تونس – شمس الدين النقاز (خاص)
تناقلت وسائل الإعلام العربية والدولية قبل أيام أخبارا مفادها اعتزام السلطات الهولندية غلق 8 سجون بالبلاد بسبب ما أظهرته بيانات حكومية مؤخرا من تراجع أعداد السجناء بصورة كبيرة، حتى بات عددهم أقل من أعداد حراس السجون والعاملين فيها.
من المفارقات العجيبة ومن المضحكات المبكيات في نفس الوقت، أنه في حين قرّرت هولندا إغلاق وحدات سجنية، أعلنت تونس بناء أخرى جديدة بعد أن وصل الإكتظاظ داخل السجون القديمة إلى أكثر من 150%.
هذا الموضوع الطريف دفعنا للتساؤل عن حال السجون التونسية مقارنة بنظيرتها الهولندية ولماذا تكثر الجرائم ويرتع أعداد المجرمين في تونس في حين تنخفض في الدول الأوروبية وعن أسباب الأوضاع الّتي وصلت لها المنظومة السجنية في البلاد.
تقرير المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب 2 فبراير 2016:
قالت المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب في تقريرها الشهري لشهر يناير 2016 اليوم الثلاثاء إنها توصلت “خلال شهر جانفي 2016 بعشر ملفات تتعلق بانتهاكات سلطت على أشخاص محتفظ بهم أو موقوفين تحفظيا أو يقضون عقابا بالسجن.”
وأضافت المنظمة “يشتكى السجناء من الإهمال الطبي وخاصة منهم المصابين بأعراض نفسية أو عصبية. وفي حالات تكون هذه الأمراض سببا في توتر السجناء وهو ما يؤدي إلى تعنيفهم من قبل الأعوان وتسليط العقوبات عليهم من قبل الإدارة،وأن السجناء يغادرون السجن وقد تعكّرت حالاتهم النفسية والعصبية بسبب انعدام الرعاية اللازمة.”
بالإجماع: أوضاع السجون كارثية
أوضاع الوحداث السجنية في تونس كارثيٌّ جدًّا، ويغالط نفسه من يحاول أن يدّعي خلاف ذلك، فالزيارات المتتالية للناشطين من المجتمع المدني ورابطات حقوق الإنسان والمنظمات الدولية وحتّى وزراء العدل أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن السجون التونسية لا تستجيب للمعايير الدولية كمّا وكيفا.
فنسبة الإكتظاظ في هذه السجون بلغت حسب الناطق الرسمي باسم الإدارة العامة للسجون قيس السلطاني 150 بالمائة وتصل أحيانا إلى 200 بالمائة، موضحا أن المسألة مرتبطة بنسبة الإيقافات، حيث أنّ السجن المدني بالمرناقية بالعاصمة مخصص للموقوفين، لكنه وجراء الإكتظاظ وتطبيق القانون، به أكثر من 1800 سجين صدر فيهم أحكاما نهائيّة.
وأوضح السلطاني لوكالة الأنباء التونسية قبل نحو أسبوعين “أن طاقة استيعاب السجون التونسية تتجاوز بقليل الـ15 ألف سجين، لكن وحسب إحصائية لشهر ديسمبر فقد تجاوزت الـ26 ألفا أي بنسبة 170 بالمائة.
من جهتها كتبت صحيفة الصباح التونسية تقريرا في شهر فبراير 2015، قالت فيه “إنّ كل التقارير الحقوقية والإعلامية تشير صراحة إلى أن أوضاع السجون ليست بخير وأن هناك عدة خروق وتجاوزات وأن الظروف الإنسانية تكاد تنعدم في بعضها وأن ظروف المرحلة أفرزت مئات المساجين الذين لهم وضعية خاصّة ومعقّدة وخاصّة الموقوفين على ذمة قضايا إرهابية.”
وأضافت الصحيفة “أنه منذ الثورة وإلى اليوم وخاصّة بعد فتح السجون أمام الإعلام، أصبحنا نستمع إلى حكايات مخجلة عما يحدث في مؤسسات تحمل، إلى جانب صبغتها العقابية ،الطابع الإصلاحي.”
وفي شهر فبراير من العام نفسه، أوضح تقرير مكتب الأمم المتحدة أن جميع السجون التونسية تعيش هذه الحالة من الإكتظاظ مثل سجن المسعدين وجندوبة والقيروان والقصرين وقفصة وصفاقس، مشيرا إلى أن الغرفة عدد 8 من سجن الهوارب تأوي 125 سجينا في حين أنها لا تستوعب سوى 50، ويضم السجن المدني بالكاف، وهو مركز إيقاف، 111 محكوما و422 موقوفا رغم أنه لا يستوعب سوى 414 سريرا.
