الإنسان سيّد لسانه، لا يفقِد لغتَه لأنّ الآخرين ينتزعونها منه، بل لأنه يُهمِلها، فإذا كان بعض العرب ينظُرون إلى لغتهم بازدراء، ويستخدمون غيرها، أو يُقحِمون، من دون مسوّغ، الكثيرَ من المفردات والتعابير الأجنبية في كلامهم، وممثّلو دول العرب لا يستخدمون العربية في المحافل الدولية، والأخطاء اللغوية الفادحة والفاضحة تملأ الصِّحافة الإلكترونية والورقية، هل ثمّة بعض الصحّة في توقّعات اليونيسكو بأن العربية ستكون من ضمن اللغات المرشّحة للانقراض خلال القرن الراهن؟
من المستحيل تصوّرُ إمكانية التعبير عن فكر ما بدقّة وشمولية وعُمق، من دون اللجوء إلى الكلمات. تُعتبر اللغةُ أروعَ أداة ٱخترعها الإنسان، وهناك مَن يذهب إلى أن اللغة من صُنْع إلهي، إلهام، لا اصطلاح، قبل مليون سنة تقريبًا وبدأت الكتابة بها قبل خمسة آلاف عام. في عصر العولمة هذا، تُواجه معظمُ لغات العالم، وهي تعدّ سبعة آلاف لغة، ضغطًا شديدًا، بسبب هيمنة الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والصينية.
ظاهرة انقراض اللغات قديمة وحديثة، ونادرًا ما يعرِف المثقّف العربي عنها شيئًا ذا بال. يُعرِّف اللغويّون عادة ’’اللغة المنقرضة‘‘ بأنّها تلك التي يتكلّمها أقلُّ من ألف إنسان. اندثار لغة ما، لا يعني أنها هَرِمت وذبُلَت ووهَنَت وهَوَت أرضًا، جرّاء عمرها المديد، إذ إنّ الموت قد يحلّ بلغة حديثة العهد أيضًا. يحدُث اندثار اللغات عندما تحتلّ لغةٌ ما، ذات هيبة ونفوذ، سياسيًا وٱجتماعيًا وٱقتصاديًا، مكانَ لغة ثانية. هذه الظاهرة تحصُل عادة لدى شعوب فقيرة وغير متقدّمة، وهي في أمسّ الحاجة لمواردها الثقافية للبقاء، وعلى رأسها اللغة الوطنيّة.
لا تتمخّض هذه الظاهرة عن زوال معجم لغة ما، وصرفها ونحوها فحسب، بل تتمخّض، قبل ذلك، وفي الأساس، فقدان تراث ثقافي معين، وفلسفة حياة، وضياع نافذة معيّنة على العقل البشري. وزوال التعدد اللغوي، يؤول إلى زوال تعدّد أنماط التفكير. اندثارُ لغةٍ ما معناه اندثار فكر وانتماء قوميّ وروحيّ، وتضعضُع هُوية لدى الفرد والجماعة.
أكثر حالات الموت أو الانتحار اللغوي شيوعّا، هي عندما يُصبح شعب ما ثنائيّ اللغة (bilingual) ويفضّل استعمالَ لغة الحاكم. أيّةُ لغة يهجُرها اللسان، مصيرها الأفول والنسيان. الإنسان، سيّد اللغة، لا يفقد لغته لأنّ الآخرين ينتزعونها منه، بل لأنه يُهمِلها، أي يلجأُ إلى عدم استعمالها وتطويرها وتكييفها لمستجدّات العصر في شتّى مجالات الحياة.
في الشبكة العنكبوتية تتصدّر الإنكليزية اللائحةَ بنسبة عالية جدًّا 68.4%، فاليابانية فالألمانية فالصينية فالفرنسية فالإسبانية فالروسية فالبرتغالية فالإيطالية فالكورية الجنوبية. أما العربية، فمرتبُتها أقلُّ من صفر فاصلة بعض الكسور. هذا، على الرغم من أن نسبة عدد العرب تصل إلى حوالي 4.5% من سكّان العالم.
ما المقصودُ من ’’العربية‘‘؟، أهي العربية الحديثة المعيارية (ع ح م/عحم، Modern Standard Arabic = MSA) أم الكمّ الهائل من اللهجات العربية المحلية التي هي لغةُ الأم بالنسبة للعرب؟ العحم ليست لغةَ أمّ طبيعية بالنسبة لأي إنسان عربي. لا ذِكرَ للفظة ”عربي“ في جوازات السفر، أو الهويّات الشخصية العربية، اللهمّ، على الأقل، باستثناء هُويّات أبناء الأقلية العربية الفلسطينية في إسرائيل، وهم قرابة المليون ونصف المليون نسمة، حتى السنوات الأخيرة الماضية.
