احتفلت دولة الإمارات العربية المتحدة مؤخرا بذكرى تأسيسها الـ44 بالاحتفالات والعروض والمهرجانات المعتادة، وفي الواقع، يحق للبلاد الفخر بإنجازاتها التي حققتها منذ تأسيسها في عام 1971، حيث حققت ارتفاعات شبه إعجازية في جميع مؤشرات التنمية البشرية تقريبا.
باشرت الإمارات مسيرتها كبلد متخلف يضم عددا يسيرا من السكان الأصليين معظمهم من غير المتعلمين القابعين في زاوية منسية من العالم، واليوم غدت دولة الإمارات العربية مركزا عالميا، وقوة اقتصادية إقليمية، ومقصدا سياحيا شهيرا، ويصنف البلد في أعلى مراتب الدول من حيث الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد، ونضج البنية التحتية، والقدرة على المنافسة العالمية، وتقود الإمارات المنطقة العربية في مجال تيسير ممارسة الأعمال التجارية، كما أنها تقود العالم في مجال العلاقات.
تحولت البرية المقفرة إلى مراكز حضرية متقدمة وتعج بالسكان، كما تحولت الصحراء الشاسعة إلى أكثر العقارات فخامة وقيمة في المنطقة، إن لم يكن في العالم، وانبثقت الجزر الاصطناعية من البحر، ولكن الأهم من ذلك، هو التحول الذي شهده مجتمع الصيادين والتجار والبدو والفلاحين الصغير إلى أحد أكثر المجتمعات ازدهارا وتطورا وتفاؤلا في العالم.
بالنسبة لي، فقد شهدت ملحمة التطور من الداخل، بعد أن أنفقت حياتي بأسرها في الإمارات، حتى اضطررت للخروج منها مرغما، حيث تم طردي من البلاد بدون حكم قضائي في عام 2014، ولكن تلك قصة أخرى.
حتى الآن، لا زالت البلاد تركب عنان الموجات العالية، من خلال المشاريع الضخمة الجديدة التي تم إعلانها، بما في ذلك خطط إرسال بعثة إلى المريخ، ولا تزال الإمارات تقود المنطقة العربية في نموذج التفاؤل، كما تعد أكثر بلد يطمح الشباب العربي للعيش ضمنها، لكن خلف هذه الأخبار المبهرجة تتربص قصة مثيرة للقلق.
الإمارات العربية المتحدة بلغت ذروتها، فالنموذج الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي كان ناجحا بكل المقاييس في البداية بالنسبة للإمارات، يحمل في طياته بذور انهيار الدولة، ونموذج الدولة الريعية التي يشكل فيها المواطنون أقلية صغيرة متميزة يبدو متماسكا داخليا، ولكنه يستبطن حالة مؤقتة وغير مستدامة مقلقة وخطيرة، ويتجه نحو لحظة تصفية حساب لا مفر منها، والسنوات القادمة، كما أتوقع، ستشهد بزوغ هذا الواقع المؤلم بسرعة ليغدو أشد وضوحا وتأثيرا.
عندما تأسست دولة الإمارات كان عدد سكانها يقل عن 300 ألف نسمة، أما اليوم، فهي موطن لأكثر من 10 مليون نسمة، 88% منهم من غير المواطنين؛ رسميا، ينعت غير المواطنين بـ«العمال المهاجرين المؤقتين»، ولكن في الحقيقة، الكثير من هؤلاء يقضون كامل حياتهم في الإمارات.
