ارتباطاتها غير المخفية بالنظم البائدة ، ولها كذلك تخوفاتها من الثورة والقوى الثورية والقوى الدينية بالتالي ، بل إن التخوفات قد تحولت إلى عداءات معلنة .
إزاء ما تقدم لم تجد القوى السياسية التقليدية الفاشلة بداً من التحالف مع الفوعل المفتحمة للحياة السياسية تلك التي رحبت ، بل واهتبلت الفرصة لنحقيق أهدافها في التخلص من القوى الديتية ثم فرم القوى التقليدية الهشة .
وبالفعل أدى التحالف السياسي المذكور إلى توجيه ضربات استباقية مدمرة للقوى الدينية التي انفرط عقدها وتبعثرت من هول وفجائية الضربة ، وهنا تحول التنافس السياسي إلى صراع مدمر تقوده قوات الجيوش والأمن ضد القوى الدينية والهدف كان استئصال الأخيرة والقضاء عليها نهائياً .
وكان المبرر الذي ظن الجميع أنه الأنسب والأكثر قبولاً من كافة القوى الداخلية والإقليمية والعالمية هو اتهام تلك القوى بفرية الإرهاب والإصرار على ذلك والترويج له بشكل حرفي .
د : تحويل الصراع السياسي إلى صراع سياديني رد فعل القوى السياسية الدينية على سياسات استئصالها : لقد رد فلول القوى الدينية المتناثرة والمنهكة على سياسة الاستئصال العنيفة والمدمرة بنكتيك الصراع السياديني ، وبدأ الحديث عن الصراع بين الإيمان والكفر والحق والباطل ، وتأويل كافة تصرفات وأفعال المنافسين على أنها خروج على المعتقد والملة وبدأت دوامة التكفير ، والملفت أن الفريق الأول استخدم نفس التكتيك المهلك.
ذ : السطو على السلطة والفشل السياسي هما سبب الصراع السياديني : إن القوى السياسية الفاشلة التي فشلت في تحقيق طموحاتها في قيادة مرحلة البناء بعد الثورة ، ومعها الفواعل المتطفلة المقتحمة للساحة السياسية الإثنان معاً أرادا السطو على السلطة .والقوى الدينية التي فشلت في الاحتفاظ بالسلطة وإدارة المرحلة لم تخف هي الأخرى فشلها السياسي .
الطرفان معاً وبالذات الطرف الثاني لم يجد أمامه من بد من نقل الصراع السياسي إلى صراع سياديتي ، ولكن تبقى الحقيقة أن الطرف الأول مستلب للسلطة والثاني فشل في الاحتفاظ بها ، وكلاهما شارك في ابتداع صراع سياديني ، والصراع بالأساس سياسي فيه الصواب والخطأ والنجاح والإخفاق ، وحتى الخطيئة والكبيرة ، ولكن لسنا بصدد إيمان وكفر وخروج من الملة وحرب على الدين !!!!!
ثانياً : السيسي يملك السلطتين التشريعية والتنفيذية ويوجّه ويؤثر على السلطة القضائية :
أكثر من خمسمائة قانون أصدرها السيسي منذ فرضه على حكم مصر ، فهو المشرع دون رقيب أو حسيب أو حتى مراجع ، وهو رئيس السلطة التنفيذية ، وهو يوجّه ويؤثر على السلطة القضائية التي لا ينبغي لأحد كائن من كان أن يقترب منها أو يقربها لأنها الحصن الحصين والسد المنيع الذي يحمي الشعب والمجتمع .
منذ انقلاب 23 يوليو 1952م والرئيس في مصر هو هكذا ، ولا يغرنك تمثيلية الاتحاد الاشتراكي ومجالس الشعب والمناير والأحزاب والهيئات الرقابية التي لم يخف على أحد سخفها ومللها ، فمنذ ذلك التاريخ والرئيس هو المشرع والمنفذ والناصح للقضاء ، بل والضاغط عليه ، وذلك لأنه إما الزعيم الملهم بطل القومية العربية ومحارب الاستعمار ، أو الرئيس المؤمن بطل الحرب والسلام ، أو قائد النصر وصاحب الضربة الجوية التي قصمت ظهر العدو ، أو البطل المنقذ محارب الإرهاب ومخلص مصر من الإخوان المسلمين ومن الإسلام أيضاً .
