أميركا على هاوية التفكك والإنقسام كما حصل للإتحاد السوفييتي

إعتقاد البعض بأن الولايات المتحدة مازالت تعيش هاجس القوة والجبروت باعتبارها صاحبة المهابة من الجميع بدأ يخبو منذ سنين ، كما بدأت قناعة الأميركان تتزعزع مع الأيام حول هذه الحقيقة ، إلى درجة أن بعضهم بات يشعر بقرب أفول دولتهم الكبرى ، ومنهم من بدأ يتحدث عن تفككها واحتمال انقسامها . وثمة من توقّع داخل الولايات المتحدة وخارجها أن تنشطر قريبا إلى عدة دول مستقلّة عن بعضها البعض ، تماما كما حصل بالنسبة للإتحاد السوفييتي.

حتما لكل صاحب رأي في هذا الموضوع موقفه وأسبابه من منظور المتغيرات التي طرأت على العالم في الآونة الأخيرة وأثّرت على الولايات المتحدة أكثر من غيرها . فمنهم من بدأ يجتاحه وسواس الآثار الرهيبة التي لن تسلم بلاده منها بفعل التورّط في حروب على أكثر من جبهة وفي أكثر من بلد ، إلى جانب الأزمات الإقتصادية ومشكلات الطبيعة وحتى المناخ . ومنهم من ذهب إلى أبعد من ذلك ، فأخذ يُنظّر حول حتمية هذا الأفول للكيان الأميركي المتوحّد ، إنطلاقا من نظرية تقول أنه ما من صعود إلا وبعده نزول أو سقوط ، وما من هجمة مُبالَغ فيها إلا وبعدها انحسار وتراجع . ذلك لأن الصعود والهيمنة يفرضان على الدولة القوية أو الأقوى أن تُوسّع نفوذها وسيطرتها ، وأن تحتكر الكثير من الحقوق والمزايا التي لا حقّ لأحد باحتكارها مدفوعة بغريزة القوة في كافة المجالات . الأمر الذي يضعها أمام مسؤوليات والتزامات تُصبح بحكم التراكم أكبر من قدراتها وإمكاناتها مهما كانت كبيرة ، فلا يعود أمامها بعد ذلك إلا “تعديل مسارها” لئلا تتورط أكثر فينعكس عليها ذلك كَوَارثَ لا تُبقي ولا تَذَر.وهذا ما بدأ التخوّف منه ظاهرا للعيان بالنسبة للولايات المتحدة في  السنوات الأخيرة بشكل خاص . علما بأن قراءة هذه النتيجة ـ أو النهاية ـ قد بدأت قبل ذلك بكثير وذهبت مذاهب شتى.

حتمية النزول من القمة

طبعا ليس غريبا أن تكون قصة أُفول الولايات المتحدة أو تفكّكها وانقسامها غير قابلة للتصديق بالنسبة لمعظم الناس . لأن أغلب هؤلاء لم يطّلعوا على دقائق هذا الموضوع وآراء المتخصصين فيه ، بل سمعوا على الأرجح بإشاعات وتنبؤات لا يمكنهم الوثوق بها . ولهذا فإن قراءة ما قيل على ألسن أصحاب العلم والمعرفة والوقوف على خلفيات وجهات نظر كل منهم ستفتح أمامنا مجال الحُكْم : هل نحن مع الذين لا يستغربون حصول ذلك ، أم مع المستغربين .

ليس من الضروري العودة لما كُتِب قديما حول هذا الموضوع ، نظرا لندرته وعدم أرشفته على أغلب الظن ، ولكننا سنعود في قراءتنا إلى ما قبل حوالي ربع قرن من الزمان ، وتحديدا إلى العام 1989، حيث يُطالعنا كتاب للمفكر الأميركي بول كينيدي يحمل عنوان “صعود وأفول الدول العظمى”، كان يدور محوره الأساس حول مناقشة فكرة يختلف حولها البعض تتعلّق بالمصير الذي ينتظر مصير أي دولة تصعد سُلّم القوة والازدهار ، وتفرد جناحيها على هذا العالم أو معظمه من كافة الجوانب العلمية والاقتصادية والعسكرية …إلخ ، هل من الحتمي أو الأرجح أن يعود نجم هذه الدولة إلى الأفول بعد أن تصل إلى القمة بفعل أسباب عديدة ـ منها ما ذُكر آنفا ـ أم لا ؟ وما رأي الذين يرجّحون ذلك والذين لا يرونه في المقابل؟