كما جاء في التقرير أن سجن المرناقية الذي يستوعب 5021 سريرا يضم 6308 سجينا ، مؤكدا أن حالة الاكتظاظ تؤدي حتميا إلى انتشار الأمراض الجلدية وارتفاع نسبة العنف.
الأوضاع داخل السجون قاسية جدا
“الظروف داخل سجن النساء بمنوبة قاسية..هناك نقص في كل شيء..لا نتمتّع بالعلاج اللازم في الوقت المناسب..إدارة السجن لا توفّر الأدوية وتكتفي ببعض الأقراص المسكنة التي قد يتطلّب الأمر مجهودا ومشقة للحصول على قرص منها..لا يقدّموا لنا وجبة الفطور ..ومن لا تأتها “القفة” تتضوّر جوعا..”الشربة” و”المقرونة الكذّابة” هما الوجبتان “المعتمدتان” طوال الأسبوع.. نحن لا نعرف من اللحم إلا لحم الدجاج وهو مسموح به مرّة واحدة في الأسبوع.
السجينات تشتكي أيضا من الإهمال والبرد، إذ أنه لا يحق للسجينة الواحدة أكثر من غطاء، غطاء صوفي “مهلهل” لا يقي من برد هذا الشتاء القاسي،وإذا لم تتدارك العائلة الأمر وتجلب الأغطية الصوفية اللازمة فان السجينة ستجد نفسها دون غطاء يقيها البرد في ليالي الشتاء الطويلة “كحال أغلب السجينات المنبوذات من العائلة والمجتمع.”
كانت هذه الشهادة القاسية والمؤلمة لإحدى السجينات المفرج عنهن من سجن النساء بمحافظة منوبة، في أحد البرامج الإجتماعية على قناة حنبعل التونسية الخاصة، حيث روت السجينة السابقة بكلّ تأثّر تفاصيل مؤلمة عن أيام السجن الباردة والحزينة، وقد أماطت هذه الشهادة اللثام عن واقع متردّ داخل أغلب السجون التونسية التي تحوّلت إلى بؤر لتلقين الجريمة ولتخريج عتاة المجرمين وعتاة الإرهابيين.
وفي هذا السياق ذكر الناشط الحقوقي زهير مخلوف أنه وفي أثناء زياراته لسجن المرناقية والسجون التونسية بعد الثورة مع مجموعة من النشطاء بينهم فيوليت داغر رئيسة اللجنة العربية لحقوق الانسان لاحظ أنّ “انتهاكات حقوق الإنسان والمساجين متواصلة بعد الثورة من حيث عدم توفير ظروف لائقة للإقامة وإجراءات التحقيق والمحاكمة العادلة.”
الأوضاع داخل السجون
في شهر أبريل 2014 نبّه مكتب مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان بتونس، إلى أن “الإكتظاظ” وتقادم البنى التحتية للسجون التونسية يضرّ بصحة المساجين ويتسبب في “تفريخ المجرمين”.
ونشر المكتب تقريرا بعنوان “السجون التونسية بين المعايير الدولية والواقع” ذكر فيه أن عددا كبيرا من السجناء هم في بداية العشرينات ومنهم من يزاول تعليمهم في مؤسسات جامعية ونسبة 66 بالمائة هم في سن العمل (بين 18 و 49 عاما).
كما كشفت المفوضية عن جوانب قاتمة من عالم السجون السرّي حيث أشار التقرير أنه وفي أغلب الوحدات السجنية يتناوب نزيلان أو أكثر على نفس “الفراش” ،وأن هناك الكثير من المساجين يضطرون لافتراش الأرض لعدم توفّر سرير.
وفي هذا السياق قالت جريدة الصباح التونسية في تقريرها المشار إليه، “في غياب السرير لا يجد السجين أمامه إلا «الكدس» حسب التعبير المتداول داخل السجن والمقصود النوم على الأرض وافتراش أي شيء- للنوم في زنزانات مغلقة تفتقد أحيانا إلى أدنى الشروط الصحية من تهوئة وإضاءة ،وبعض المساجين لهم مع «الكدس» الذي يضطر للنوم عليه السجناء ضعاف البنية وصغار السنّ وغير الضالعين في عالم الجريمة وكذلك الذين يرفضون لعب دور الوشاة في الزنزانة بينما نجد «الكبران» ،السجين المسؤول عن الزنزانة ،وجماعته ومقربيه يتمتعون بالنوم على الأسرة.”
مازن شقورة نائب ممثل المفوضية السامية لحقوق الإنسان بتونس قال إن الإكتظاظ والبنى التحتية “المتهالكة” للسجون التونسية تتسبب في “تردي الحالة الصحية للسجناء وأن الاكتظاظ يؤثر على النظافة الشخصية للمساجين، إذ يكون الوقت المخصص للاستحمام أقلّ من اللازم…ولذلك تنتشر بين السجناء الأمراض الجلدية مثل الجرب خصوصا في الصيف”.