معنى هذا أن السيسي ليس بدعاً ممن سبقه من حكام مصر ، بل أنه فاق عليهم جميعاً ، فعبد الناصر والسادات وحسني مبارك كانوا طغاة مستبدين ولكن عبر عملية تمثيلية تذر الرماد في العيون ، أما السيسي فهو طاغية مستبد بشكل صريح ، لأنه لا يحب التمثيل ولا يتقنه !! ومن يعترض فقانون الإرهاب جاهز والسجن مفتوح والنهاية معلومة ومحتومة!!
ثالثاً : قانون الإرهاب حبس الشعب المصري في دائرة الاتهام :
حسب ما يعرف بقانون الإرهاب ، هذه المقالة .. من كتبها .. ومن سيقرؤها .. ومن سيتداولها ، قد يقع تحت طائلة هذا قانون الإرهاب المصري .
إنه ليس قانوناً إنه مقصلة ، إنه لا يكافح الإرهاب ، يل يفرض الخوف والرعب على كل مواطن ، ويحارب الأمان والحرية في التفكير والتعبير ، وعلى كل مواطن أن يمشي في الشارع أو في أي مكان وفي جيبه حجج وأدلة وبراهين وحيثيات براءته من تهمة الإرهاب الثايتة عليه منذ يوم ميلاده وحتى يوم وفاته .
كيف لي وأنا أحمل درجة الأستاذية في النظرية السياسية منذ ما يقرب من عقدين من الزمان أن أقيّم وأفوّم أوضاع الدولة المصرية ونظمها وسياساتها ، وكيف لمواطن بسيط أن يعبر عن رأيه في مجتمعه ويكشف عن الأخطاء .
إن الدولة تستعدي الناس وتوسع وتعمق الهوة بينها وبين مواطنيها وتقيم ستاراً حديدياً من عدم الثقة والخوف والرعب ، من سيبدع في هذه البيئة المخيفة المرعبة ؟ من سيرضى ؟ من سيقبل ؟
هل قامت ثورة 25 يناير لتصيبنا بهذه اللعنة ؟ هل ينقم علينا حاكم مصر وأعوانه ، لأننا قمنا بالثورة ؟ وحتى لا نفكر في التغيير والثورة مرة أخرى ؟؟
أين القوى السياسية ؟ أين أساتذة الجامعات ؟ أين النقابات ؟ أين فقهاء وخبراء القانون ؟ أين المؤسسات الحقوقية ؟ أين مؤسسات المجتمع المدني ؟
هل باتت مصر في قبضة شخص واحد يفعل بشعيها ما يريد ؟ دون مراجعة من هيئة تشريعية أو هيئة رقابية ؟! أو هيئة قضائية ؟! لقد تحولت حياتنا إلى جحيم .
هل يمكن أن تستمر هذه الوضعية ؟؟!! هل يمكن لدولة أن تنمو وتزدهر بهذا الشكل ووفق هذه الوضعية ؟! إنه إرهاب الدولة ، والدولة التي ترهب مواطنيها ، لن يساهموا في الحفاظ عليها وإنمائها .
وإذا كان حاكم مصر لا يعلم ولا يتقن إلا لغة الأمن والسلاح ، فنحن مدنيون مسالمون اعتدنا الحوار والنقاش وحرية التفكير وحرية التعبير عن الرأي ، فلن نتفق إذن ، وأمام قوة البطش والسلاح سنصمت وسنظل هكذا صامتين ، وأبشروا كل البشرى ، فسوف تحكمون وتتعاملون مع شعب أصم أبكم ، وهنيئاً لكم حكم الصم البكم !!!!!
رابعاً : مصر تنزلق إلى مرحلة غامضة من خلط الأوراق وصراع الفواعل :
الشأن المصري منذ 3/7/2013م وحتى الأمس القريب كان يتحرك عبر معادلة بسيطة ومفهومة دون تعقيدات ، فالانقلاب العسكري ومؤيدوه من الشعب ومؤسسات الدولة والجيش والأمن والإعلام والقضاء في طرف المعادلة ، وفي الطرف الآخر معارضو الانقلاب من الشعب وفصيل الإخوان المسلمين .
ومنذ أيام قليلة شرعنا في قراءة المشهد المصري من جديد ، وإذا بنا نواحه جملة من المعطيات ، جعلت المشهد أكثر تعقيداً ، والمخرجات والطروحات أكثر غرابة .
أ : عدم توافق بين الجيش والأمن قد يتطور إلى صراع مكشوف : لعل أول تفكك وتفتت الارتباطات والتحالفات التقليدية القديمة هو ظهور عدم التلاقي الذي يُنذر بأن يتحول إلى صراع معلن بين الجيش والداخلية ، ودخول كل منهما في عملية متماثلة نسميها عملية “إبراء الساحة وتنظيف الذات ” من أية عمليات ضد الشعب ، والإنحاء باللائمة على الآخر !!
ب : ما يشبه فك الارتباط بين الجيش والسيسي :وهذا المعطى آخذ في التصاعد حيث يحاول الجيش أن يستقل في قراره غن السيسي ، وينصرف إلى شأنه في الدفاع الجاد عن البلاد وتدارك الأمر المتردي في سيناء ، والتخفيف من التركيز على النشاط السياسي .
ت : الصدام بين فلول وحثالات نظام مبارك والسيسي :وهو صدام يفرضه تضارب وتناقض المصالح بين الطرفين ، حيث يبحث كل طرف عن تحقيق مصلحته المتمثلة في حكم مصر سياسياً والتحكم فيها اقتصادياً ، فالفلول والحثالات تريد العودة والتمكين ، وهي فاتورة مستحقة للوقوف خلف السيسي ، والسيسي عندما يسمح بذلك يكون قد انتهى ، فوجوده لا بد أن يكون مرهوناً ومشروطاً بمحو الفلول والحثالات من خارطة الحياة السياسية المصرية .
ث : الداخلية المصرية تخشى أن تكون كبش فداء وتحن إلى نظام مبارك ورموزه :اشتمت الداخلية المصرية بعد ترحيل وزيرها رائحة الغدر من السيسي ، وأنها ستكون كبش الفداء الذي سيتم التضحية به ، ويتم تحميله كل الكوارث التي تسبب فيها الانقلاب العسكري داخل البلاد ، ومن ثم أخذت في التأهب لذلك وفق خطط لا بد من ان يشرف على إعدادها جهابزة الأمن في عهد مبارك البائد .
ج : القوى السياسية عائمة الجذور طائشة الهدف :وسط هذا الخضم المتضارب المتلاطم الأمواج ، تهيم القوى السياسية المصرية على وجهها ، فهي تفتقد الأرضية الجماهيرية ، وتفتقر إلى الأهداف المحددة ، تتدافعها الأطراف المتصارعة ، وسوف تتلقى عقاباً مؤلماً من الطرف الذي ستنافحه ، وعلى كل فليس لديها ما تخسره ، فوجودها والعدم سواء .
ح : التيار الإسلامي المتهافت والإخوان المسلمون المنبوذون :لم يغب التيار الإسلامي عن الساحة السياسية في مصر ، ولكن بشكل أقرب ما يكون من البعير الذي يجعجع ولا يطحن ، فهو والقوى السياسية سابقة الذكر سواء بسواء .
أما الإخوان المسلمون فهم في فلكهم يسبحون بين المراجعات ولم الشعث وصياغة الاستراتيجيات ، وتنصب عليهم نقم ولعنات كل القوى والفواعل في الحياة السياسية المصرية .
مؤسسات الدولة المصرية تمتعض من السيسي وتفكر في إدارة ظهرها له :كعادتها لا ترخي مؤسسات الدولة المصرية دلالها إلا لمن يقدم لها الرشى والعطايا ، فهي مؤسسات بيروقراطية بئيسة لا تدار إلا بخطب الود ، حيث لم ينفع معها إصلاح ، ولا يشفع فيها قانون أو إلزام ، ويبدو أنها اشتمت رائحة شدة أو شد أذن من السيسي فكان التفكير الجدي في التملص من الارتباط به والبحث عن حليف جديد مجدي ومفيد حتى ولو كان النظام القديم البائد الذي يعطي ببذخ حتى الفساد ، وخير دليل على ذلك فساد وزير الزراعة وحكومة محلب ، وفساد من جاء بعدهم .
خ : الإعلام والقضاء والبحث عن مسار جديد :خلافاً لمؤسسات الدولة المتجذرة التي تحدثنا عنها تقف مؤسستا الإعلام والقضاء على رأس مفترق طرق متشعب وغير مأمون المخاطر ، ولا بد من الاختيار بدقة هذه المرة لأن الكثير من الفواعل السياسية تضمر الثأر من المؤسستين ولا تأمن لهما جانباً .
د : الشعب المصري المؤيد للانقلاب العسكري والمعارض له والخيارات المفتوحة :بالرغم من استهانة معظم القوى والفواعل السياسية بالشعب المصري بكل ألوان طيفه ، إلا أنه يظل هو العمدة والحصان الرابح وله خياراته المفتوحة ، ولا بد من العودة إليه في كل شأن ، وتشير كثير من المؤشرات إلى أنه شرع ينفض من حول السيسي ويذهب في اتجاهات شتى ، ولعل انتخابات ما يسمى بمجلس الشعب المصري خير دليل على ذلك ، فالشعب المصري قالها بلغة الإشارة للسيسي ومن حوله “لا وجود لكم في حساباتنا ولا ثقل لكم ولا أهمية ” !!
خامساً : إنه عصر التردي والهوان ، مصر استبدلت الإرهاب بالاستبداد :
ثلاثة جبابرة مستبدين أذاقوا الشعب المصري الهوان ، عبد الناصر بأمجاده المزعومة ونكباته قاصمة الظهر ، والسادات بحرب أكتوبر والانتصار القزم والانفشاخ المدمر لمصر واقتصادها وكل ماله قيمة فيها ، ومبارك بدون حسنة واحدة وكل سوءات الدنيا ، أؤلئك الثلاثة فرضوا على شعب مصر المستكين المهان الاستبداد بحد السيف ، ديدنها : كتم الأنفاس ، الاعتقال ، التعذيب ، الشنق ، التدمير المعنوي والنفسي والعقلي ، والنتيجة شعب مشوه فكرياً ، معتل عقيدياً ، مسلوب الحرية والإرادة ، وهنا في هذه الحقبة السوداء كان عنوان الكبت والعسف والجور والفساد هو الاستبداد ولا شيئ غير الاستبداد !!
والسؤال ماهي الحسنة ولو الوحيدة التي سجلتها مصر : سياسياً ، اقتصادياً ، اجتماعياً ، فكرياً ، ثقافياً ، وبالرغم من كل هذا التردي والهوان لم تتخل مصر عن قضية العرب والمسلمين الأولى وهي فلسطين العربية المسلمة وشعبها المناضل المكافح من أجل حقه في الوجود !
ثم حلت على مصر مرحلة سوداء معتمة بدأت في 3/7/2013 ومن ذلك التاريخ وحتى الآن ومصر لم تسجل حسنة واحدة ، بل هي تنحدر من سيئ إلى أسوأ : سياسياً ، اقتصادياً ، اجتماعياً ، ثقافياً ، فكرياً ، والنتيجة شعب يعيش في حالة من الهلع وفقدان الثقة ، يخاف الأخ من أخيه ، والأب من إبنه والجار من جاره ، لماذا ؟؟؟ لأنه يمكن لأي إنسان قريب غريب جار عسكري مدني أن يقول عنك إنك “إرهابي” لقد انتهت حياتك !! وتم شطب اسمك من سجل أهل الدنيا !! ولكن بعد أن تمر بمحطات الاعتقال والتعذيب وفرم كل أجزاء جسدك الذي كل ذنبه أنه لمواطن مصري .
في حقب عبد الناصر والسادات ومبارك كان العنف والامتهان ضد المصريين ليس له غطاء ، هو استبداد صريح من اجل الاستبداد ، ومنذ 3/7/2013 هو عنف وامتهان وإذلال وهوان تحت غطاء الإرهاب !!!!!!!!!! كل من تكرهه اتهمه بالإرهاب ، لم يقتصر الأمر على المصريين بل تجاوز الأمر إلى قضية العرب والمسلمين الأولى ، والتي لم يجرؤ النظام السياسي المصري المستبد الفاسد في الحقب الثلاث على أن يعلن تخليه عنها واتهام الفلسطينين بالإرهاب.
