الشعائر غذاء الروح وتهذيب الجوارح
الشعائر أسمى ما في الكون لأنها قضاء الله وتكليفاته لعباده ، فهي من الإله الخالق ، وهي لإرضائه ، وهي بحكمته وعلمه ، وهي لإشباع روح المخلوق من الإيمان بالله والإحسان في طاعته ، وهي من المخلوق إذعان وامتثال وطاعة ، وعندما يتفانى المخلوق المكّلف بها في أدائها ، ترتقي عند الإله إلى رضى وقبول وحب ، وهذا غاية ما يتمناه المخلوق في هذا الكون .
هكذا كانت الشعائر منذ تكليف الإنسان بها من قِبل خالقه ، ولا تزال ، وستستمر هكذا إلى أن يرث الله الكون وما فيه ، فالشعائر فاتحة حياة المخلوقات العاقلة المكلّفة ، وضابط ومنظم تلك الحياة ، والدافع لها إلى مستقر الرحمة في جوار الخالق العظيم حيث الحياة الخالدة الأبدية .
وفي سياق الحديث عن الشعائر سنجد ثمة مفاهيم تقترب من الشعائر إلى درجة التماس بل والتلاقي والعناق مثل المناسك ، ومثل العبادات ، ومثل الفرائض ، وكل هذه المفاهيم لها خصوصياتها الفكرية والمعتقدية والتعبدية والتفاعلية في الحياة ، بما يستوجب الإيضاح والتبيين .
والتكليف بالأفعال التعبدية لا يليق إلا بمن يستحق أن يقرّبه الله منه من مخلوقاته ، فالتكليف من الإله العظيم هو أرفع درجات التكريم والتفضيل ، فمن لا يُكلّف يتحول إلى كمٍ مهمل يؤدي مهمته في الكون بالأمر والطاعة .
إن استقبال الشعائر التي تضمنتها الرسالات وأداءها ، إقرار من المخلوق بوحدانية الإله ، والاستسلام له ، واتباع شرعه عن قناعة واختيار وإرادة حرة منفردة ، ويترك شكل وعمق استقبال الشعائر والتفاني والإخلاص في أدائها آثاره على ما تفضي إليه من تغيير في روح وجوهر الإنسان ، وكذا في مادته ومظهره ، وأخيراً في حركاته وسلوكاته في الكون والوجود .
إن المتأمل للشعائر والمدقق في تفاصيلها يستيقن من أنها تقود إلى التقريب من الله دون وساطة ، فرضاه هو المرتجى وثوابه هو المبتغى ، وذلك عندما يقترب المتعبد الناسك من الله وبخاطبه ويناجيه دون تحديد زمان أو مكان ، ودون الاستعانة بوسيط أو مرشد أو دليل !
ثم إن المردود النهائي لنتاج الشعائر في حالة أدائها برغبة صادقة وبتفانٍ يسبغ الجانب الروحي الأخلاقي العاطفي الوجداني من النفس البشرية ، فيعمق علاقتها بخالقها ، ويهذّب الجوارح ويشذّب الغرائز ، وتتجلّى آثاره في السلوكات الآدمية .
العلاقة بين الشعائر من ناحية ، وبين الجوارح والغرائز من ناحية أخرى ، جد قوية ، واعتمالها معاً عبر تلك العلاقة جد مثير ، وحري بالمتابعة .
فشعيرتا الصلاة والصيام يهذبان في النفس البشرية جوارحها وغرائزها المتجسدة في النهم إلى لذة المأكل ومتعة الفرج ، أما شعيرة الزكاة والصدقة فتهذب في النفس البشرية النهم إلى التملك وحب المال .
في حين أن شعيرة الحج تحوي التهذيب والتشذيب لجماع الجوارح والغرائز من أخلاق وعاطفة ووجدان وبدن ومملوك ومال .
وتنتهي الشعائر إلى مطافها الأخير حين يعم المؤمنين شعور بالمساواة التي تنزع من النفوس أثرة التميز المادي ، وتُحِل محلها شعوراً بالسكينة والطمأنينة .
إن الشعائر تفرض على المكلّفين الارتباط عبر أربع دوائر من العلاقات المتشابكة ، الدائرة الأولى هي العلاقة بالخالق ، حيث تعمّق وتوطّد التعرف إليه سبحانه ، حيث يقرّ له العبد بالألوهية ، ثم يفضي الحب إلى الطاعة التي تفضي بدورها إلى حسن العبادة والإخلاص والتفاني .
أما الدائرة الثانية فهي العلاقة بالذات ، حيث تتيح الشعائر للمتعبد أن يتعرف على حقيقة ذاته ، فيأنس بها ، ويسالمها ، ويوازن بين روحها ومادتها ، ثم يحسن إليها ، ويسيّرها وفق منهج الله !
والدائرة الرابعة هي العلاقة بالناس ، التي تبدأ بالعلاقات داخل الأسرة ، ثم علاقة الرحم ، ثم العلاقة مع المسلمين ، واخيراً العلاقة مع غير المسلمين ، والشعائر تضع كل علاقة من هذه العلاقات المتشعبة في نصابها الصحيح ، وتمنحها الاهتمام الذي يتواءم مع مقدارها ومكانتها .
ثم تأتي آخر الدوائر وهي العلاقات مع عناصر الوجود ، وهنا تؤسس الشعائر لتلك العلاقات من خلال ثلاثة مبادئ ، هي السلام والإحسان والإصلاح .