هل حقّقت “الثّورات” في تونس ومصر أهدافها أم أنّ الموجات الثورية ستعود أقوى؟

 

“خاص- وطنكتب شمس الدين النقاز- ظنّ كثيرون قبل 5 سنوات مضت، أنّ موجات الثورات العربيّة الّتي شهدتها دول عديدة على غرار تونس ومصر وليبيا واليمن، ستجلب للمنطقة الأمن والأمان والإستقرار والعيش الكريم، بل وبدأت الجموع تتحدّث عن “لا ظلم بعد اليوم” و”وداعا للدكتاتورية ومرحبا بالديمقراطيّة” وغيرها من الشعارات الرنانة والوعود الطنانة، لكن ما الّذي حدث؟

 

عادت عجلة الثورات المضادّة للدوران من جديد، وظهرت دعوات تشيطن التحرّكات الإحتجاجيّة السابقة وتصفها بالربيع العبريّ بل وتدعو في بعض الأحيان إلى عودة دكتاتوريّ العرب الذين أذاقوا شعوبهم الويلات والويلات لسدّة الحكم لأنّهم كانوا مظلومين وتمّت مغالطتهم.

 

في حقيقة الأمر، من غير المنصف أن نصف ثورات “الربيع العربي” بأنّها موجات عبريّة اجتاحت المنطقة العربيّة وفق مشروع أمريكيّ صهيوني لإقامة منطقة الشرق الأوسط الكبير مثلما يصرّح بذلك بعض الأكاديميّين والمفكّرين والكتاب العرب، رغم السلبيات العديدة الّتي أسفرت عنها، بل ومن غير المعقول أيضا أن يتناسى البعض كيف كانت الأوضاع قبل وبعد نجاح الثورات العربيّة في شوطها الأوّل.

 

تونس بعد 14 من يناير

ففي تونس، كانت أوضاع الحريات الفردية والجماعية بالإضافة إلى المناخ الديمقراطي قبل 14 من يناير كارثيّة، فالحزب واللون والتوجه واحدٌ، حيث كان شعار بن علي وزمرته “ما أريكم ما أرى” و “أنا ربكم الأعلى”، ففي تلك الفترة كان المعارضون للرئيس بن علي يذوقون ألوانا من العذاب هم وعائلاتهم وكلّ من تخوّل له نفسه أن يتحدّث معهم أو يساندهم، كما كان الإسلاميون يُنكّل بهم أشدّ التنكيل داخل السجون وخارجها، وذلك بهدف تطويعهم بعد تجويعهم وتعذيبهم.

 

الأوضاع نفسها كانت في مصر الكنانة، فقد أرّخ المؤرّخون وكتب الباحثون والصحفيون عن تلك الجرائم البشعة الّتي ارتكبها نظام الرئيس السابق حسني مبارك ضدّ معارضيه، إسلاميّين كانوا وعلمانيين، كما كان اللون السياسي واحد والمناخ الّذي قيل إنّه “ديمقراطي” بلا طعم وبلا رائحة وبلا لون.

 

فجأة ودون سابق إنذار، جاء الفرج للبلدين بعد هذه الشدّة، وأصبحت تونس ومصر مضربا للأمثال خلال السنوات الأولى بعد الثورات، فبدأ التبادل السلمي على السلطة وأصبح المناخ شبه الديمقراطي سائدا في البلاد، وتمّ العفو عن آلاف المعارضين في البلدين، بل ووصل الإسلاميون في كلّ من مصر وتونس إلى سدّة الحكم في أوّل انتخابات ديمقراطيّة شهدها البلدين منذ عقود، وفق ما أكّد ذلك العالم الأجمع.

 

ففي تونس، أُسْندت التأشيرات لعشرات الأحزاب، ودخل معظمها في الإنتخابات التشريعية الأولى التي شهدتها البلاد عام 2011، كما تمّ منح التراخيص لعدد كبير من الجمعيات المدنية والخيريّة بالإضافة إلى المنظمات الحقوقيّة، وهو ما أحدث حالة من الإرتياح المبالغ فيه لدى المراقبين في تلك الفترة، حتّى أنّ البعض بدأ يتحدّث عن نموذج ديمقراطيّ تونسي أوحد لا شبيه له في كلّ أنحاء العالم.

 

لكن وبعد عامين من 14 من يناير، بدأت عجلة العودة إلى الإستبداد في الدوران من جديد بعد اغتيال المعارض اليساري البارز شكري بلعيد في شهر فبراير 2013 من قبل جهاديّين، ثمّ اغتيال النائب بالبرلمان والسياسي البارز محمّد البراهمي من قبل نفس المجموعة أيضا في شهر يوليو من العام نفسه.

