في حوار حول ما نكشفه عن واقعنا العربي ، أبدى صديق خشيته من أن يكون تركيزنا على السلبيات يخدم معسكر أعدائنا ، ويُعطيه صورة تشجّعه على استباحتنا أكثر . كما خشي أن ينعكس كشف المسكوت عنه من عورات أمتنا على معنويات أبطالنا المقاومين ، الوجه المضيء في هذه الأمّة المقهورة من محيطها الغارق في التبعية إلى خليجها المُفاخِر بناطحات سحابه لا بعبقرية علمائه!
ورغم ترجيح الباعث الإيجابي من وراء هذه الخشية ، إلا أنه لا يُمكن النظر إلى هذا الموضوع واختزال صورته في هذا الإطار لسببين اثنين :
أولهما أن انطلاق المقاومة وتصاعدها كلما اشتدّت الأزمات على رأس أمتنا ، سواء في فلسطين أو العراق أو غيرهما ، ما كان له أن يتحقق إلا باستفحال هذا الواقع المزري ومن أجل التصدي له . فالاحتلال من جهة ، والوضع الرسمي العربي الذي لا يقلّ سوءا عنه من جهة أخرى ، لم يؤثّرا في إرادة القتال والاستشهاد إلا باتجاه إيجابي ، ولم يُحبِط كشف الحقائق المُرّة عزيمة الرجال في التصدّي لما ثاروا من أجله أصلا ، لأنها حقائق مفضوحة للعيان وليست مكشوفة فقط .
هذا أولا ، أما ثانيا فإن الحديث عن إمكانية تشجيع معسكر الأعداء يصحّ قوله في خمسينات وستّينات وحتى ثمانينات القرن الماضي ، أيام لم يكن هناك وجود للفضائيات والإنترنيت ، وأيام كان العالَم منفصلا معزولا عن بعضه البعض. وكان فيه ما يُسمّى بالستار الحديدي الذي لم يكن يخفي وراءه ما يجري في الإتحاد السوفياتي فقط ، بل كانت هناك “ستارات”أخرى على قدر حجم ووضع كل بقعة من بقاع الدنيا .. وصولا إلى جزر القمر وأم القيوين .
في تلك الأيام كان من الممكن التعتيم على الحقائق وتحويل صورة الواقع إلى نقيضه ، وطمس الكثير من الممارسات والجرائم بحق الشعوب . ولهذا السبب مثلا لم نُشاهد الصور الحيّة وبحجمها الحقيقي لاستباحة المدن والقرى الفيتنامية مثلما نرى ما يجري الآن على الأراضي السورية والعراقية واليمنية أولا بأول كل يوم . ولم نر حرق المزارع وتدمير ونسف القوارب الصغيرة ، ولا قيادة المئات من النساء والأطفال إلى معسكرات التحقيق بعد توثيق إياديهن بالجملة لسؤالهن عن أماكن تواجد المقاومين وتحركاتهم وكل ما يمكن أن يعرفنه عنهم ، مثلما نرى في هذه الأيام ما تقوم به ميلشيات الحشد الطائفية في كل من العراق وسورية على مرأى كِبار” الشرعية الدولية “!
لو كانت الفضائيات وتكنولوجيا الإتصالات الحديثة موجودة في تلك الأيام لشاهدنا كل ذلك بالتفصيل . ومع ذلك ، وصلتنا نماذج من أبشع جرائم الإحتلال الأمريكي التي تم فضحها ، ورأينا كيف انسحب مخزيا أمام رجال هوشي منه والجنرال جياب ، وقد حصل ذلك في ظل التعتيم وفي ظل تعميم الستائر الحديدية على الجميع . فكيف لو كانت حواجز منع المعلومات هذه قد سقطت منذ تلك الأيام ، وكان الإنترنيت إلى جانب الفضائيات على ما هما عليه اليوم؟
صدّقوني ، عندما نتكلم عن وضعنا العربي بأسوأ صوره الحالية لا نكشف سرا ، ولا نُضيف جديدا، ولا نخدم عدوا ، ولا نُحبِط عزيمة ثائر، اللهّمّ باستثناء من في نفسه حالة رعب لسبب أو لآخر . يكفينا من ذلك أننا نردّ على جزء يسير من فضائح إعلامنا الرسمي وتوافهه. أكاذيبه واختراع مفرداته المُسَبّحة يوميا بحمد الحاكم ، وفتاوي أئمّته المرضي عنهم ، إلى جانب عُهر انغماسه في افتعال أمسيات الفن الهابط كلما التهب الوضع في فلسطين وارتفعت وتيرة القتل والتدمير الجماعي في سوريا وعلى أرض الرافدين واليمن ، ناهيك عن مصر السيسي الذي أبدي بعض أركان الكيان الصهيوني علنا رغبتهم في استنساخ نموذج له كاحتياط مسبق ليوم فقدانه ! .
إن كشف الأوضاع المزرية التي تُعشش في تركيبة سائر أنظمتنا العربية سيقود حتما ، ومهما طال الزمن ، إلى تفجير هذه المومياءات المترامية من الماء إلى الماء . وليس هناك أحوج من أمتنا في هذا الوقت إلى تعزيز قوى الثورة والتغيير الجذري ضد ممتهني التبعية واللعب على الحبال، دعما للشرفاء الذين تُكتّم أفواههم ويجري استِبدالهم بكلاب الصيد اللاهثة وراء الغنائم والكراسي .
أمّا كل ما نفعله كصحافيين “مشاغبين” ونحن قلّة وسط أغلبية متنقلة من حضن أجهزة هذا النظام إلى حضن ذاك ، فليس أكثر من رصد هذه الحالة وإبداء ما يتوجّب لمواجهتها.