تفكيك دكتاتورية محمد بن زايد

د. سامي الجلّولي – وطن (خاص)

أعلى سلطة في الإمارات هي سلطة الرئيس. لكن النظام الإماراتي ليس رئاسي بالمفهوم التقليدي للنظام الرئاسي ولا هو نظام برلماني بالمفهوم التقليدي للنظام البرلماني. هو خليط من النظام الملكي الدستوري مع نظام الحكم الرئاسي.

نظام متداخل، تجتمع فيه خصائص النظام الملكي (الأميري) القائم على الخلافة (ولي العهد) في الحكم بخصائص النظام الرئاسي، من كونه نظاما رئاسيا شكليا والدليل أنه لا يخضع للانتخابات العامة، الحرة، المباشرة والسرية، بل تخضع تسمية الرئيس إلى توافق بين حكام الإمارات السبع الذين يشكّلون ما يعرف بمؤسسة ”المجلس الأعلى للاتحاد“ وإن كان عبر الانتخابات إلا أنه جرت العادة منذ تأسيس الاتحاد سنة 1971 أن يكون الرئيس حاكم أبو ظبي ونائب الرئيس حاكم دبي.

تمثل مؤسسة رئاسة الاتحاد الفدرالي أو مؤسسة الحكم المحلي (داخل كل إمارة) أزمة شرعية فبالإضافة إلى أن الحكم منحصرا في العائلات الحاكمة عن طريق الوراثة إلا أن هذا النوع من الحكم لم يكن مستقرا ولم يكن التداول على الحكم سلميا حيث عرفت الإمارات الكثير من المؤامرات والاغتيالات السياسية التي كانت تحدث داخل الأسر الحاكمة نتيجة غياب لمؤسسات مدنية ودستورية تكفل سلاسة انتقال السلطة، لعلّ أشهرها اغتيال الشيخ “طحنون” من طرف شقيقه الشيخ “حمدان” وافتكاك السلطة منه ثم اغتيال “حمدان” من طرف شقيقه الشيخ “سلطان” وافتكاك الحكم منه ثم لم يلبث أن اغتيل الشيخ “سلطان” من طرف شقيقه الشيخ “صقر” الذي اغتيل بدوره من طرف الشيخ “خليفة” الذي سلّم الحكم لابن أخيه الشيخ “شخبوط” الذي كان منفيّا في إمارة الشارقة صحبة إخوته الشيخ “زايد” والشيخ “خالد” والشيخ “هزّاع”، ليحكم أبو ظبي لمدة 28 سنة وذلك من 1928 إلى 1966. ورغم مرابطة الشيخ “شخبوط” قلعة “قصر الحصن” لخوفه من الاغتيالات إلا أنّه لم ينجو من انقلاب أبيض رتّبه له شقيقه الشيخ “زايد” (مؤسّس الإمارات) بتعاون مع الإنجليز حيث أزاحه من الحكم سنة 1966 وقام بنفيه إلى بيروت ثم سمح له بالعودة وسكن بإمارة العين إلى أن توفي سنة 1989.

لا تشكو الإمارات أزمة شرعية سياسية فقط بل إنّ عدم التوازن في توزيع الثروات بين الإمارات السبع جعل الحكم ينحصر بين عائلتي آل نهيان حكام إمارة أبو ظبي التي تحتكم على أهم الثروات الطبيعية (بترول وغاز) وآل مكتوم حكام إمارة دبي الذين يديرون أهم مركز دولي للخدمات والتجارة الحرّة.

وقد جرت العادة أن المناصب القيادية لا تتغير إلا في حالة وفاة الرئيس أو الحاكم مما يجعل بعض المؤسسات الدستورية شكلية ولا يتجاوز كونها وضعت لتمتين وتركيز الاتحاد وحكامه السبعة بصفة دستورية تنضاف إلى الصفة

الوراثية. إذ لو كانت هذه المؤسسات تؤمن بالديمقراطية وبعدم التمييز بين حكام الإمارات السبع لكان منصب رئيس الدولة دوّارا بين أعضائه كما الحال في سويسرا التي يرأسها بصفة دورية (سنويا) أحد مستشاريها الفدراليين السبعة (وزراء) أو ما يطلق عليهم بالحكماء السبع.

إنّ رهن تغيير منصب القيادة في هرم السلطة سواء كانت محلية أو مركزية في حالة الوفاة لا يشمل الإمارات فقط بل جل المنطقة والحالة الوحيدة التي تنحّى فيها الحاكم، هي دولة قطر سنة 2013 عندما تنحّى الأب الشيخ حمد لصالح ولي عهده ابنه تميم.