كما أضاف أن “عضلات المساجين تصاب بالهزال لانهم لا يتحركون ويقضون 23 ساعة في اليوم داخل الزنزانات”.ومضى يقول “بسبب الاكتظاظ ينام، في كثير من الاحيان، كل سجينين اثنين في سرير واحد، هو في الاصل سرير مخصص لشخص واحد”.
تونس في المرتبة 28 عالميا بنسبة السجناء
و يذكر التقرير الذي أعدته المفوضية أنه «بالرجوع إلى قائمة تعداد المساجين في العالم التي أعدها المركز الدولي للدراسات السجنية تحتل الجمهورية التونسية المركز 28 على مستوى العالم من حيث تعداد السجناء لكل 100 ألف مواطن بحساب 297 سجينا لكل مئة ألف مواطن مما يجعلها البلد العربي الثالث في افريقيا بعد المغرب والجزائر». وأوضح نائب ممثل المفوضية السامية لحقوق الانسان أن تحسين واقع السجون في تونس يتم بالتعاون مع المنظومة الدولية، في حين ستتولى المفوضية التدريب والعمل على تحسين التشريعات بداية من ماي 2014 على حد تأكيده.
مقارنة بين تونس وهولندا
إن الكرامة البشرية في السجون الهولندية تحفظ وتحترم ولا تداس، لأن العقوبة لا تكون مرتين أولها السجن وثانيها التنكيل بالسجين، في حين يعاقب السجين في تونس مرّتين، ولعلّ العقوبة الثانية تكون أقسى من الأولى حيث يجد المُدان سجونا في وضعية كارثيّة ومعاملة سيئة للغاية من قبل بعض أعوان السجون اللّذين يستمتعون بتعذيب السجين والتنكيل به عند دخوله السجن بل وحتّى أثناء خروجه.
ففي هولندا كانت توصية تحالف العدالة الإجرامية (الذي يضم أكثر من 60 منظمة) إلى الحكومة الهولندية بالوقف “العاجل” للإستخدام “غير الضروري” للسجون والإبقاء عليها فقط للمجرمين العنيفين والخطرين والمصرين على ارتكاب الأعمال الإجرامية، ممن لا تنفع معهم أي عقوبة بديلة…“ في حين دعت بعض الجهات في تونس بتوسيع السجون وبناء أخرى جديدة للزج بمعتقلين جدد بها بسبب الشبهة.
كذلك فإنّ القول المأثور في هولندا “من فتح مدرسة… أغلق سجنا” لا يمكن للمسؤولين في تونس أن يفهموه وحتى إن فهموه فلن يفقهوا مراده، حيث أعلن الناطق الرسمي للإدارة العامة للسجون و الإصلاح والمكلف بالإعلام قيس السلطاني مؤخّرا، أن ثلاثة سجون جديدة سيتم إنجازها في تونس وفق مواصفات عالمية قريبا، في حين قالت بلاد الطواحين إنها ليست بحاجة لفتح مدارس حتى تغلق سجونها، لأنها تنوي إغلاق ثمانية سجون قريبا جداً.
لبحث عن الحلول العاجلة والناجعة
إنّ نسبة العودة إلى السجون التونسية حسب تقرير المفوضية السامية لحقوق الإنسان عالية جدا، حيث تبلغ 45 بالمائة وهو رقم يؤكد أن السجون التونسية تفتقد لكل آليات تأهيل وتأطير المساجين اللّذين تم القضاء على مستقبل الكثير منهم لأسباب كان بالإمكان تلافيها بعقوبات ردعية أخرى غير السجن.
وفي الأخير يجب على السلطات المعنية في تونس أن تجد الحلول اللازمة والناجعة للحد من هذه التجاوزات الكبيرة التي كثرت داخل السجون التونسية من عديد الجهات، كما عليها أن تنصت لمطالب المنظمات الحقوقية بتحسين الأوضاع واحترام الموقوفين داخل السجون ومراكز الإيقاف واحترام الكرامة البشرية والإسراع بإصلاح منظومة التأديب داخل السجون وكذلك نظام العقوبات وخاصة نظام السجن الإنفرادي وإصلاح نظام شكاوى السجناء والمحتفظ بهم.
بالإضافة إلى معاقبة أعوان السجون اللّذين يمارسون التعذيب والعنف، وإصلاح منظومة الرعاية الصحية والنفسية داخل السجون في أسرع الأوقات نظرا لوضع الإهمال الذي يعانيه مئات السجناء والموقوفين مع ضرورة تحمل القضاء مسؤوليته في معاينة آثار التعذيب وفتح تحقيقات بشأنها ومحاسبة مرتكبي الإنتهاكات من أعوان السلطة العمومية وفق ما دعت إليه المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب.