قراءة في مذكرات رئيس “الشاباك” الإسرائيلي: القادم لقتلك … استبق واقتله
شارك الموضوع:
“خاص-وطن”- كتب وعد الأحمد- أثار كتاب (الآتي لقتلك .. استبق وأقتله) لرئيس الأمن العام الإسرائيلي “الشاباك” السابق يعقوب بيري” عند صدور طبعته العبرية اهتماماً كبيراً في الأوساط الإسرائيلية، وتناقلت وسائل الإعلام فقرات مطولة منه ثم ترجم إلى عدة لغات، فهو إضافة إلى كونه مذكرات لرئيس أحد أخطر أجهزة مخابرات في العالم يتضمن معلومات كانت مغيّبة حتى عن كثير من الإسرائيليين أنفسهم.
ولد يعقوب بيري علم 1944 في نحلات بفلسطين المحتلة من أسرة بولندية الأصل ودرس في الجامعة العبرية الأدب العربي وتاريخ الشرق الأوسط ، انضم إلى جهاز الشاباك عام 1966 م وأصبح صاحب نفوذ في الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد حرب عام 1967 م . تولى عدة مهام في “الشاباك” منها قيادة الجهاز في المناطق الشمالية من الضفة الغربية وفي القدس ، عُين عام 1988 رئيساً للشاباك وحتى عام 1995 واجه في فترة رئاسته للجهاز مشكلات كثيرة خاصة ما يتعلق منها بالانتفاضة الأولى ، أعاد بيري تنظيم صفوف “الشاباك” بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة بموجب اتفاق أوسلو وذلك لتتلاءم عملية جمع المعلومات مع الواقع الجديد وبعد انتهاء رئاسته للشاباك في تشرين الأول عام 1995 عُين مستشاراً لرئيس الحكومة لشؤون الأسرى والمفقودين ، ولكنه قدم استقالته عام 2000 لصدور قرار من المحكمة العليا يسمح بإطلاق سراح معتقلين لبنانيين أُسروا وأُبقوا بلا محاكمة ليكونوا ورقة مساومة مع المقاومة اللبنانية وبعدها جاء تعيينه مديراً عاماً لشركة الاتصالات الخلوية “سليكوم ”
وبقراءة سريعة لفصول هذا الكتاب الذي يبدو أنه كتاب مذكرات مهنية أكثر منه مذكرات شخصية يلاحظ القارئ أن بيري يسعى فيه إلى استعادة ثقة الجمهور الإسرائيلي بجهاز “الشاباك” بعد اغتيال رابين والإخفاق في منع عدد من العمليات الاستشهادية المؤلمة للكيان الصهيوني وكذلك فإنه يحاول التزلف إلى هذا الجمهور من خلال العزف على الوتر الحساس للمستوطنين وهو هاجس الأمن وإحساسهم الدائم بأن هناك من يهدد وجودهم وحياتهم ، وقد استهدف بيري جاداً من خلال كتابه هذا الجانب من الشعور الدائم بالتهديد ، بأن يجنب الإسرائيليين سؤالاً يتجاهلونه عادة ، مع أن واقع الحال يطرحه بشدة وهو لماذا هناك من يريد قتلهم ؟ ألأن هؤلاء الآتين للقتال والقتل سفاحون متعطشون للدماء ؟ وإن كانوا كذلك – أي كما يصورهم الإعلام الإسرائيلي ، فلماذا يتحملون كل تلك الصعاب ؟ ويتخطون الحواجز ، ويقطعون الحدود ويسيرون في حقول الألغام لأجل قتلهم ؟ إنهم لو كانوا عدوانيين بالفطرة أو مجرمين قتلة لكان الأسهل عليهم أن يستهدفوا المواطنين المحيطين بهم ويوفروا على أنفسهم كل هذا العناء .
