سلالات الإرهاب

بعد مئات السنين من الدكتاتوريات الدينية والقبلية والعسكرية، وتراكم هائل من التربية والسلوك الاجتماعي والديني الشمولي، صاحبه على طول الخط الخوف والرعب والاستكانة، جاءت داعش خير ما يمثل حقيقة تلك الأفكار والمناهج والإيديولوجيات، التي تبيح قتل المختلف فكرا ورأيا، بل وتستبيح مجتمعات ومدن ودول، وتحيلها إلى خرائب تنعق فيها غربان البدائيات الأولى والسبي وأسواق النخاسة، كما فعلت في أثرى مكنونات الحضارة الإنسانية في بلاد الشام والعراق، وبعودة سريعة إلى صفحات التاريخ البعيد والقريب التي تطلعنا على أصل وأوليات ما حدث في سنجار والرقة والموصل والانبار وتكريت وغيرها من بلدات وحواضر الشام والعراق، تؤكد إن ما حدث لم يكن جديدا بل جاء امتدادا لثقافة وسلوك مؤدلج دينيا وعنصريا عبر مئات السنين، تعرضت فيه وبسببه الأقوام والأديان المختلفة إلى حملات إبادة جماعية واستعباد ملايين الأطفال والنساء وبيعهن في بازارات تمثل ( مولات وأسواق ) تلك العصور، ولعل أسواق النخاسة التي انتشرت في المدن والقرى التي أعاد نفسه فيها داعش كمرآة لممارسات قديمة ومتوارثة وغير مستهجنة، تؤكد إن البعث بشقيه السوري والعراقي وبقية الحركات والأحزاب الدينية والقومية العربية التي نشأت خلال القرن الماضي وفي معظمها، ما هي إلا استنساخ أو تطوير لتلك الثقافات والإيديولوجيات الصحراوية التي انتشرت لتحصد كل ما على الأرض من غير أصلها العرقي أو الإيديولوجي الذي تبشر به لإقامة إمبراطورية الغرائز.

هذه السلالات من الإيديولوجيات الدينية والقومية، لم تك من إنتاج الأمريكان والإسرائيليين، كما يفبرك أولئك الفاشلين من تافهي السياسة في الشرق الأوسط، بل هي من إنتاج منابر التخلف ومراكز ومؤسسات الدعوة والتبشير والتعريب والتبعيث القومي والديني عبر قرون من الزمان، جعل هذه المجتمعات التي نعيش فيها تقبل تكفير المسيحي والايزيدي والمندائي واليهودي والسيخي والهندوسي والبوذي ما لم يدفع الجزية أو يستعبد أو يقتل رغم إن أوامر الله في القرآن الكريم أقفلت على ( لا إكراه في الدين )، وهي ذاتها روضت تلك المجتمعات لقبول انتقاص كل القوميات والأعراق من غير العرب، خاصة تلك الأحزاب والحركات التي تشيع أفكارا ونظريات لإذابة كل الأعراق والأقوام في بوتقة الأمة العربية، بكل ما تعنيه كلمة الإذابة فكرا وثقافة وكيانات، وقانون تصحيح القومية من الكوردية إلى العربية نموذج من تلك الداعشيات الأولية التي انتهت في تطبيقاتها إلى الإبادة الجماعية للسكان، كما حصل في حلبجة والأنفال 1987-1988 وسنجار 2014م، حيث قتل مئات الآلاف من الكورد أطفالا ونساءا وشيوخا، وسبي الآلاف من بنات ونساء الايزيديات والمسيحيات وحتى الشيعيات، كما تؤكده الوثائق الرسمية إبان استباحة سنجار وتلعفر وسهل نينوى.

إنها سلالات الإرهاب الفكري والقومي والديني ومن ثم المذهبي، حيث الشيعي مرتد كافر يحل قتله وسبي نسائه واستعباد أطفاله، وكذا الحال فالسني من النواصب الذين لا حياة لهم إلا بالتشيع، وقس على ذلك ما يفعلونه اليوم من إشاعة الكراهية والأحقاد على بقية الأقوام والأعراق لكونها وعت ظروفها وتحاول الخروج من دائرة الصراع البدوي البدائي، الذي يمتد في أعماق التاريخ ويستمر بالتناسل والتوالد بأشكال وهيئات مختلفة في الأسماء والعناوين وموحد في أصل الفكر والسلوك والممارسة، وخير دليل على ذلك ما تفعله اليوم سلالات الكراهية المنتجة للإرهاب من ميليشيات وأحزاب متنفذة في بغداد ولبنان واليمن وليبيا وسوريا وبعض دول اوربا، حيث تمارس أبشع أنواع إشاعة ثقافة تقتيل وإبادة الآخر من خلال الادعاء بأن المختلفين معهم كفار يجب إباداتهم، وفي العراق وسوريا يتم تداول إن الكورد على سبيل المثال من أبناء الجن وإنهم سبب تخلف وانحدار الأمة والدولة، وكذا الحال في لبنان مع المسيحيين والدروز أو مع السنة من جهة أو الشيعة من جهة أخرى، ولا تعليق عما يجري في عجقة وتراجيديا ما يحدث في بلاد الشام من عشرات الكتائب والميليشيات.

واليوم تشن معظم دول العالم حربها ضد هذه السلالات المتوحشة باستخدام كل أنواع الأسلحة، لكنها نسيت أنها تعتمد على بيئة تتميز بثقافة وفكر وسلوك يتقبل الكثير مما تفعله تلك السلالات، ولا يمكن للمدفع الرشاش أو قنابل وصواريخ طائرات F16 أو غيرها من القضاء عليها في واقع ما يزال يؤشر لنا بأن أكثر من نصف سكانها أميون، وبنفس القيمة والكم تحت خط الفقر والوعي والحضارة والبطالة والاستكانة وسلوكيات القطيع بسبب توالد الدكتاتوريات الاجتماعية والسياسية والدينية عبر الأجيال!؟

إنها تحديات اكبر من الحرب الدائرة الآن، وتحتاج إلى جهود نوعية فائقة تحدث تغييرات ثورية في البنية الثقافية والفكرية والاقتصادية للمجتمعات المنتجة لقوى التطرف الديني والقومي معا، وحتى يتحقق ذلك فان عجلة الحرب ستنتج أفعالا وردود أفعال ربما تمتد لعشرات السنين القادمة ما لم يذهب العالم برمته إلى مشروع ماريشال ثوري جديد يعتمد الأسس الفكرية والثقافية والاقتصادية التي تنقل تلك المجتمعات الخاملة إلى مجتمعات منتجة، فالإنتاج والرفاهية بيئتان لا يعيش فيهما التطرف والإرهاب!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى