منهج الإسلام في التوازن بين الشعائر والشرائع وفطرة الأمن الحيوي
الشرائع أصول النظام الاجتماعي
أوضحنا في الجزء الأول من هذا المجلد ، كيف أن الإله العظيم بحكمته وطلاقة قدرته ، ضمّن رسالاته إلى المكلّفين من خلقه ذوي العقل والإرادة ، شعائر فرضها عليهم ، ليتواصلوا من خلالها معه ، ولتغذي أرواحهم وتحفزها دوماً ، ولتهذب جوارحهم ، وهم يباشرون حركتهم من أجل إعمار الكون وتفعيل الوجود ، ومن ثم فالشعائر موجهة إلى الروح ، وهو الشق الرمزي الخفي من الإنسان .
وفي هذا الجزء نبيّن ، كيف أن الخالق سبحانه ضمنّ رسالاته كذلك شرائع محكمة واضحة ، تنصرف إلى تمكين منهج الله في الكون وضبط حركة وسلوك بني البشر ، وكأن حركة الإنسان في الكون منضبطة ومحكومة بتأثير ضابطين :
الضابط الأول هو تأثير الشعائر في تهذيب جوارح البشر أثناء حركتهم في الكون والوجود .
الضابط الثاني هو الشرائع التي ضمّنها الله رسالاته ، وتستهدف ترتيب وتنظيم حركة الإنسان في الكون .
ومن شأن ضبط وتقويم حركة الإنسان في الكون ، عبر الضابطين الموضحين أعلاه ، أن ينزع بالإنسان نحو أداء الشعائر وعبادة الله والتواصل معه بتفانٍ ورضى وانسجام ، ما يستوجب رضى الله وحبه ومغفرته ، وتيسير حركته في الكون .
وهذا هو الشق المادي البادي من الإنسان ، الذي وُجّهت إليه الشرائع لكي تضبط سلوكاته وحركاته ، وعليه تحكم الشعائر الشق الروحي في الإنسان لأنها تناسبه ، وتحكم الشرائع الشق المادي في الإنسان لأنها كذلك تناسبه ، وهذا هو التوازن الذي ساوت من خلاله ووازنت شِرعة الإسلام بين شقي الإنسان ، الروح والمادة ، ولم تغلّب أحدهما على الآخر ، بل خصصت لكل شق ما يتواءم مع طبيعته وتكوبنه ونشاطه وتفاعلاته وحركته ، فالإنسان يسلم لله ويؤمن به ويتواصل معه من خلال روحه ، ومن ناحية أخرى يعبده من خلال الشعائر التي هي أفعال ، ثم يباشر حركته ونشاطه في الكون عبر بدنه وجوارحه وفق منهج الله .
ومن ثم جاءت الرسالات من عند الله لتحمل من الوسائل والآليات ما يعالج مكونات كل شق دون تغليب لأحدهما على الآخر ، ومن شأن ذلك التوازن ألا يجعل الإنسان روحياً معرِضاً عن النشاط والحركة ، ولا مادياً دون روح ، ولا يعرف إلا النشاط والحركة .
نحن وكل من قرر أن يتصدى لتأمل ودراسة وتحليل الظواهر الإنسانية الاجتماعية ، أي الإنسان في مجتمعه ، لا مفر لدينا من الانطلاق من حقيقة مطلقة ، وهي أن الإله الخالق قد قضى بتشكل الظواهر الإنسانية الاجتماعية ضمن قضائه الذي قضاه في الكون ، وتفضي هذه الحقيقة إلى نتيجة جوهرية ، وهي أن الظواهر الإنسانية الاجتماعية تمثل حتمية حياتية ، تمت بكيفية معينة ، وتشكّل وتوجّه حركة الإنسان في الكون بطريقة معينة وفي اتجاه معين .
إن ثمة تماهياً بين الإرادة الإلهية وقضاء الله ، فكل قضاء الله هو بإرادته ، وكل ما يريده الله يقضي به ، ولا يجد دارسو الظواهر الإنسانية الاجتماعية صعوبة في إثبات ما نقول به أو التوصل إليه ، وعلى ذلك فقد كانت الظواهر الإنسانية الاجتماعية بكيفية وهيئة معينة ، وتتفاعل مع ذاتها ومع الكون بطريقة معينة ، محكومة في ذلك بضوابط وقوانين مصدرها الإله الخالق .
لقد جاءت الظواهر الإنسانية الاجتماعية مرتبة بطريقة تتوافق مع إرادة وقضاء الله في الكون ، وذلك لأن الإنسان والمجتمع الذي شكّله هو نتاج قضاء الله في الكون ، وقد جاء وفق مشيئته ، كذلك فحركة الإنسان في الكون التي تتم وفق ما قضى الخالق العظيم ، تتولد عنها الظواهر المذكورة ، فكل حركة تولّد ظاهرة .