لقد حاول بيري في كتابه – كما يقول مترجما الكتاب إلى العربية د. منذر الحايك و د . أمل يازجي – أن يثبت أن جهازه كان موجهاً ضد الأشرار، بينما هو لا يخيف الأخيار فيقول : “لقد نقشت على علم الأمن العام جملة تقول: “درعاً وليس خوفاً” ولكن من هم الأشرار، ومن هم الأخيار من وجهة نظره ومن وجهة نظر المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، بل وحتى المؤسسة الحكومية الإسرائيلية ، وللأسف وخلافاً لكل منطق وعدل وحق فدائماً الأشرار هم ” الفلسطينيون الإرهابيون المخربون القتلة ” الذين يطالبون بحقهم في الوجود على أرض عاشوا عليها منذ آلاف السنين ، والأخيار هم بيري ورجاله ورجال المؤسسة العسكرية الإسرائيلية المتميزون باللطف والظرف ، لكن إذا فكر فلسطيني بأرضه وحقه فيها تفكيراً فقط فهم عندها وحوش كاسرة
تآكل من الداخل !
من خلال مذكراته “الإستعراضية – هذه يمدح بيري نفسه ورجال جهازه ويسوَّغ كل فضائحهم وارتكاباتهم ومخالفاتهم لأبسط قواعد حقوق الإنسان بالإخلاص لإسرائيل خاصة أنه شخصياً قد وُجَّه إليه خلال رئاسته للجهاز الاتهام بسوء الإدارة وعدم النزاهة فيقول” ومع أن القصة هي قصتي أنا ، إلا أنها بداية قصة رجال جهاز الأمن العام الذين رافقوني طوال السنين التي خدمتها ، وقاموا بجل العمل ، إنها قصة رجال أشداء سريعي البديهة شجعان مستقيمين وشديدي الإخلاص لدولة إسرائيل”.
أما عن متاعب المهنة فيقول بيري : لا أعرف عملاً يتآكل فيه الأشخاص بسرعة فائقة مثلما هو الحال في “الشاباك” ثم يضيف لاحقاً : “تسعة وعشرون عاماً مرت منذ أن دخلت أول مرة مبنى “الشاباك” في يافا متدرباً وحتى مغادرتي مكتب رئيس “الشاباك ” إنه من الصعب جداً أن تخرج من هذا المنصب سالماً من دون ضرر ، لذلك يسعدني مع كل الأزمات والفضائح والتشهير أن أخرج سالماً وفي آخر مذكراته يختم بيري الحديث بقوله ” بودَّ ي أن أنهي المذكرات التي كتبتها طوال تسعة وعشرين عاماً من خدمتي في الشاباك بالسطور التالية “في أمسية شتوية ماطرة من يوم 22 شباط عام 1995 ميلادي في متحف هآرتس في تل أبيب أجرى لي العاملون في “الشاباك ” حفل وداع ” ثم يتابع بيري معدداً الشخصيات التي حضرته وهم جميع من عمل معه في الجهاز إضافة إلى ” رئيس الدولة ، رئيس الحكومة ، الوزراء ، أعضاء كنيست، رئيس هيئة الأركان ، ألوية في هيئة الأركان وضيوف كثيرون آخرون ثم يذكر كيف كانوا : “يصافحونني ، يربتون على كتفي ، يقبلونني” لقد أبدى بيري خلال وصفه حفل الوداع وتعداد حضوره الأثر الطيب والامتنان الذي تركه خلال عمله الطويل في جهاز الأمن، لكن لا ندري إن كان قد خطر على بال بيري أنه ترك أثراً آخر ربما لا يقل أهمية ، وسيأتي وقت يكافىء عليه حتى لو بعد موته، إنه دوره في مسيرة آلة القتل الهمجية الإسرائيلية ضد العرب داخل حدود الدولة وخارجها ، أم أن الأمر مختلف هنا كما هي العادة وحياة البشر تُكال بمكيالين.