ثمّة ألفاظٌ فضفاضة لا طائلَ تحتها مثل “اللغة هي ديوان العرب”، في حين أن العرب مفرَّقون حتى في اللغة، وما قد يوحّدُ بعضَهم لغويًّا، هو ما يُسمّى بلغة بين بين، اللغة الوسطى، اللغة المشتركة، لغة المثقفين.
ما مصير العحم في سياق الانقراض اللغوي؟ أهي في أزمة حقيقية؟ كانت اليونيسكو قد أكّدت أن العربية ستكون من ضمن اللغات المرشّحة للانقراض خلال القرن الراهن. تُواجه العحم خطرًا حقيقيًّا من مصدرين: من الخارج، أي اللغات الأجنبية، ولا سيّما الإنجليزية والفرنسية والعبرية. ومن الداخل، أي اللهجات المحكية. الاعتقاد الشائع بأن العربية لا يُمكن أن تندثر لأنّها لغةُ القرآن (الحجر: ٩ ’’إنا نحن نزلنا الذِّكْر وإنّا له لحافظون‘‘) فيه نظر، وقارن ما جرى للعبرية ذاتِ الكتاب المقدّس، واندثارها كلغة محكية طيلة ١٧ قرنا.
ثمّة عواملُ ودلائلُ غير مشجّعة بالنسبة لمستقبل العحم، مثل: حبُّها وتقديرها لا يتعدّيان عادة الشفتين؛ العرب، حكومات وشعوبًا، مغلوبون على أمرهم، تابعون، والمغلوب شغوف بالاقتداء بالغالب، كما قال ابن خلدون. ينظُر بعض العرب إلى لغتهم بازدراء ما معتبرين إيّاها منحطّة، ولذلك يُؤثرون استخدامَ غيرها من اللغات، أو في أحسن الأحوال يُقحمون دون مسوّغ، الكثيرَ من المفردات والتعابير الأجنبية في كلامهم. ذلك الاحتقار أو النفور لا ينجُم من فراغ، إذ الكثير من المعلمين والمؤسّسات الرسمية، لا تحترم العربية. المواضيع العلمية كالرياضيات تُدرَّس في الكثير من المدارس، وفي كل الجامعات العربية تقريبًا، باللغات الأجنبية، أما العربية، فتُسمع في حِصَص مثل التاريخ واللغة العربية ولكن بالعامية، وليس بالفصحى إلا لمامًا. والطامّة الكبرى أن على التلميذ العربي منذ المرحلة الابتدائية، أن يفهم ما يسمع بالعامية أوّلاً، وعليه التعبير عن ذلك في الدرس وفي الامتحان بالفصحى، وهيهات أن يتسنّى ذلك، في الغالب الأعمّ، لمعلّم العربية نفسه! أهناك أغربُ من هذه الحالة المعروفة جيّدًا، ولم تلقَ بعدُ الحلَّ الشافي! هذا الوضع يؤدّي إلى ازدهار ظاهرة الحِفظ غيبًا، البصم. قيل: كي يقرأ العربيُّ بشكل سليم، عليه أولًا أن يفهم، وعادة يقرأ الإنسان ليفهم.
هوّة الازدواج اللغوي بين الفصحى والعاميّات (diglossia) عميقة جدًا، إذا ما قورنت بالوضع المماثل في لغات أخرى كثيرة؛ الأميّة في المفهوم التقليديّ متفشية في العالم العربي، قيل: ”إن أمّة إقرأ لا تقرأ وإن قرأت فبالأُذُنين. معدّل ما يقرأه الفرد سنويًا في الغرب هو خمسة وثلاثون كتابًا، أمّا عند العرب، فهناك كتاب واحد مقروء لكل ثمانين فردًا. أبناء النخبة أو الذَّوات يدرُسون في مدارسَ أجنبية، أو مدارس خاصّة، ونصيب العربية فيها فُتات؛ زعماء العرب لا يُقدّمون أُنموذجًا حسنًا لشعوبهم؛ ممثلو دول العرب في منظّمة الأمم المتّحدة، وفي محافل دولية أخرى، لا يستخدمون عادة العربية؛ أين هو المعجم التاريخي للعربية؟ متى يُعرَّب التدريس الجامعيُّ في البلدان العربية، أُسوة بالجمهورية العربية السورية مثلاً؛ مناهج التدريس بحاجة ماسّة للتعديل والتطوير الدائمين؛ تبسيط تعليم قواعد العربية، والتركيز على الجانب الوظيفي فيها (functional grammar) والابتعاد عن التقعرّ والتعليلات التي تعلّ قلوبَ الطلاب وعقولَهم؛ افتقار شديد لمفردات العصر؛ ظاهرة شيوع الأخطاء اللغوية الفادحة والفاضحة في الصِّحافة الإلكترونية، بخاصّة، والورقية، بعامّة؛ مكانة أستاذ اللغة العربية بحاجة ماسّة للدعم معنويًا وماديًا، والإشراف الحقيقي والمتواصل على تأهيله؛ غِياب المدقّق اللغوي في دور النشر؛ محاولة تقليص نسبة الأمية، ولا سيّما عند النساء في العالم العربي، فهنّ عماد التربية؛ إعلاء شأن أدب الأطفال أمانةٌ مقدّسة في أعناق وزارات التربية والتعليم، وربما المثقّفين أوّلاً. نقول كل هذا، على الرغم من أن العربية هي إحدى اللغات التي حملت مخزونًا ثقافيًا مُهمًّا إلى جانب الصينية والسنسكريتية واليونانية واللاتينية.