 تتلخص الحياة السياسية ونظام الحكم في الإمارات في مجلسين اثنين: “المجلس الأعلى للاتحاد” و”المجلس الوطني الاتحادي” وهما مجلسان مسخرة ليس لهما أي نشاط سياسي بالمفهوم العام ولا يعدوا أن يكونا تمثيلا للحاكم وشرعنة للحكم وأدواته.

المجلس الأعلى للاتحاد (مجلس سلطة الشيوخ)

ليس مجلسا لنواب منتخبين من طرف الشعب لتبليغ أصواتهم إلى السلطات أو لسن القوانين أو لتمثيل المعارضة مثلما هو الحال في الكويت. بل مجلسا لإدارة الإمارات يجمع شيوخها السبع. يمثل السلطات المطلقة للشيوخ فيما بينهم. ليس للشعب أي دور في ذلك، ينوبونه في ذلك شيوخ إماراته الذين قد يختلفون في توزيع الغنائم ولكن يتفقون من حيث الوصاية على الشعب. هذا المجلس، خلاف اسمه، فهو مسخرة إماراتية يتبارى فيها حكام أبو ظبي ودبي على تبذير المال العام وتفقير الشعب والعمل على جعل النسبة القليلة من السكان الأصليين مجرّد قطيع من الغنم أو مجرد عبيد وجواري وما ملكت أيمانهم. لا يمكن لإماراتي أن يعارض قرارات المجلس أو سياسة الدولة أو أن ينتقد مناهجها وخططها التنموية أو حتى إبداء النصح. فالحاكم هو من يسن القوانين والأوامر وهو القائد والمبدع والمفكر والطموح وصاحب “الرؤية” وما على البعض إلا الرجوع لكتاب “رؤيتي” لأمير دبي محمد بن راشد آل مكتوم (صدر في 2006) للوقوف على كلّ ما ذكرناه (رغم أن الكتاب ليس من تأليفه مثلما يذهب إلى ذلك البعض بل أن من كتبه وفق بعض التسريبات هو فلسطيني مقيم بالإمارات!)

المجلس الأعلى للاتحاد أو مجلس الشيوخ هو مجلس دكتاتوري لا يؤمن بالفصل بين السلط، يجمع في قبضة واحدة السلطة التشريعية والتنفيذية متعارضا ومبدأ الفصل بين السلطات الذي يهدف إلى إيجاد توازن بين السلط الثلاث لغاية منع الاستبداد و”التغوّل” في ممارسة السلطة. بالإضافة إلى جمع هذا المجلس للسلطتين التشريعية والتنفيذية فإنّ تركيبته الداخلية تشكو عدم توازن في الصلاحيات بين أعضاءه حيث يمنح حاكمي إمارة أبو ظبي وإمارة ودبي حقا مطلقا يتمثل في حق الفيتو أو النقض Le droit de veto.

فمن حق حاكم دبي أو أبو ظبي أو كلاهما معا الاعتراض وإجهاض أي قرار أو تشريع مقترح للتصويت عليه طالما أنه لا يخدم مصالح الإمارتين بدرجة أولى.

ينص الدستور الإماراتي في مادّته 49: “تصدر قرارات المجلس الأعلى في المسائل الموضوعية بأغلبية خمسة أعضاء من أعضائه على أن تشمل هذه الأغلبية صوتي إمارتي أبو ظبي ودبي. وتلتزم الأقلية برأي الأغلبية المذكورة”.

معنى ذلك أنه لو طرح أحد القرارات للتصويت فعليه أن يجمع أغلبية خمسة أعضاء من جملة سبعة شريطة أن يكون من ضمن الخمسة صوتا إمارتي أبو ظبي ودبي وإلاّ فإن القرار لن يمرّ ولن يصادق عليه ويعتبر في حكم المنقوض آليا.

يقول محمد بن راشد آل مكتوم حاكم دبي في كتابه “ومضات من فكر” Flashes of thought (صدر في 2014): “القائد العظيم يصنع قادة عظماء، ولا يختزل المؤسسة في شخص واحد فقط”.

