الأعمال الموسوعية والطرح الإسلامي المفقود (2)
لقد وقع مفكرونا المسلمون منذ زمن غير قصير من حيث لم يحتسبوا أسرى للرغبة الخبيثة ، الرامية إلى نعت الإسلام بأنه دين الطروحات النظرية ، والأفكار الرغبية المثالية ، التي ينقصها تقديم نموذج الحركة والفعل .
ولعل الرصيد الزاخر والتراكم الوافر ، من أدبيات الطرح والفكر الإسلامي ، في كافة جوانب الحياة ، دون تقديم ولو نموذج ممارسة واحد معاصر ، لهو دليل على نجاح تلك الرغبة المدمرة في الاستحواذ على أفكارنا ، وتسييرنا وفق مرادها .
ولعل الاقتصار على تقديم الرؤية الإسلامية لكافة جوانب المجتمع ، مهما كانت شاملة وعامة ، دون تقديم نموذج للممارسة مقترناً بها ، يعد دوراناً في هذه الحلقة المفرغة ، التي أراد لنا الآخرون استمرار الدوران فيها .
إن علماء المسلمين مطالبون بتحمل تبعات ثلاث :
التبعة الأولي : تقديم الإطار النظري للطرح الإسلامي في جميع أوجه الحياة ومناحي المجتمع ، مقروناً بنماذج الممارسة التاريخية ، سواء تمثلت في دولة الرسول صلي الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين ، أو في أية نماذج تاريخية أخري.
التبعة الثانية : تقديم أدوات تعامل الطرح الإسلامي مع الواقع المعاصر ، وآليات احتوائه لذلك الواقع ، وتطويعه لمفاهيمه وقيمه .
التبعة الثالثة : تقديم نماذج الحركة المعاصرة ، والتركيز على علاقة الاتساق بينها وبين الأطر المرجعية الخاصة بها ، والمتمثلة في عقيدة التوحيد والشريعة الإسلامية ، ثم بين طبيعتها كآليات ثورية من أجل الإصلاح والصلاح وبين متغيرات ومستجدات الواقع المعاصر ، والتي أهمها الثورات العربية المجيدة التي تحمل البشرى للأمة بعصر جديد مفعم بالحرية والكرامة ، وتحمل من ثم أشراط إفاقة الأمة لمواصلة ريادتها الإنسانية الثقافية والحضارية .
والتبعة الأولى الخاصة بالإطار النظري للطرح الإسلامي ، تعني الأصول والقواعد والعموميات الثابتة الباقية ، التي لا يمسها تعديل ولا يعتريها تغيير ، وهي بمثابة الأطر المرجعية التي ينتهي إليها كل أمر ذي بال ، وكل مسألة ذات أهمية في حياة المسلمين ، شرائعهم وشعائرهم .
والتبعة الثانية المتعلقة بأدوات التعامل وآليات الاحتواء والتطويع للمتغيرات والمستجدات ، تعني مهارة العالم الطارح وخبرته وحنكته ، وسعة علمه ومعرفته ، وقدرته على تناول الظواهر المعاصرة بالدراسة والتحليل ، والتعمق في جوهرها للوصول إلى أصولها ، ثم استنباط مدلولاتها ومعانيها في الأصول الإسلامية ، والدفع بذلك الجهد في بناء فكري متسق ومتكامل ينتهج العلمية والمنطق .
والتبعة الثالثة المرتبطة بنماذج الحركة المعاصرة ، قد تكون هي أثقل التبعات وأشدها وطأة ، فهي ليست من اجتهاد الفرد أو صنع العقل ، بل هي نتاج لتضافر جهود بشرية قوية وجبارة ، جمعت بين الفكر والحركة ، فصاغت النظرية في شكل نظام وتنظيم وسلوك ، ولكننا نعاني نحن المسلمين من ندرة نماذج الحركة المعاصرة ، التي تنقل النظرية الإسلامية وطروحاتها المختلفة في شكل نظم وتنظيمات وسلوكات ، تجلّي الحقيقة الأبدية التي مفادها أن الإسلام ثورة من أجل الإصلاح والصلاح .
لقد جال في فكري كل ما تقدم ، واستعرضت كل تبعة من هذه التبعات ، واكتشفت كم هي ثقيلة لأنها أمانة ، ولكنها ممتعة لأنها طاعة ، لقد توقفت ملياً أمام كل تبعة ، فلكل واحدة صعابها ومشاقها ومحاذيرها .