حتى لا ننسى ما حصل قبل 10 سنوات من حرب “تحرير الكويت”

خفايا دور الملالي مع الصهاينة والأميركان في محادثات الإتفاق على تدمير العراق

” أنا رجل صبور”، هذه العبارة التي أخذ يكررها رئيس دولة الإجرام الأكبر مع اقتراب موعد غزو العراق واحتلاله ، كانت تعكس نقيض طبيعته المعروفة بالتهوّر إلى درجة أنه أصبح الرئيس رقم واحد الذي تُوَجّه إليه يوميا نصائح بالتريّث وتوخّي الحكمة . ومع ذلك كان لا يتوقف عن الهذيان اليومي بحتمية ضرب العراق وإسقاط نظامه ، ضاربا بعرض الحائط اتساع دائرة المعترضين على توجّهه بمن فيهم أصدقاء وحلفاء أميركا نفسها ــ باستثناء أميركا وإسرائيل ــ رغم بروز مؤشرات إيجابية جديدة تمثّلت بإعلان العراق عن استعداده للتوصل إلى صيغة تفاهم شاملة مع الأمم المتحدة ، ودعوة رئيس هيئة التفتيش على أسلحة الدمار الشامل لبحث كل الإشكالات المتعلقة بهذا الموضوع . إلا أن الإدارة الأميركية سارعت إلى الرفض ، وردّ بوش عل ذلك بالقول ” سواء قبلت بغداد عودة المفتشين أم لم تقبل ، فإن الهدف الأميركي الأساسي سيبقى على حاله وهو إسقاط نظام الرئيس صدام حسين”ً!
وكان اللافت بعد ذلك على الفور ما تم ترويجه على هذا الصعيد من تسريبات وشائعات بصيغة رسائل لم نسمع بمثيلها من قبل ، كالترويج عن أن ملف الحرب المنوي شنّها ضد بلد ما قد أصبح بسُمكِ خمس بوصات أو عشر . كما لم نسمع في حياتنا أن بعثت دولة كبرى برقيات تهنئة وتحريض إلى زمرة من العسكريين المنشقين لعقدهم إجتماعا من أجل التحضير للإنقلاب على بلدهم!
هذا بعض ما فعلته إدارة جورج بوش كالوحش المسعور ، تاركة الناس في بلبلة من أمرهم حول أسئلة بقيت أجوبتها في عالم الغيب . ومع اتساع دائرة الإعتراض أكثر وأكثر خرج الجنرال شوارزكوف قائد قوات التحالف الدولي ضد العراق في حرب “تحرير الكويت” ليعلن رفضه القاطع لهذه الضربة المغامرة ، مع أنه هو الذي اعترض في العام 1991 على منعه من التقدم نحو بغداد لإسقاط النظام ـ كما قال في حينه ـ . كما خرج أحد أقرب حلفاء واشنطن وهو المستشار الألماني شرويدر ليقول في مهرجان إنتخابي بمدينة هانوفر :”إن من يريد الذهاب إلى العراق عليه أن يعرف جيدا إلى أين هو ذاهب ، ولأي سبب ، وكيف سيخرج من هناك” . وأعلن أمام الجميع أن ألمانيا لن تشارك في هذه الحرب ولن تساهم بأي دعم فيها، مؤكدا أن عهد تسديد الفواتير على حساب ألمانيا قد انتهى.
كلمات شرويدر هذه التي فاجأت البعض في حينها لم تكن غريبة على رجل في موقعه . ويعود ذلك إلى أن ألمانيا دون غيرها تعرف الخلفية التي تدفع بوش إلى هذه المغامرة ، وهي وحدها التي سبق لها أن كشفت لماذا جِيء بأبيه من قبله إلى سدة الرئاسة قبل عشرين عاما من ذلك الوقت ، وضمن أية ظروف وفي سياق أي صفقة. فماذا تقول التفاصيل ؟
صفحات مطوية من فضائح ريغان وبوش
لو عدنا إلى الوراء أكثر، وتحديدا إلى بدء احتدام معركة الإنتخابات الرئاسية التي جرت مطلع العام 1980 بين الرئيس الأميركي الديمقراطي جيمي كارتر ومنافسه الجمهوري رونالد ريغان الذي كان أحد مساعديه جورج بوش الأب قبل أن يُصبح نائبا له فيما بعد ، وتذكَّرنا قضية الرهائن الأميركيين في طهران وكيف انفضحت خفاياها على أثر اكتشاف سعي الجمهوريين بطرق غير شرعية للحؤول دون عودة كارتر ثانية للرئاسة ، من خلال تجميد عملية إطلاق سراحهم إلى ما بعد انتهاء الإنتخابات لإثبات فشله . وهو ما تمّ فعلا حيث لم يُفرَج عنهم إلا بعد أن هُزِم كارتر وجاء ريغان ، لرأينا أن هذه الفضيحة لم تعد سرا بكل تفاصيلها ، بينما بقيت الأسرار التي تضمنتها صفحة انتهاء ولاية ريغان وانتخاب بوش الأب من بعده مطويّة بكل خفاياها وأسماء أبطالها ، وهي الجديرة بتسليط الأضواء عليها الآن لأنها هي التي تكشف الجانب الأساس من أسباب هجوم هذا الثور الهائج نحو تدمير قوة العراق واحتلاله ، إلى جانب الإصرارعلى استمرار مسيرة تصفية القضية الفلسطينية.
هذه الصفحة التي بقيت مطويّة حوالي عقد من الزمن فتحتها قناة التلفزيون الألمانية ( أ آ ر دي ) ليلة الأحد 2 تموز/يوليو 1989 عبر فيلم وثائقي أعده يورغن روث ، تضمن مقابلات مثيرة مع شخصيات سياسية كبيرة ومعروفة منها رئيس الوزراء الإيراني الأسبق أبو الحسن بني صدر وجيري سيك مستشار كارتر ، وتاجر السلاح الدولي هوشائك ليفي . بالإضافة إلى عناصر من المخابرات الأميركية والإسرائيلية التي كانت على طاولة الحوار الذي تم في كل من باريس وبروكسيل بين مختلف الأطراف وقد حضرها أحمد الخميني إبن “مرشد الثورة الإسلامية الإمام الخميني”.
في البدء أعلن معد البرنامج أنه في ذروة تصاعد الحملة الإنتخابية بين كارتر وريغان ، تبنّت رموز فاعلة داخل الحزب الجمهوري وجهة نظر تقول أن أنجح الوسائل للحؤول دون إعادة كارتر مرة ثانية تتمثل في العمل على إبقاء الرهائن حيث هُم في إيران إلى حين انتهاء الإنتخابات الرئاسية ، حتى نتمكن من قلب المعادلة لصالح فوز ريغان إذا تعذّر على كارتر إطلاق سراحهم .
مباحثات مستشار خميني مع السي آي إي
وقد أكد الشريط الوثائقي هذه الواقعة ضمن حديث أجراه يورغن روث مع جيري سيك مستشار الرئيس كارتر الذي كشف فيه عن قيام أول اتصال بين أقرب المقربين من ريغان وهو بوش الأب مع تاجر السلاح هوشائك لافي حول هذا الموضوع ، وأن هذا الإتصال قد تم إثر مباحثات لم يُكتب لها النجاح على جبهة أخرى بين ممثل عن “السي آي إي” ويُدعى كريستوف والدكتور طباطبائي مستشار خميني .
وكان من أبرز الدلائل على إجراء هذه المفاوضات بصيغة سرية حديث الكابتن روب قائد الطائرة الأميركية إلى القناة الألمانية ذاتها ، حيث قال فيه أن وليم كيسي رئيس جهاز المخابرات الأميركية والرئيس الجديد ـ وقتها ـ جورج بوش كانا من بين الذين أقلّهم روب مرارا إلى باريس . وهذا ما قاله أيضا البروفيسور ريتشارد برينكه الذي وُصِف بالعميل السري للمخابرات الأميركية حين أكد هو الآخر على أن مفاوضات باريس قد تمت في فندق رافائيل طوال شهر تشرين الأول.أكتوبر من العام 1981. أي بعد شهر واحد من انتخاب ريغان . وتثبيتا لكلامه قال أن وليم كيسي حضر إلى باريس بصفة أستاذ في جامعة كمبريدج ، وأنه نزل في فندق الهيلتون ، وهذا ما فعله أيضا هنري كيسنجر في وقت سابق.
ولمزيد من الدقة حول هذه التفاصيل أجرى البرنامج مقابلة مع مدير فندق الهيلتون الذي قال أن الصفحات التي تتضمن أسماء النزلاء المعنيين بهذا الموضوع في تلك الفترة انتُزِعت من مكانها في سجل الزبائن !
وفي الإتجاه نفسه كشف تاجر السلاح هوشاك لافي أن رجل الأعمال الإيراني هاشمي الذي يقيم في لندن قد رافقه إلى باريس للمشاركة في هذه المباحثات. وعلى ذمة عدد من شهود العيان الذين استضافهم البرنامج فإن المباحثات التي شهدها فندق رافائيل بحثت ثلاث نقاط و “كلّها إيرانية” : أولها قضية الرهائن بالطبع . وثانيها السّبل الممكنة لحل إشكال الأموال الإيرانية المجمدة في البنوك الأميركية . أما ثالثها فيتعلّق بالإسراع في تنفيذ الاتفاق على صفقة السلاح الأميركي إلى إيران ، نظرا للحاجة الملحّة له مع بدء الحرب مع العراق.
خميني شخصيا : انتخاب الأسوأ أفضل لنا !