منذ سبعينيات القرن المنصرم، انتقلت مئات الآلاف من العائلات العربية والآسيوية لهذا البلد، وساهمت بفاعلية كبرى بقصة نجاحه، كما أسست معظم قطاعات التنمية الرئيسية ضمنه، ولكن مع ذلك، لم تفسح الإمارات سبيلًا أمامهم للحصول على جنسيتها، وبعد عقود من الزمن، تضخمت ديموغرافية المهاجرين بشكل مطرد ضمن البلاد، وسكنها الجيل الثاني والثالث من المهاجرين الذين لم يعرفوا موطنا آخر لهم سوى الإمارات، وبقي هؤلاء يسمون بالسكان المؤقتين، رغم أن هؤلاء السكان من غير المواطنين، وبغض النظر عن تدني وضعهم القانوني بالمقارنة مع المواطنين، هم بلا شك جزء لا يتجزأ من تاريخ دولة الإمارات ومن مجتعمها الحديث ومتعدد الثقافات.
كثيرا ما تصف الحكومة التركيبة السكانية المختلطة ضمن البلاد بعبارة «عدم التوازن الديمغرافي»، أو «الخلل في التركيبة السكانية»، ولكن الأمر يتجاوز مجرد كونه خللا، إنه اتجاه قوي ومتصاعد، حيث تسبب التقدم السريع في مجال التنمية البشرية في دولة الإمارات بشكل متوقع بانخفاض حجم الأسرة؛ فأسفرت توافر فرص التعليم والعمل المناسبة للنساء عن تأخر سن الزواج وتأخر ميعاد الإنجاب، وتبدو انعكاسات ذلك جلية من خلال انخفاض معدل المواليد في الإمارات العربية من حوالي سبع ولادات لكل امرأة قبل الاتحاد إلى حوالي 1.82 ولادة اليوم، علمًا بأن معدل الاستبدال الديمغرافي للولادات في الإمارات يبلغ 2.1 ولادة في اليوم، بالمختصر، المواطنون الإماراتيون غير قادرون على جسر الفجوة الديموغرافية من خلال الولادة الطبيعية.
ولكن هذا الخلل الديموغرافي هو في الواقع حجر الزاوية في بعض أهم النماذج السياسية والاقتصادية التي تنتهجها دولة الإمارات؛ فعدد السكان المحليين منخفض بما فيه الكفاية للحفاظ على ديمومة نظام الرعاية السخي والمعتدل الذي يرعى المواطنين من المهد إلى اللحد، وهو أمر لم يكن من الممكن أن ينجح لو كان عدد السكان يزيد عن ذلك بشكل كبير.
الغالبية العظمى من المواطنين الإماراتيين يعملون بشكل مباشر لصالح الحكومة أو ضمن الشركات شبه الحكومية، كون 99% من القوى العاملة في القطاع الخاص هي من غير المواطنين، وبالنسبة للغالبية العظمى من المواطنين، الحكومة الإماراتية هي بمثابة رئيسهم بالعمل بكل ما للكلمة من معنى، والأهمية الكامنة في هذا التوصيف لا يمكن نكرانها، لأنها تحدد ديناميكية العلاقة التي تحكم صلة المواطنين بحكومتهم.
حتى الآن، مازال هذا النموذج مستقرا، ولكن هل يمكن له أن يستمر؟ تشير بعض الدراسات أنه بحلول عام 2050، سوف تتألف التشكيلة الديموغرافية في الإمارات من 4% من المواطنين و96% من غير المواطنين، وحينها ستضم هذه الشريحة الأخيرة الجيل الثالث والرابع من المهاجرين، وفي الواقع، النظام الحالي لا يمكنه استيعاب هذا العدد الهائل من التنوع السكاني، خاصة أن مواطني الدولة لا يستطيعون تعويض هذا الفارق بدون تحول اجتماعي وثقافي وسياسي حقيقي؛ فالدولة لا تستطيع «ترحيل» تسعة أعشار سكانها، كما أنها لا تستطيع الاستمرار باتباع نهج «اختلال التوازن الديموغرافي» دون أي تغيير، فكيف يمكن لأي بلد أن يتمتع بديمومة في الوقت الذي لا يتجاوز فيه معدل مواطنيه نسبة 4% من السكان؟
الأمر الأكثر إثارة للقلق في هذا السياق يتمثل بعدم مناقشته على الإطلاق داخليًا، فأخطر مشكلة هي أن أحدا لا يتحدث عن هذه المشكلة، ومنذ بداية الربيع العربي، الذي شهدنا مؤخرا ذكراه السنوية الخامسة، تم سلب عملية صنع القرار في الداخل الحكومي الإماراتي نحو نهج استبدادي ومضاد للثورة أقرب لحالة الذعر تقريبا.
تصب الحكومة الإماراتية جل اهتمامها الخارجي نحو التدخل الأجنبي، أما في الداخل فتركز جهودها على إغلاق مساحة النقاش وحرية التعبير، وبدون معارضة، لن تحوز الدولة أية مقاومة داخلية تجاه القرارات السيئة، كما اختارت القيادة السياسية المنغلقة على ذاتها انتهاج سياسة مألوفة تتمثل بعدم التسامح مع المعارضين، إلى جانب الترويج للشوفينية القومية المغلقة، المدعومة بالمغامرات العسكرية الأجنبية التي انخرطت بها البلاد مؤخرا.
اليوم، يعاقب المعارضون في الإمارات بتهمة الخيانة، والمعارضون المحتملون تساء معاملتهم أو يطردون بصورة استباقية، وذاك البلد الذي ترعرعت ضمنه والذي كان موئلا للمجتمع الفخور والمتفائل والديناميكي، أضحى مجتمعا أبكما، تم إخراس أصوات الكثير من سكانه وإحالتها للإذعان التام، وأضحى الكثيرون يتساءلون سرا عن الوجهة التي تخطو إليها البلاد قدما، وكثيرون آخرون لا يزالون غافلين عن التهديدات التي تحيق بهم، جراء انخراطهم دون انفلات في غمرة اندفاع حياتهم اليومية، وفي الواقع، يبدو من غير الطبيعي حقا كيف تبدو الحياة طبيعية في ظل هذه الظروف.
بعض الأسر من غير المواطنين حزمت حقائبها سلفا استعدادا لصدور قرار ترحيلهم المفاجئ، والبعض الآخر يدرس مليا خيار الهجرة، ولكن العديد منهم محاصرون في سباق الفئران، في محاولة للنجاة والمضي قدما ضمن أحد أكثر الاقتصادات والمجتمعات ديناميكية في المنطقة، بينما يجد آخرون العزاء في ميلوهم الاستهلاكية، أو يجدون ملاذهم في الترفيه أو الفن والأدب.
من المحزن حقا أن ندرك حقيقة أنه لم يكن بوسعي أن أكتب هذا المقال بتاتا لو لم أطرد تعسفيا من الإمارات العربية في أبريل/نيسان 2014، على خلفية نشاطي ضمن ثورات الربيع العربي، والحكومة حينئذ لم تكن بحاجة لرفع أي مذكرة قضائية ضدي، لأن وضعي القانوني كمقيم من غير المواطنين هو «مؤقت» بجميع الأحوال.
أنا نتاج لدولة الإمارات العربية المتحدة، وكل ما أنا عليه الآن صنع داخل هذه الدولة، لا أستطيع أن أجد الكلمات للتعبير عن مدى حبي لها، وكم أشتاق إليها، ومدى امتناني لمجتمعها وملحمتها البشرية التي ساهمت دون هوادة في صياغة هويتي وشخصيتي التي أبدو عليها اليوم.
الإمارات لم تكن بالنسبة لي «محطة» ليتم «ترحيلي» منها، إنها بلدي، بيتي، المنزل الوحيد الذي عرفته على الإطلاق، أنا قلق على دولتي، على القصة العربية الحديثة الأكثر نجاحا وإلهاما، الإمارات تستحق الإنقاذ، ولكن الأمر يتطلب شجاعة المعارضة لإحداث التغيير قبل فوات الأوان، إذا كنتم تحبون بلادكم حقا، فتجرؤا على المعارضة لأجلها، بارك الله في دولة الإمارات العربية المتحدة.