أما الآن فالدعاوى تتسابق من أجل اتهام حماس ومناضليها بالإرهاب ، وهذا ما لم تعلنه أية دولة في العالم حتى الدول الداعمة لإسرائيل ، إنه بحق عصر التردي والهوان .. فقد استبدلت مصر الإرهاب بالاستبداد .. والبقية تأتي !!!
سادساً : مصر الأولى عالمياً في تحقيق معادلة الفشل الماحق والنجاح المميت :
لقد فشلت السلطة الانقلابية في مصر في كل شيئ ونجحت في شيئ واحد وهو ظاهرة “الثأر المجتمعي” ، و”الثأر المجتمعي” ظاهرة قديمة في مصر ولكنها منذ 3/7/2013 م برزت في شكل جديد .
فمنذ إنقلاب ضباط التنظيم السري في 23/7/1952م ، وثمة ظاهرة تُعرف بـ”التعادي” بين النظام السياسي الذي ذابت فيه الدولة المصرية وبين المواطن ، الذي بات يكره كل مظهر من مظاهر تجسيد الدولة العسكرية البوليسية الشمولية ، وذلك بسبب عسف الدولة وطغيانها وجورها ، وظلت الظاهرة محصورة في تجليات بعينها بين المواطن وبين كل مظاهر الدولة العسكرية البوليسية الشمولية ، وقد خفف ذلك من وطأة الظاهرة .
وبعد انقلاب 3/7/2013م سقطت الدولة كشخصية اعتبارية وتآكلت شرعيتها بل ومشروعيتها ولم يعد لها وجود كستار أو حاجز بين المواطنين الذين يمثلونها وعموم الناس ، وعمدت السلطات الانقلابية ، بل جاهدت واجتهدت ونجحت نجاحاً منقطع النظير في ترسيخ ظاهرة لعلها الأبشع والأنكي والأشد وقعاً وتأثيراً في حياة وتفاعلات الشعب المصري ، وهي ظاهرة “الثأر المجتمعي”.
و”الثأر المجتمعي” جائحة مرعبة تجتاح المجتمعات التي تتآكل فيها الشخصية الاعتبارية للدولة ، وتعمد السلطات الحاكمة إلى التضحية بمن يمثلونها في صدام دام مميت مع الشعب ، ويتحول العداء بين الناس والدولة إلى عداء مستحكم بين المواطنين وبعضهم ، وتبقى الدولة الفاشلة ونظامها المجرم متفرجين على مواطنين يقتل بعضهم بعضاً ثأراً وانتقاماً ، فالشرطي أو القاضي يثأر وينتقم من الناس لأنهم يكرهون الدولة ونظامها السياسي ، وهو على قناعة بأنه يمثل هذه وذاك ، والناس وقد حنقوا على الدولة وسخطوا على النظام السياسي يثأرون وينتقمون من الشرطي والقاضي لأنهما نالوا من الناس باسم الدولة ونظامها السياسي ، وتتحول العلاقة في نهاية المطاف إلى “ثأر مجتمعي” تتوارى فيه الدولة والنظام السياسي عن الأنظار ، ويتناطح المواطنون الأبرياء المغرر بهم في صراع قد لا يبقي ولا يذر.
وهذا هو واقع الحال في مصر إذ بات أبناء الوطن الواحد المعروفون على مر الزمن بحبهم لبعضهم وتكاتفهم وتكافلهم وتضامنهم يكتوون بنيران الثأر المجتمعي الحارقة والمدمرة والمميته ، وذلك بفعل سلطة شيطانية غير مسئولة ، قدمت أبناء الشعب المصري وقوداً لنيران تلك الظاهرة الجهنمية ، وإشباعاً لنهم الحكم والسلطة والهيمنة والسيطرة على شعب مقهور منذ أكثر من ستين عاماً .
لقد أخفقت السلطات الإنقلابية في مصر في كل شيئ إخفاقاً ماحقاً يجعل من المستحيل ذكر حسنة أو مكرمة واحدة تشفع لها ، في حين نجحت نجاحاً باهراً في ضرب أبناء الشعب ببعضهم ، والإيعاز لكل منهم بالثأر من الآخر ، فمتى سنضع حداً لذلك العبث بأبناء شعب لا يزال لقمة سائغة شهية لإشباع نهم وشهوات حكامه ؟؟!!
سابعاً : استعداء النظام المصري الناس ، يضاعف حقدهم عليه ، ويضع هيبة الدولة المصرية على المحك :
منذ 3 يوليو 2013م دخلت مصر الشعب والمجتمع والدولة دوامة قلنا مراراً أن مصر لن تفلت من الدوران في فلكها المدمر ، فالدولة المصرية بنظامها الحالي سارت في طريق غيّب الحكمة والعقل والتفكير الرشيد ، ورسخ مكانها القوة والانتقام وإنهاء وجود الآخر ، وعندما تعتمد الدولة على هذه الأساليب الثلاثة في إدارة شئونها تحولت إلى دولة فاشلة لا يوجد وفاق أو توافق بينها وبين شعبها أو حتى قطاع منه ، ومن ثم فعدم الاستقرار والفتن والقلاقل هي التي تسود أجواء البيئة المصرية .
إن استقراء الواقع المصري للأسف والأسى معاً يُنبئ عن نتائج مخيبة للآمال ومدعاة للإحباط ، ون هذه النتائج :
سيادة النظرة الواحدة دون دراسة أو تحليل أو منهج لدى مجموعة من الوزراء لا خبرة لديهم ولا قدرة على فهم الواقع وتحليله وطرح بدائل التعاطي معه في ظل ظروف الأزمة وهذا يستتبعه الفشل الذريع حتى في تنفيذ الاقتراحات الوقتية التي تقوم بها الحكومة .
سيادة منطق القوة في التعامل مع كافة المتغيرات والمستجدات داخل المجتمع المصري ، بالاضافة إلى منطق التعنت والعناد والإصرار على الفعل حتى ولو كان خاطئاً .
غياب الدراسة الواقعية الشفافة لمشاكل المجتمع وطرح الحلول العملية المناسبة لها وإخبار الناس بها .
غموض القرار السياسي وافتقاره إلى الرشد والدراسة المتأنية والأرضية الشعبية واعتماده على العنف والقوة في اتخاذه وتنفيذه .
إشراك الجيش والأمن في إدارة الدولة المصرية واعتبارهما أداة الدولة في التعاطي مع أبناء المجتمع ، وتغييب مؤسسات الدولة ، وامتلاك النظام السياسي لتلك المؤيسسات وتحويلها من مؤسسات الدولة إلى مؤسسات النظام السياسي .
غياب الاستراتيجية الواضحة والمحددة للحكومة الحالية ، وغياب الخطة التي تعمل من أجل تحقيقها .
سيادة حالة من التوتر والتوجس وانعدام الثقة بين فصائل وقوى اجتماعية وسياسية من أبناء المجتمع المصري .
على النظام الحالي في مصر أن يعمد إلى كل نتيجة من النتائج المذكورة فيدرسها ويحللها لأنها تحمل في طباتها مشكل يواجه النظام السياسي والدولة والشعب والمجتمع .
إن النظام السياسي في مصر لا بد من أن ينشر جملة مبادئ هي : المصارحة ، والمصالحة ، والسلام والوئام الاجتماعي ، والمواطنة ، وعدم الاقصاء ، والتفكير العلمي المنهجي الرشيد ، والكف عن استعداء الناس وتخوينهم والطعن في وطنيتهم .
ثامناً : كشف حساب سريع :
سنتان مضتا على فرض قائد الانقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي على حكم دولة مصر ، وعلى مدى هذا العام لم نجد ما يمكن أن نقيّمه ، وهذا يفرض علينا كمتخصصين في الظاهرة السياسية أن نقدم وصفاً للمشهد المصري بشكل عام :
أ : شخصية الدولة المصرية :لقد بدت الدولة المصرية كشخصية اعتبارية هذيلة شاحبة ، سيطرت فيها السلطات الحاكمة على مؤسسات الدولة وحرّكتها كما تشاء ، ولم يعد لها أية استقلالية بل ذابت في مؤسسات النظام السياسي .
لا يزال الفساد وعقول البيروقراطية الجامدة المتحجرة تسيطر على مؤسسات الدولة التي ذابت في المؤسسات التي يُفترض أنها تابعة للنظام السياسي .
ب : نظام سياسي لا وجود له :ما يوجد في مصر الآن هو سلطات مسيطرة وليس نظاماً سياسياً ، فالنظام السياسي له حيثيات ومواصفات ومؤسسات :
(1)أين السلطة التشريعية ، لا وجود لسلطة التشريع وتمثيل الشعب ، ولا يمكن لنظام سياسي أن يستقيم بدون هذه السلطة التي يبدو أنها لن تتحقق على الأجل المنظور، حيث تبدو عملية الإعداد لانتخابات مجلس الشعب مثيرة للجدل ولا تنبئ بخير وسط انقسام مجتمعي وعودة لوجوه مقززة لفظها الناس ، وصراع وتطاحن فكري وسياسي بين من كانوا حلفاء الأمس ، وانفراط عقد تحالفات ، وبروز أخرى ، وتناقضات غير مبررة ويصعب تفسيرها !!
(2)حكومة معدومة الخبرة ، عجزت عن إدارة الدولة ، وتحقيق أية انجازات ذات شأن ما جعل الأزمات الاجتماعية والاقتصادية تحتكم ، واستبدال معظمها بأخرى لا علاقة لها بالعمل السياسي أو الإداري ولا فكر لديها ولا ممارسة .
(3)ديكتاتور يسيطر على كل السلطات ، ولا يعطي فرصة للنقد والتعبير عن الرأي ، وعدم السماع لأي رأي مخالف حتى ولو كان موضوعياً ويطرح حلولاً حقيقية للمشاكل .
ت : عدم الاستقرار :تعاني مصر من عدم استقرار سياسي واقتصادي واجتماعي ، نتيجة التخبط في إدارة الدولة ، وافتقاد المعاونين والمساعدين الصادقين والمتخصصين في إدارة الدولة .
ث : البيئة والحركة والممارسة السياسية : لا يوجد بيئة سياسية في مصر تساعد على الحركة والممارسة السياسية :
* فلا دستور يُحترم .
* وكبت وقمع للتعبير عن الرأي .
* ولا وجود لمعارضة سياسية على الإطلاق .
* وأحزاب ديكورية لا تأثير ولا فعالية لها .
* عملية إقصاء وتدمير لفصائل هي من صميم المجتمع المصري .
* لا وجود للمجتمع المدني ولا وجود لمؤسساته الفاعلة .
ج : واقع الفكر والثقافة والإعلام :إفرازات الفكر والثقافة خلال عام عكسها معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي بدا هذيلاً خالياُ من الإبداعات المعهودة ، ناهيك عن المسرح البئيس والسينما العجوز الشائخة التي نفد رصيدها ، وتواصل قذفنا بما جدّت في تحصيله من السخافات الرذائل لشرذمة من شرار خلق الله !! أما ما نعفّ عن أن نطلق عليه بالإعلام المصري فقد انحدر من سيئ إلى أسوأ فهو يكذب ويتخرص ويناصر ويدعم حكم الديكتاتور بكل ما أوتي من قوة اللسان والمال !!
ح : واقع حال المجتمع المصري :يعاني المجتمع المصري من خلل في لحمته ، هو خلل مصطنع سياسياً وفكرياً وأيديولوجياً ، لم نعهد أن يسبّ ويقذف المصريون بعضهم على الفضائيات ، ويقاضي بعضهم بعضاً ، وكذلك على مواقع التواصل الاجتماعي ، أو أن يكفّر بعضهم بعضاً ، أو أن يقسّمون أنفسهم إلى شعبين لكل شعب إلهه الخاص !! لقد وصل الشعب والمجتمع المصري خلال هذا العام إلى حالة يُرثى لها ولم يشهدها من قبل من التشتت والصراع والضياع ، فتباً للسياسة والحكم التي تفعل بالشعوب والمجتمعات الأفاعيل .
خ : السياسة الخارجية :على امتداد عهد مبارك والسياسة الخارجية المصرية تعاني من اهتراء ملحوظ قاد إلى سلوك دولي غير فعّال على المستويات الإقليمية والقارية والعالمية ، إلا أن هذا الاهتراء قد تحوّل خلال السنة الأخيرة إلى سقوط لن تنهض منه السياسة الخارجية المصرية على الأجل المنظور ، ويكفي أن يتجلّى ذلك السقوط في كلمات وتصريحات وبيانات وزير الخارجية المصري الذي يماثل رئيس حكومته !!!!