وفق هذه المعايير هل يمكن اعتبار محمد بن راشد آل مكتوم أحد القادة العظماء؟ وإن كان كذلك فهل صنع قادة عظاما؟ وهل اختزل المؤسسة في شخصه أم أنه قام بتشريك العامة في اتخاذ القرارات السياسية؟

لا نجد ذكرا للديمقراطية والمشاركة والمبادرة في الحياة السياسية إلا في كتب محمد بن راشد آل مكتوم. تبقى كتبا نظرية تدور حول شخصه الشاعر والمفكر والملهم والقائد والمعلّم، لكن رؤاه وومضاته لا يمكن لأحد غيره أن يشاركه فيها أو أن يكون صاحب “رؤية” أو “ومضة” مخالفة لرؤى وومضات الشيخ.

داخل المجلس الأعلى للاتحاد تختزل هذه المؤسسة في شخص حاكمي أبو ظبي ودبي. خارج هذا المجلس وفي داخل مؤسسة الحكم المحلية في كل من إمارة أبو ظبي أو دبي تختزل هذه المؤسسة في شخص محمد بن زايد ومحمد بن راشد كلّ في إمارته.

مثلما يمارس محمد بن راشد (أو كذلك ولي عهد أبو ظبي) حق الفيتو داخل المجلس الأعلى للاتحاد فهو شأنه شأن باقي حكام الإمارات السبع يمارس سلطات أوسع داخل إمارته تتمثل في الإقصاء والتهميش والقمع حيث ينظر “للمواطن” الفاقد لحق المواطنة كقطيع يساق لا يمكنه إبداء الرأي أو مخالفة رؤية أو ومضة أي حاكم.

المجلس الوطني الاتحادي (مجلس التزكية الآلية للسلطة)

“المجلس الوطني الاتحادي” يظهر للقارئ أنه يمثل البرلمان الإماراتي. يعاني هذا المجلس شأنه شأن المجالس الأخرى الضعف والهشاشة.  فصلاحياته تبقى استشارية بحتة وهو لا يعدو أن يكون سكرتارية. يضم هذا المجلس 40 نائبا عن الإمارات السبع، نصفهم عن طريق الانتخاب من طرف هيآت انتخابية (تضم عددا محدودا من مواطني كل إمارة). من بين شروط الترشح لهذا المجلس الإلمام الكافي بالقراءة والكتابة. لا يخضع للاقتراع الحر، العام والمباشر كسائر المجالس البرلمانية وهو يقوم على تهميش غالبية أبناء الشعب ومزيد تركيز السلطة في أيدي الحكام وحدهم وأن المواطنين مجرد أرقام لا يشاركون في اتخاذ القرارات التنموية أو السيادية ولا يخوضون في الشأن العام.

تتوزع مقاعد المجلس كالآتي: عدد 8 مقاعد لإمارة أبو ظبي، عدد 8 مقاعد لإمارة دبي، عدد 6 مقاعد لإمارة الشارقة، عدد 6 مقاعد لإمارة رأس الخيمة، عدد 4 مقاعد لإمارة الفجيرة، عدد 4 مقاعد لإمارة عجمان، عدد 4 مقاعد لإمارة أم القوين.

 من مهازل التحولات السياسية وسطوة المال الفاسد على السياسة أن تتحول الإمارات لدى بعض الدول إلى رمز للحرية والديمقراطية. كيف لا والإعلامي المصري “محمد مصطفى شردي” مساعد رئيس ”حزب الوفد“، يعلن في بداية 2015 أنّ دولة الإمارات تحتضن أحد أرقى البرلمانات في العالم وأكثرها تطوّرا وأنها ستقوم بتطوير البرلمان المصري الجديد وذلك من خلال تدريب نوابه والحال أن الإمارات ليس لديها برلمان عريق ولا ديمقراطي ولا منتخب!

من الأشياء المضحكة في آن واحد كتعبير لما وصل إليه الاستبداد المقنّن في بعض الدول وعلى رأسها الإمارات وضع دستور شكلي يتضمن كافة القواعد المتعلقة بشكل الدولة، ونظام الحكم فيها، والسلطات العامة والاختصاصات المخولة لها، والحقوق والحريات العامة. عند هذا الحد يظهر للباحث أن النظام الإماراتي يخضع لقواعد ومبادئ ومواد دستوره ويحترم القوانين المنبثقة عنه وأنّ الدولة شأنها شأن بقية الدول الديمقراطية تنظم الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية عن طريق عقد اجتماعي يسمّى دستورا وأنّه وفقا لهذا المفهوم فإنّ الشعب هو مصدر السلطات وصاحب السيادة.

الملفت للنظر أنّ الدساتير في جل بلدان العالم تخضع للمراجعة وللتعديلات وللتطوير من طرف المجالس التشريعية إلا دستور الإمارات فإنّه وإن كان خضع لبعض التعديلات إلا أنها لم تكن جوهرية ولم تمرّ عبر مؤسسات التمثيل السياسي أي عبر السلطة التشريعية ـ رغم عدم استقلالية هذه الأخيرة ـ بل مرّت عبر السلطة التنفيذية التي لها حق إقرار التعديل مثلما هو منصوص عليه بالمادة 144 من الدستور وحصر هذا التعديل في “المجلس الأعلى للاتحاد”

وهو كما بينّا سابقا يمثل الحكام السبع للإمارات، أي أنه لا يعكس إرادة الشعب بل إرادة الحكام وأنّ هؤلاء هم مصدر السلطات لا الشعب.

مهزلة التعديل الدستوري لا تقف عند هذا الحد بل إن مسرحية الديمقراطية الإماراتية تتواصل فصولها لتصل إلى ما يسمّى بـ “المجلس الوطني الاتحادي” الذي تنحصر مهمته في مناقشة وإقرار التعديل وذلك وفق قاعدة ثلثي أصوات الحاضرين كحد أدنى. ورغم أن النص الدستوري لم يحصر الحد الأدنى لمناقشة وإقرار التعديل وهذا خدمة للنظام خاصة وأن نصف أعضاء هذا المجلس هم من المعيّنين من طرف حكام كل إمارة وإذا ما استثنينا النصف الباقي والمنتخب من طرف هيآت انتخابية وطنية يقع اختيارها وعلى افتراض أن هؤلاء هم من المعارضة وهو ضرب من ضروب الخيال فإنّ النصف المعيّن على افتراض هو وحده الحاضر كاف لإقرار التعديل المحوّل له من طرف حكام الإمارات السبع بعد أن طرحوه وناقشوه وأقرّوه ووافقوا عليه في مجلسهم.

عديدة هي التناقضات التي تحويها مواد الدستور الإماراتي. تنص المادة 34 من الدستور الإماراتي بأنه: “…لا يجوز فرض عمل إجباري على أحد إلا في الأحوال الاستثنائية التي ينص عليها القانون، وبشرط التعويض عنه. لا يجوز استعباد أي إنسان”.

رغم أن المشرّع لم يعرّف في هذه المادة مفهوم وحدود “العمل الإجباري” الذي يمكن فرضه على شخص ما إلا أن التنصيص على جواز فرض “عمل إجباري” على أحد المواطنين هو بالأساس نوع من الاستعباد.

 كما أن المادة 40 من الدستور لا تفرض مساواة الأجانب مع المواطن الإماراتي أمام قوانين الدولة إلا بما ظهر في المواثيق الدولية المرعية أو الاتفاقات الدولية التي تكون الإمارات طرفا فيها.

في كل بلدان العالم تدار الانتخابات وفق تمثيل سياسي وهذا التمثيل يفترض وجود أحزاب ولوبيات وحركات ضغط وجمعيات ومنظمات حقوقية ومدنية… إلا أنّ القاعدة في الإمارات تتحول إلى شاذّة. فالانتخابات لا لون ولا طعم ولا رائحة لها، تقترب إلى التعيين أكثر منها إلى الانتخاب ولا تمسّ كافة المواطنين الإماراتيين الذي تبقى نسبة كبيرة جدا منهم محرومة من أداء واجبها الانتخابي وممارسة حقوقها السياسية. المواطن الإماراتي ليس مكتمل الحقوق ولا يتمتع بكافة حقوقه التي اغتصبت منه لصالح حماية العائلات الحاكمة. فهو في الأخير لا يعدو أن يكون أجيرا أو خادما مطيعا لدى هذا النظام. فالمناصب الكبرى الفدرالية أو المحلية مثل رئاسة الوزراء أو وزارة الداخلية أو الخارجية أو الصناديق السيادية أو المالية ورئاسة الدواوين والمجالس التنفيذية للشركات الكبرى كشركات الطيران والموانئ وحتى الأندية الرياضية والجمعيات الخيرية والأنشطة الثقافية كالقيام بأمسيات الشعر ونشر دواوينه يحتكرها أبناء العائلات الحاكمة ويتوارثونها فيما بينهم.

* الدكتور سامي الجلّولي صاحب الكتاب المثير للجدل “الإمارات ما قبل الكارثة أسرار وخفايا” والمختصّ في النظام السياسي السويسري والأنظمة السياسية العربية، والمحلّل السياسي ورئيس مركز جنيف للسياسة العربية.

Exit mobile version