أهناك أمّة لا تحترم فعلاً لغتَها مثل العرب؟ الصين وكوريا الجنوبية واليابان وغيرها أمثلة يُحتذى بها، حافظتِ اليابانُ على تراثها اللغوي، على الرغم من إنجازاتها التكنولوجية المميّزة، ولم تُهرول وتلهَث لإعلاء شأن اللغات الأجنبية على حساب اليابانية.
ماذا سيكون جوهر العحم في أواخر هذا القرن؟ أيّة مكانة ستكون للعربية بعد نُضوب آبار الذهب الأسود العربي؟ ما طبيعة مكانتها في حالة انحسار الإرهاب الأصولي الإسلامي من ”قاعدة“ و”داعش“ و”النصرة“وما يدور في فلكها في العالم أو تفاقمه؟
في الديار المقدسة آمُل أن تتضافر جهودُ أولياء الأمور والمعلّمين بُغيةَ الحِفاظ على العربية الفلسطينية المحكية وتنقيتها من سيل شوائب الدخيل المتزايد وغير المبرّر، العَبْرَنة والتَّعَبْرُن والتصَهْيُن الفكريّ، وإلا فإنّها ستكون في خطر حقيقي في نهاية هذا القرن. قد يكون القول بأن العحم والعربية المحكيّة ليستا في ”حالة صراع“ صحيحًا، ولكن هناك تفاعلًا بينهما والصراع بين هذين النمطين اللغويين يعيشه ويقاسيه كلّ عربي مثقّف طَوالَ حياته. العحم عامل موحِّد لسائر العرب الذين أنهوا، على الأقلّ، المرحلة الثانوية، في حين أن العربية المحكيّة مفرّقة. حالة اللغة، أيّة لغة، منوطة في المقام الأوّل بمستوى متكلّميها العلمي والثقافي والاقتصادي، فكلّما تقدّموا وأنتجوا وأبدعوا، اتَّسعت لغتُهم واستوعبتِ المستجدّاتِ.
إنّ معرفة اللغة، أيّة لغة بشرية حيّة، معناها، في الأساس، الحديث بها كابن اللغة تقريبًا. ما نعرِفه عن لغات العالم بشكل كافٍ لا يتعدّى ٥-١٠٪ منها. عندما سُئل الفيلسوف المعروف “كونفوشيوس” (551-479 ق.م.)، ”نبي الصين“، عمّا سيقوم به بدايةً من إصلاحات عند تسلّمه الحُكمَ أجاب:
”أبدأ بإصلاح اللغة وبإعادة وصْل اللفظ مع معناه“.
إنّ بدايةَ الثورة هي في اللغة، أليس كذلك؟
ملحق:
اقتراحات وتوصيات ومواقف لحماية العربية لا سيّما في البلاد وتطويرها
١) حُبّ العربية واحترامُها يجب أن يتجلّى بالفعل لا بالقول.
٢) لا بدّ من التعاون بين العائلة ومدرّسي العربية بغية تحقيق الحبّ والاحترام المذكورين.
٣) العمل الجادّ من أجل تقليص نسبة الأميّة لدى النساء فهنّ عِماد التربية الأولى.
٤) تجربة الدكتور عبد الله مصطفى الدنّان في تعليم العربية المعيارية الميسّرة، ابتداءً من مرحلة روضة الأطفال، جديرة بالتطبيق في بعض الأماكن، على الأقلّ حيث يُبدي بعض أولياء الأمور استعدادًا للمساهمة في تطبيق تعليم المحادثة بالعربية المكتوبة.
٥) يجب تعليم اللغة العربية المعيارية فقط (لا عبرية ولا إنجليزية أو فرنسية في هذه الفترة) في الصفوف الابتدائية الأربعة الأولى. التمكّن من لغة الأمّ عامل هام جدًّا لبناء هُوية الإنسان وفي اكتساب لغات أخرى أيضا.
٦) وجوب توفير المكتبات والحواسيب في كلّ المدارس والمكتبات العامّة في كلّ التجمّعات السكّانية العربية.
٧) تشجيع الطلاب المناسبين على اختيار أربع أو خمس وحدات في امتحانات اللغة العربية في نهاية المرحلة الثانوية (البجروت) ثم التخصّص بها للانخراط في سلك التدريس مستقبلاً.
٨) محاولة ترسيخ حبّ المطالعة منذ الصغر ليصدق القول” إنّ أمة إقرأ تقرأ!
٩) تشجيع التلاميذ على إعداد نَشَرات الحائط والقيام بفعاليات ثقافية.
١٠) القراءة والتحدّث والكتابة باللغة العربية أمور ضرورية جدًّا، إذ أنّ كلّ عضو لا يؤدّي وظيفتَه سيندرس، لا محالة.
١١) غنيّ عن القول، إنّ تعليم قواعد العربية يجب أن يكون وظيفيًّا ووفق المنهجية والأبحاث المعاصرة. لا بدّ من بذل جهود جادّة لتمكين الطلاب من اكتساب الملكة اللسانية، وهذا يتأتّى من خلال القراءة المستمرة لأمّهات الأدب والاستماع للعربية المعاصرة المعيارية. في نهاية المطاف يصل الإنسان الجادّ إلى مستوى لغة الأم لهذا النمط اللغوي.
١٢) على مدرّسي المواضيع الأخرى مثل التاريخ والجغرافيا والمدنيات ممارسة لغة بين بين بقَدْر الإمكان.
١٣) لغة التدريس في الكليّات العربية، يجب بموجب القانون أن تكون العربية فقط (طبعًا باستثناء تدريس لغات أخرى كالعبرية والإنجليزية). لا بدّ من التأكيد على الرسالة الهامّة الملقاة على هذه الكليات في مجال إعداد كادر مدرّسي العربية في المدارس الابتدائية والثانوية. إنّها تقوم مقام الجامعات لغيابها في البلاد، والجامعات الإسرائيلية لا تؤهّل مثلَ أولائك المدرّسين، إذ أن لغة التدريس هي العبرية وسماع العربية هناك سِلعة نادرة.
١٤) يجب استعمال العربية في كلّ المجالس والبلديات العربية.
١٥) إقامة جامعة عربية في إسرائيل ضَرُورة قُصوى لحماية العربية وتطويرها.
١٦) على المنظّمات غير الحكومية، البالغ عددها زهاء الألفين، استخدام العربية والأمر ذاته ينسحب بالنسبة للمصانع الصغيرة والوَرْشات.
١٧) على الشخصيات العربية العامّة، مثل أعضاء الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) استعمال لغتهم القومية، إذ أنّ استخدام العبرية (قد تكون أسهلَ للبعض) لن يُقنع أغلبيةَ الأعضاء ولن يحظى بتعاطفهم.
١٨) وُجوب وجود خبراء في اللغة العربية في إدارة الإذاعة والتلفزيون والصِّحافة الورقية والإلكترونية.
١٩) على الأحزاب العربية إدراج موضوع اللغة في خُطَطها وبرامجها.
٢٠) على كاهل مجمع اللغة العربية في حيفا ملقاة مهمّة إيجاد بدائل عربية ملائمة لما في العربية من دخيل عبري صارخ، والمساهمة في تأهيل مدرّسي العربية من خلال دورات استكمالية دورية.
٢١) يجب أولاً استعمال العربية بموجب القانون في كتابة أسماء المحلات على أنواعها.
٢٢) بمقدور الناس حِماية لغتهم ورعايتها إن رغِبوا في ذلك، وليس فقط إلحاق الهزيمة بالنظام. ربيع اللغة العربية لن يكون مجرّد حلم خيالي.
٢٣) الاستمرار في النضال من أجل جعل العربية لغةً رسمية في الواقع، وليس على الورق فحسب.
٢٤) العربية لغة الإسلام العربيّ والمسيحية العربية.
٢٥) ضَرورة جمع وتوثيق مختلف ألوان الفولكلور الفلسطيني، مثل الحكايات والأغاني والأمثال والطرائف والألغاز، من أفواه المسنّين والمسنّات قبل فوات الأوان.
٢٦) يجب حِماية الطبيعة وتعلّم أسماء الثروتين، الحيوانية والنباتية، في إطار البرنامج الدراسي.
٢٧) وزارة التربية والتعليم هي بمثابة جيش الدفاع الإسرائيلي بالنسبة للعبرية، والسؤال الطبيعي المطروح: من سيكون المدافع المؤهّلَ عن العربية؟ إنّه معلّم العربية!