أما أحداث بيري بعد تركه لجهاز “الشاباك ” فيبدو أنها تتلخص في التسابق لتقديم وظيفة لائقة بخدماته، يقول بيري : “حين جرى الإعلان رسمياً عن استقالتي ، تلقيت عروضاً عديدة من أوساط اقتصادية تعرض علي وظائف ومناصب، وكان أحد اللقاءات التي أجريتها في هذا المجال هو اللقاء مع إسحاق شامير رئيس الحكومة السابق ” ويتابع بيري: ” درست العروض التي وردتني وبدا لي بعضها شديد الإغراء ولكنني استخدمت تجربتي الاستخبارية ودرستها عن كثب على نحو أعمق ، في نهاية الأمر توجهت للالتقاء مع “داف تدمور” الذي اقترح علي أن أشغل منصب رئيس عام “سيلكوم” ومديرها وقال لي “إنه تلقى تزكيات جيدة عني من “عزرا وايزمن” و”حاييم هرتسوغ” و”اسحاق رابين” والتقيت مع الشركاء الإسرائيليين والأمريكيين الذين وافقوا جميعاً على التعيين ” .
إن أهمية الشخصيات التي زكته للعمل ، واختياره من شركة إسرائيلية أمريكية يحمل الكثير من المعاني منها دقة الصلات بين إسرائيل وأمريكا وعمقها، ويفسر الكثير مما كان يدور عن هذا الرجل وانتماءاته وممارساته “المشروعة” وغير المشروعة للدولة الإسرائيلية .
مشهد ” الآتي لتقلك ” !
إن مذكرات بيري كما نراها هي تسليط للضوء على الدقائق الأخيرة من الحلقة الأخيرة من المسلسل الصهيوني الطويل، بل ربما هو المشهد الختامي منه مع تجاهل متعمد لكل ممارسات الصهيونية السابقة التي أدت إلى هذا المشهد الختامي الذي ساهم فيه القتل والتهجير والجوع والاضطهاد الصهيوني بتحويل الفلسطيني إلى استشهادي مقتول بشرف أو إلى مقتول ذليل لا محالة ولكن تواتر الانتفاضة تلو الانتفاضة والاستشهادي تلو الشهيد لن يسمح لمشهد “الآتي لقتلك ” أن يكون كما أراده بيري المشهد الختامي في قضية الصراع العربي الإسرائيلي، مع ذلك وعلى نحو عام علينا أن نطَّلع على كل ما يُنشر في الوطن المحتل لنعرف كيف يفكر هؤلاء الناس وكيف يمكن أن نرد عليهم بمنطقٍ يعرفونه ، إن من يتصدى للرد الآن من العرب ولجهل معظمهم بما يدور في فلسطين المحتلة ، كما يردد الكلام على نفسه لأنهم يتحدثون بمنطق لا يفهمه الآخر، ولذلك فإن هذا الكتاب يمثل دعوة لكل عربي كي يعرف حقيقة مشكلة الأمن في إسرائيل والشعور بالخوف القاتل من المستقبل ونتيجة ذلك يمكن أن يفسر الكثير من مواقفها وردود أفعالها .
رغم أن هذا الكتاب لا يبدو عملاً أدبياً إلا أنه يتضمن مجموعة من القصص المحبوكة بخبث ودهاء وهي وإن كانت تخلو من الترابط حتى التاريخي في تتاليها إلا أنها تشكل دليلاً حسياً على طريقة تفكير وعقيدة التزم بها بيري محاولاً إقناع قرائه بها ، وهذه العقيدة تتلخص في أن خدمة الدولة هي مهمة مقدسة تنفصل عن المشاعر والرغبات وتنقل منفذها إلى مصاف أولئك الذين يُلقى على عواتقهم مهمة حماية دولهم واستقرارها بينما ينام الآخرون قريري العين ، وليكون أمير ميكافيلي سيد التفكير وملهم يعقوب بيري الذي سوّغ كل الوسائل للوصول إلى مبتغاه ، وسفّه كل الوسائل التي استُخدمت ضده ، سواء كان ذلك على المستوى الشخصي أم على مستوى ” الشاباك”.