 

وبعد هذين الإغتيالين السياسيين، بدأ مسلسل محاولة العودة إلى الإستبداد في تونس من جديد، فأينعت رؤوس تطالب بتولّي الجيش مقاليد الحكم، ودعا آخرون لإعادة الإسلاميين إلى السجون وطردهم من تونس، بل واعتصم الآلاف في شهر يوليو 2013 أمام مقرّ البرلمان للمطالبة بحلّه وإقصاء الإسلاميين من المشهد السياسي في البلاد، بعد أن فشلت المحاولات الديمقراطيّة في ذلك.

 

كلّ هذه الأحداث وغيرها أجبرت حركة النهضة الإسلاميّة على التنازل عن الحكم، بعد أن تدخّلت منظمات مدنيّة وأعلنت رعايتها لحوار وطني يجمع بين كل الفرقاء السياسيين وهو ما سمّي وقتها بالرباعي الراعي للحوار، لتتولّى شخصيّة قيل إنّها مستقلّة -مهدي جمعة- رئاسة حكومة جديدة تمّ فيها إقصاء الإسلاميين من الوزارات السياديّة وتمّ فيها تكريم الرباعي الراعي للحوار الوطني من قبل عدد من الدول، بل تمّ إسناد هذا الرباعي جائزة نوبل للسلام تتويجا لمجهوداتهم في إقصاء الإسلاميين من الحكم وفق ما صرّح بذلك مراقبون.

 

هكذا تعاقبت الحكومات بعد الثورة، فبدءا بحكومة حمادي الجبالي مرورا بعلي العريض وصولا إلى حكومة مهدي جمعة، لم تتغيّر الأوضاع الإجتماعيّة، بل يرى بعض السياسيين أنّها انتقلت من مرحلة السيّئ إلى الأسوأ، كما عادت الممارسات الأمنيّة إلى سابق عهدها، فعادت الأجهزة الأمنيّة إلى قمع المظاهرات والتضييق على بعض المعارضين وصولا إلى الإعتداء اللفظي والجسدي عليهم، بالإضافة إلى التضييق على بعض “الإسلاميّين” وإغلاق المساجد بتعلّة الحرب على الإرهاب، حتّى أصبح امتلاك بعض الكتب الدينيّة دليل إدانة يزجّ بمقتضاه المشتبه به إلى السجن في أغلب الأحيان.

 

إسلاميو تونس ومصر وسذاجة التعامل مع الثورات

لم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، فبعد الإنتخايات التشريعية والرئاسية عام 2014 والّتي فاز بها حزب نداء تونس بالأغلبيّة في البرلمان والباجي قائد سبسي بالرئاسة، عادت معادلة “الأمن مقابل الحريات” للظهور من جديد، فبعد كلّ عمليّة إرهابيّة تستهدف البلاد، يظهر ثلّة من المحللين والإعلاميين والخبراء المحرّضين إلى تصدّر المشهد الإعلامي، والدعوة إلى ضرورة تقليص الحريّات الشخصيّة مقابل الأمن، وذلك في إطار إنجاح الحرب الوطنيّة على الإرهاب، واستكمالا لهذا المخطّط المفضوح، قام مركز لسبر الآراء تحوم حوله عديد الشبهات، بالقيام بسبر آراء قال فيه إنّ 78% من التونسيين مستعدّون للتنازل عن حريتهم مقابل الأمن.

 

إيجابيات الثورة التونسية عديدة، لكن سلبياتها أو بالأحرى تطويعها من قبل جيوب الثورة المضادّة لصالحهم جعلت منها كابوسا مزعجا عند البعض، فعلى سبيل المثال ورغم هامش الحريات غير المسبوقة لدى الإعلام التونسي إلّا أنّه لم يستخلص الدرس بعد، وظلّ في أغلب الأحيان في بيت الطاعة، ولا يغرّد إلّا بما تمليه عليه رؤوس الأموال المشبوهة، ليوصف على إثر ذلك بـ”إعلام العار”.

 

في تونس لم تحقّق الثورة أيّا من مطالب المتظاهرين العادلة، فلا العيش كريم ولا الأمن مستتبّ ولا العدالة الإجتماعيّة موجودة ولا الفساد مُحارب، ولا الشفافيّة وغياب المحسوبيّة غائبان، بل ظلّت الأوضاع كما هي ومازالت دار لقمان على حالها، وذلك بعد أن عجز الإسلاميون عن تحقيق أهداف الثورة مقدّمين بذلك خدمة جليلة لأزلام النظام السابق، أعادت لهم بريقهم الّذي فقدوه خلال العامين الأوّلين للثورة.

 

إسلاميو تونس بسذاجتهم السياسية والخوف من إلصاق تهمة “الإخوان المسلمين” -الّتي دائما ما ينفونها- بهم، بالإضافة إلى خوفهم من محاسبة المذنبين الّذين أذاقوا عموم التونسيين الويلات، كانوا سببا في عودة الإستبداد والقمع وانتهاكات حقوق الإنسان والفظاعات المرتكبة داخل مراكز الإيقاف والسجون من جديد، حتّى أنّ المنظمات الحقوقيّة الدوليّة حذّرت الحكومة التونسية الحالية في أكثر من مرّة من أنّ أوضاع حقوق الإنسان في البلاد من سيّئ إلى أسوا.

 

على الجانب الآخر، وغير بعيد من تونس، دفعت مصر ثمنا باهضا جرّاء ثورة 25 يناير الّتي أوصلت جماعة الإخوان المسلمين إلى كرسيّ الحكم لأوّل مرّة في تاريخ البلاد، لهذا استغلّت القوى الغربيّة والعربيّة في نفس الوقت الفرصة الذهبيّة أثناء احتجاجات 30 يونيو للإنقضاض على الحكم من جديد عبر انقلاب عسكري قام به الجنرال عبد الفتاح السيسي.

 

إخوان مصر من جهتهم ارتكبوا أخطاء كبيرة أثناء عام من حكمهم، فالأيادي المرتعشة لا تصنع التاريخ، فلا حاسبوا المذنبين ولا حسّنوا من معيشة المصريين، بل مدّوا يد الصلح لكلّ المذنبين ووضعوا كبار الجنرالات المتواطئين مع القوى الغربيّة والعربيّة محلّ ثقة، ثمّ سرعان ما أخذهم الحماس في شهر يونيو 2013، لإعلان الجهاد في سوريا ضدّ نظام بشار الأسد من العاصمة بدون مشاورة القوى الإقليميّة الكبيرة وهو ما عجّل برحيلهم بعد أقلّ من نصف شهر.

 

كلّ هذا وأكثر، أدّى إلى عودة الإستبداد وسيطرة العسكر على السلطة والزج بعشرات الآلاف من المعارضين والمدنيين في السجون لأتفه الأسباب، دون أن ننسى مقتل المئات من المتعاطفين مع جماعة الإخوان المسلمين أثناء فضّ اعتصامي رابعة العدويّة والنهضة في شهر آب/أغسطس 2013، ومن ثمّة قام العسكر بتكريم قائد الإنقلاب ومنحه رئاسة الجمهوريّة بعد فوزه في الإنتخابات الهزليّة عام 2014 بأكثر من 96.9%.

 

زمن الإستبداد والإستعباد ولّى بلا رجعة

ثورتا تونس ومصر كانتا عظيمتان وأبهرتا العالم عام 2011، لهذا سارعت عديد القوى الإقليميّة في محاولة إفشالهما، لتنجح في النهاية نسبيّا في تونس ومطلقا في مصر، لكن الإحتقان الشعبي الّذي تعيشه الدولتان في الفترة الأخيرة، يوحي للمتابعين بأنّ موجات التظاهر الغاضبة لازالت مستمرّة حتّى تحقيق أهداف الثورة في تونس وإزالة النظام العسكري الّذي يحكم البلاد بالحديد والنار في مصر.

 

ففي شهر يناير الماضي، شهدت عديد المحافظات التونسية احتجاجات شعبيّة غاضبة للمطالبة بالتشغيل والعيش الكريم، سرعان ما عمّت كلّ أرجاء البلاد تقريبا، لكن بعض الأطراف المجهولة والمشبوهة أخرجت هذه الإحتجاجات العفويّة عن طورها السلمي إلى مرحلة التكسير والتخريب والسرقة، لكن بعد تلك الأحداث فهمت الحكومة التونسية والمعارضة في نفس الوقت أنّ البلاد على فوهة بركان، وأنّ العودة إلى الوراء وتطويع وتدجين الشعوب ولّى بلا رجعة.

 

كذلك شهدت محافظات مصريّة منتصف شهر أبريل الجاري، مظاهرات عفويّة لم يتمّ التحضير لها مسبقا، خرج فيها الآلاف للتعبير عن رفضهم لما أسموه التنازل المصري عن جزيرتي “تيران وصنافير” لصالح المملكة العربيّة السعوديّة تطبيقا لاتفاقيّة ترسيم الحدود البحرية بين البلدين.

 

احتجاجات تونس في شهر يناير الماضي والمظاهرات المصريّة الّتي أطلق عليها ناشطون “جمعة الأرض” قبل أيّام، لم تكن فقط مجرّد تحرّكات احتجاجيّة، وإنّما هي رسائل مضمونة الوصول إلى الجهات السياسية التونسية والمصريّة مفادها أنّ الشارع الداخلي يشهد غليانا كبيرا رفضا لمحاولاتها تطويع الشعوب والعودة بهم إلى زمن الإستبداد والإستعباد الّذي عانت منه المنطقة منذ عقود من الزمان.

 

 

قد يهمك أيضاً

تعليقات

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

تابعنا

الأحدث