وبالعودة للحديث مع الطيار روب أكّد أن بوش الأب شارك شخصيا في المباحثات التي تمت بباريس ومعه ريتشارد ألن مستشار ريغان للشؤون الخارجية. وأن أحمد الخميني كان المحاور الإيراني الرئيسي في مباحثات أخرى جرت مع بوش في لوكسمبورغ . أما بني صدر فقد أكّد علمه بأن محرّكي هذه المباحثات كانا هاشمي رفسنجاني وبهشتي ، وأنه عندما أيقن أن المباحثات التي تجري حول الرهائن ينحصر هدفها الأميركي في إعاقة إعادة انتخاب كارتر لصالح ريغان الذي يعتبره بني صدر أكثر عداء وعنجهية ، سارع إلى مفاتحة خميني في هذا الأمر ، فما كان من الخميني إلا أن أجابه قائلا :” إن قدوم الأسوأ أفضل لنا لأنه كلما تأزمت الأوضاع أكثر كلّما كان ذلك لصالحنا “.
عند هذه النقطة ،وبدئا من هذا الخيار الذي حبّذه خميني ، فَتَحَت عملية الرهائن الباب واسعا أمام الكيان الصهيوني للدخول على الخط بشكل فعال وإن لم يكن علنا ، وهو بيت القصيد في هذا الموضوع . وبناء على هذه الحقيقة قال الصحفي الإسرائيلي أرون موشيل الذي أشير في تحقيق القناة الألمانية أنه مقرّب من الموساد أن اجتماعات لوكسمبورغ قد جرت بحضور أحمد الخميني وطباطبائي وبوش ، وأنه كان هناك حضور إسرائيلي داخل غرفة الإجتماعات . ولم يُفصح ميشيل بأي صفة كان هذا الحضور ولا بالكيفية التي نجحت فيها هذه المحادثات بقدرة قادر . غير أنه كان واضحا بالقول تعليقا على هذه النتيجة التي تم التوصل إليها في العام 1980 . أي قبل نشوب الحرب العراقية الإيرانية ، أن هدف إسرائيل الخاص منها يتلخص بالتالي : تدمير قوة العراق بالدرجة الأولى، مع الإقرار بأن إنجاح ريغان من خلال ما ستقدّمه إسرائيل من صفقات سلاح إلى إيران على اعتبار أنها أسلحة أميركية ( وهو ما تم الإتفاق عليه سرا ) ستجعل الرئيس الأميركي الجديد مدينا لها طوال الوقت . كما ستجعل إيران الخميني مدينة للأميركيين في الوقت نفسه.
صفقة “إيران غيت” مرّت من هنا عبر إسرائيل
أما طريقة التنفيذ العملي لصفقة الأسلحة فقد خصّص لها معدّ البرنامج حوارا مع أحد رجال المخابرات الأميركية ، كشف فيه عن كيفية خروج السلاح الأميركي ( من هنا ) من قاعدة أرشا متنبورغ الأميركية ، وأن عملية إرساله سرا من إسرائيل قد تمت بإشراف وزير الدفاع ألكسندر هيغ .
يبقى القول أن عملية الإفراج عن الرهائن كان من المستحيل أن تتم فورا بعد فوز ريغان لئلا تنكشف فضيحة ما جرى . لهذا تم تأجيلها كي تُنجَز بشكل طبيعي حيث أُطلق سراحهم بعد أربعة أشهر. وبما أن كشف صفقة السلاح يفضح كلا من ريغان وبوش معا إذا ما أُعلن عن التاريخ الحقيقي لتنفيذها وهو العام 1980 ، فقد ارتأت الإدارة الأميركية فتح ملفها الذي عُرِف باسم “إيران غيت” من لحظة الإعلان عنها في العام 1985 ، كي يجري حصر آثارها على ريغان الذي كان قد انتُخب للمرة الثانية ولا مجال لعودته رئيسا للمرة الثالثة ، ثم فتح المجال أمام نائبه وشريكه في الفضيحة كي يُصبح رئيسا بعد ذلك ، وهذا ما حصل.
أما المحيّر على هامش هذا الخليط من قذارة “لعبة الأمم” فهو ما ورد على لسان كارتر في خطابه الوداعي بعد انتهاء ولايته بقوله نصا :” سيأتي اليوم الذي ستُكشف فيه أسوأ صفحات التدهور الأخلاقي في تاريخ الولايات المتحدة ” . ثم عدم كشفه عن أي شيء بعد ذلك وحتى اليوم على الرغم من ظهور المزيد من صفحات هذا التدهور . فما هو الجديد الذي حصل ؟ وهل جاء سكوته طوال هذه السنوات عن قناعة ذاتية ، أم تم إسكاته عن طريق مسلسل “المهام الإنسانية والسلمية” التي بدأت تُسنَد إليه وتدرّ عليه الكثير، وقد شملت مساحات واسعة من أرجاء الكرة الأرضية باستثناء فلسطين والعراق . فكيف يمكن تفسير ذلك ؟
صحيح أن لكل شيء ثمنه بالنسبة للكثيرين من كبار الرؤساء إلى صغار المخبرين والجواسيس في هذه الأيام!

قد يهمك أيضاً

تعليقات

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

تابعنا

الأحدث