بعد استعراض تفصيلي لهذه الحالة ، يُرجّح كينيدي في كتابه العودة لما أسماه بمرحلة الانحطاط الحتمي . مستندا في تحليله لهذا الترجيح إلى أن أي دولة في هذا العالم إذا ما تمتّعت بقدر أعلى من النفوذ والسيطرة على الآخرين سوف تُصاب بقدر من الغرور في المقابل بحكم طبيعة الحياة البشرية . وهذا يعني انقيادها نحو توسيع دائرة هيمنتها إلى الحد الذي تجد نفسها فيه تحت أعباء لا قِبَل لها بتحمّلها ، ولا يعود أمامها مفر من مواجهة “قدرها”، الذي لا يعني اضمحلالها أو هزيمتها بقدر ما يعني أنها لن تعود بنفس جبروتها ، ولن تتمتع بصفة القطب الأوحد أو الأعظم .. وما شابه .

هذا التحليل الذي قدمه كينيدي فاجأ الأميركيين وأدهشهم وقتها ، وأحدث ضجة إعلامية واسعة داخل الولايات المتحدة وخارجها . كما كُتِب حوله بتوجهات مختلفة لكنها لم تُحدِث صدى مماثلا يستدعي التوقف أمامها . إلا أن  ذلك لم يَحُل دون دخول باحثين آخرين على الخط من داخل الولايات المتحدة وخارجها . حيث طالَعَنا الكاتب الفرنسي أمانويل طود بكتاب يحمل عنوان “بعد الإمبراطورية .. تفكُك النظام الأميركي” ، صدر عن دار غاليمار عام 2002 . أي عشية الإعداد للحرب التي شُنّت ضد العراق وأدّت لاحتلاله . خلص فيه إلى القول أن الولايات المتحدة التي توصَف بداعمة الحرية والاستقلال وحقوق الإنسان ، لم تعد كذلك لا من حيث هذه الصفات ولا من حيث النفوذ باعتبارها الدولة الأقوى في عالم بدأ يشهد تغيّرا في الموازين ، بل أصبحت مع الأيام في الخط النقيض لذلك . ثم أعطت نفسها حق تصنيف الدول والشعوب ، وطلعت علينا بتسميات وأوصاف كمحور الشرّ والدول المارقة ومعسكر الأعداء ، كي تُبرّر لنفسها التدخل في المناطق والبلدان التي تستطيع فرض قوتها العسكرية عليها ، إما لضعفها في الأساس أو نتيجة إضعافها (بفعل الحصار أو مواجهات الاستنزاف المستمرة) . وهدفها الأساس من وراء ذلك التغطية على التغيير الذي طرأ على صورتها السابقة ، وعلى الاختلال الحاصل في معادلة التوازن الدولي ، والإيحاء بأنها ما زالت صاحبة الصولجان والقوّة الأكبر.

وكان لافتا في ما كتبه أمانويل طود إشارته إلى أن “أميركا الجبارة” هذه لم تُحرز نصرا عسكريا في أية معركة حقيقية خاضتها ، بما في ذلك معارك الحرب العالمية التي لولا صمود الروس والتضحيات التي قدموها لما كان بإمكان الحلفاء ومن ضمنهم أميركا بالطبع تحقيق الانتصار فيها . ثم إشارته إلى استغراب الأوروبيين من عدم وضع ثقلها باعتبارها الدولة الأقوى من أجل التوصل إلى تسوية سلمية للنزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي .مع أنه غاب عن ذهنه رغم صوابية كلامه أن الأوروبيين أيضا لم يضعوا ثقلهم في موضوع “التسوية السلمية”. ولكن هذه قضية أخري ليست في صلب موضوع أفول أو تفكك الولايات المتحدة ، رغم أهميتها وضرورة إيجاد حل لها .

كتاب “بعد الإمبراطورية تفكك النظام الأميركي” يصل في النهاية إلى النتيجة المعروفة للجميع ، والمعترف بها من قِبل الأميركان أنفسهم ، وهي هاجس السيطرة على النفط ومنابعه ، لا بهدف الاستحواذ عليه والاستفادة منه فقط ، بل من أجل التحكم فيه كمادة استراتيجية يحتاجها العالم أجمع. وهو في هذا يلتقي مع ما قاله ألان غريسبان الرئيس الأسبق للإحتياط الفدرالي الأميركي في كتابه “زمن الاضطرابات” من أن النفط كان الهدف الأول والأهم من وراء غزو العراق واحتلاله والإطاحة بنظامه ، وما قاله بكل صراحة وزير الدفاع الأميركي الأسبق وليم بيري بنص مكتوب في تقريره السنوي مطلع العام 1995، حول نشاط وزارته واستراتيجية أميركا للمرحلة القادمة . “إن منطقة الشرق الأوسط نموذجية للمصالح الأميركية على الدوام ، مما يستدعي بقاءنا على أهبة الإستعداد للتحرك والرد ” .

كما يلتقي أيضا مع ما قاله قبل ذلك بكل وقاحة مساعد وزير الخارجية مارتن إنديك في محاضرة ألقاها بمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأوسط في 20 أيار/ مايو 1993 ، وجاء فيها بالنص الحرفي : “أهدافنا الصريحة تتلخص بتأمين النفط بأسعار متدنّية ، والحفاظ على وجودنا العسكري ، وضرب القوى المناوئة لنا . وبعبارة أخرى أقول : علينا أن نحتوي الشرق الأوسط على الدوام ، ونجعل منه مركزا لمصالحنا . وسنعمل مع إسرائيل وليس ضدها”!

يجدر التنويه هنا إلى أن الرابط بين تأمين المصلحة والاستعداد للضرب يعكس الحجم الذي وصلت إليه نزعة الهيمنة والتوسع والإحتكار. ومع ذلك يعود أمانويل طود للتأكيد على أن هذه الهيمنة والتوسع الأميركيين لن يعمّرا إلى الأبد ، وسوف تخبو شعلة الدولة الأقوى وتبدأ حركة الهبوط بعد الصعود الصاروخي في سماء العالم ، وعندها ستجد الولايات المتحدة نفسها مضطرة لبذل أقصى الجهود من أجل الحفاظ على كينونتها ، ومحاولة البقاء حيث الموقع الذي احتلّته منذ زمن قبل أن يفرض تغيّر الموازين نفسه على العالم الجديد.

التوقعات الأسوأ

كان هذا قبل أن تغوص أميركا في شرور حروب إدارتها وقبل أن تفتضح كل أكاذيبها وادعاءاتها . أما بعد ذلك ، أي في هذه الأيام فقد بدأ الأميركيون يتوقعون أسوأ ما يمكن أن يخطر على البال ، ويتخوف معظمهم من أن الأزمة الاقتصادية والكوارث الطبيعية وجنون السياسة ووحل الحروب لن تخرج منها الولايات المتحدة سليمة معافاة . ويذهب بعض الأميركيين إلى أبعد من ذلك حيث يستذكرون خرافات وتنبؤات كثيرة لا تستبعد بل تتوقع نهاية الكون في غضون سنوات عديدة إذا ما استمر حال العالم في التدهور أكثر .

في ظل هذه الهستيريا التي بدأت تسري داخل الولايات المتحدة أكثر من غيرها ، نأتي إلى الكلام الأدق والأخطر ـ إذا أثبتته الأيام ـ وهو ما أعلنه بداية آذار / مارس من العام 2009 مدير المدرسة الدبلوماسية في روسيا إيغور فنرين الذي تنبّأ في محاضرة ألقاها بمعهد إعداد الدبلوماسيين بقرب انهيار الولايات المتحدة سريعا وانقسامها إلى ست دول في موعد لا يتجاوز العام 2011 . كما توقع في المقابل ظهور معسكر قوي جديد من روسيا والصين يقود العالم ويأخذ مكان الأميركان ، ويقوم بإصدار عملة عالمية جديدة تحلّ محل الدولار.

تنبؤات هذا الدبلوماسي الروسي الذي كان ضابطا في المخابرات السوفييتية نشرتها معظم وسائل الإعلام ، وأصبحت مدار حديث الكثيرين رغم أنها مجرّد تنبؤات حول توقعات سوداوية من واقع الحال الذي تعيشه الولايات المتحدة في تلك الأيام ـ وحتى الآن أكثرـ ، لكن ثمة ما يُخفف من هستيريا الوساوس السوداء لدى البعض وهو أن نفرين نفسه سبق أن تنبّأ في أول الألفية الثانية بنفس المصير للولايات المتحدة ، غير أن توقعه جاء وقتها في وضع مختلف وتحت ظرف إقتصادي ونفسي وأخلاقي أقل سوءا بالنسبة للأميركيين مما هو عليه الآن . ومع ذلك تبقى التنبؤات التي لا تقتصر على هذا الدبلوماسي الروسي وحده ليست مجرد أوهام أو أضغاث أحلام ، بل لها ما يبررها ويسندها بالعقل والأحداث ، لا بالفبركة والأكاذيب كما فعل بوش وإدارته مع تابعه توني بلير .

لقد لعبت الولايات المتحدة على العالم وخربطت كيانه ، وها هي قد بدأت تعيش هاجس جني شرّ ما فعلته.

قد يهمك أيضاً

تعليقات

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

تابعنا

الأحدث