ولأن الإنسان مخلوق عاقل مفكر ، استخدم عقله وتفكيره فيما يتجاوز متطلبات غريزته ، وواصل التفكير في فهم وتفسير الواقع ، والتعاطي والتعامل مع ما يحيط به ، كانت الظاهرة الفكرية [الثقافية] هي أول الظواهر الإنسانية الاجتماعية .
ولأنه منذ خُلق وهو يألف التجمع في إطار رابطة ذات خصوصية للتناسل والتكاثر ، كانت الظاهرة المجتمعية هي الظاهرة التي تلي ظاهرة الفكر [الثقافة] ، ولعل تلك الظاهرة غريزة فطرية في تكوين الإنسان وفطرته .
ولأنه منذ أن خٌلق في هذه الأرض أخذ يواجه ويكابد صعوبات ومشاق الحياة ، ويتعاطى ويتعامل ويتفاعل مع عناصر الوجود ومفردات الكون التي تحيط به ، من أجل الحفاظ على وجوده وكفالة تفاعله وضمان تطوره وسط مكونات وتفاعلات هذا الكون الصاخب بالحركة والنشاط ، لذلك كانت الظاهرة الحضارية .
وباستخدام العقل المفكر ، وفي إطار التجمع ، وفي مواجهة ظواهر الكون وعناصر الوجود ، شرع الإنسان يبحث عن متطلبات الغريزة ، حتى يؤمّن الحياة ، ويضمن الاستمرار والبقاء ، فواجه صعوبات شحة الموارد التي واجهها بمواءمة متطلباته وحاجته مع المتوافر منها ، فكانت الظاهرة الاقتصادية .
ومنذ أن تشكل المجتمع الإنساني بأبسظ صوره ، كان في حاجة إلى التنظيم والترتيب والقيادة ، والبحث عمن يستطيع القيام على أمر أفراده ، وتنظيم العلاقات فيما بينهم ، فكانت الظاهرة السياسية ، وما يرتبط بها من إدارة وقانون ، وما إلى ذلك من ارتباطات أخرى .
أسلفنا أن الظواهر الإنسانية الاجتماعية هي قضاء الله وإرادته في الكون ، ومن أجل إنفاذ منهج الله ، وترتيب وتنظيم العلاقات بين البشر ، كان التشريع الإلهي ضمن الرسالات ، وهذا التشريع أنزله الله على المجتمعات الإنسانية في نموذجين .
النموذج الأول من التشريع نزل في رسالات على أقوام من أجل إصلاح وتنظيم المجتمعات التي يعيشون فيها ، وكان ذلك هو واقع حال كل الرسالات التي نزلت على المجتمعات قبل مجيئ شريعة الإسلام ، فأقوام نوح وهود وصالح ويونس وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى وعيسى جاءتها رسالات الإله من أجل إصلاحها ، لا من أجل تأسيس وتشكيل مجتمعات جديدة !!
النموذج الثاني من التشريع هو النموذج الذي نزل على العرب في شرعة الإسلام ، وهو تشريع جله إنشائي وقليله إصلاحي ، وكان هو الأساس والحافز لإنشاء مجتمع جديد قائم على التشريع الإلهي .
وتتمثل مهام التشريع الإلهي في المجتمعات التي نزل إليها ومن أجلها ، في تأسيس المكونات النظمية والهيكلية لتلك المجتمعات والحفاظ عليها من التصدع والإنهيار ، وذلك لأنه تشريع يجمع صفات الكمال والمثال ، إضافة إلى كونه أخبر بطبيعة الناس ، وأقدر على التعاطي معهم ومعالجة أحوالهم .
لقد ساهمت الشرائع التي هي التشريع الإلهي بصدق وواقعية وبشكل مباشر في صياغة النظم بكافة أنواعها وأشكالها في دولة الرسول الكريم ودولة الخلافة الراشدة ، وهذه الحقيقة كفيلة بأن تفند كل ما يسوقه الكثيرون من تشكيك في قدرة ذلك التشريع على صياغة النظم وتشكيل التنظيم وضبط السلوكات .
إن الشق التشريعي في رسالة الإسلام قادر وكفيل بأن يصيغ النظم ويشكل التنظيمات ويضبط سلوكات أبناء المجتمعات المسلمة في أي وقت وفي أي مكان ، وذلك يكمّل ويتمم دوره الذي أدّاه في عصور الإسلام الزاهرة [النبوة والخلافة] .
ويتجسد نتاج التشريع الإلهي في مهام ثلاث : تتمثل المهمة الأولى في عبادة الله التي خلق من أجلها الناس ، وتتمثل المهمة الثانية في إعمار الأرض ، وتتمثل المهمة الثالثة في إقامة الحياة الطيبة التي يصبو إليها كل إنسان .
ولكن نظرة فاحصة على المجتمعات المسلمة تؤكد على أن تلك المجتمعات لم تعد تلتزم بالشرائع التي تمثل الشق التشريعي من الرسالة ، ولذلك أسبابه المتعددة والمتنوعة ، ولذلك الإعراض تطوره التاريخي ، وله كذلك نتائجة التي انعكست بشكل واضح على المجتمعات المسلمة .