العرب .. هذا دأبنا ولا جديد
عرب ولا جديد؛ في تاريخنا استنصرا الغساسنة بالروم على إخوتهم المناذرة ، الذين استنصروا بدورهم بالفرس ، وأصبح كلاً منهما عصاً لحليفه وأنجزوا لنا باقتتالهم يوم حليمة غزير الدماء .. وفي زمن آخر في مكان ليس ببعيد كان حصار الروم لتدمر ، وكان تواطؤ رأس المال، وكانت النهاية الأليمة للملكة زنوبيا وانهيار مملكة تدمر الأيقونة التاريخية في صحراء الشام بعد ما دُكت كما دُكت قرطاجنة بمقتل هانيبال ، واليوم ما الذي تغير بعد مرور مئات السنين؟!
مرت حقبة الجاهلية بثاراتها ودمائها وغطرسة القوة فيها، وجاء الإسلام بسماحته ووحد بين رقابنا المتناحرة، وبعد الفتح رأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً تماما كما رأيت أفواج برقة، ومصراته، والزاوية، والجبل الغربي تتوافد على خيمة العزيزية تبايعها على النصرة واللا خذلان في حاضر الأيام! ..
فور غياب النبي – صلى الله عليه وسلم – أسقطت تلك الأفواج ذاتها ركن الزكاة، وذهبت تشحذ شِفار السيوف، وأسنة الرماح لملاقاة جيوش الصحابة التي التفت حول أبي بكر، وانحازت لمشروع الدولة، وأبت عصبية الأحلاف والقبائل؛ لترتوي سيوف خالد والذين لم يبدلوا تبديلا من دماء المنافقين؛ حين لم يكن عمرو موسى، وشلقم، والدباشي، و(بان كي مون) والجزيرة، وترهات الدموع، وحماية المدنيين!! .. خضعت رقابنا للدولة الوليدة إلى حين، وما أن اختفى ابن الخطاب ورهط من الرعيل الأول حتى طلت الفتنة برأسها ودارت رحى الحرب.
قتلنا عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعمار، وألحقنا بهم الحسين حفيد رسول الله .. هدمنا الكعبة بالمنجنيق، وصلبنا عبد الله بن الزبير على شجرة لثلاثة أيام ولولا صرخة أمه في وجه الحجاج لظل إلى يومنا هذا مصلوباً على تلك الشجرة في باحات مكة .. قامت دولة بني أمية على ثأر عثمان وقميصه المخضب بالدماء، ودانت لها مشارق الأرض ومغاربها، ومن أبرز منجزاتنا فيها عزلنا السياسي الأول لـ (أبي ذر) خريج مدرسة النبوة ليدفع ثمن (الرأي الآخر!) ويموت وحيداً في الصحراء .. حاصرنا الصين من خلف الجدار وأقسمنا أن نطأ بأقدامنا تراب قصر الإمبراطور وأذعن حكامها وفاوضونا سلماً وحملوا إلينا تراب القصر؛ ليبر قتيبة بن مسلم بقسمه وأذنوا لنا بإرسال الدعاة لنشر الدعوة سلماً لا حرباً، وحملتنا حضارة الصين في جوفها ولم نحملها، وحين اتجهنا غرباً ونجح رجل منا نجا من مذابح العباسيين في بني أمية وتأسست حضارة الأندلس على العلم والمدنية، كفرنا أبن رشد وضربنا عنقه وأحرقنا كل ما كتب ودمرنا دور العلم في تلك الديار الآمنة وبنينا على أنقاضها دويلات الطوائف، وتضائلنا شيئاً فشيئاً حتى فقدنا قصر الحمراء بصمتنا اليتيمة في بلاد القوط .
وفي زمن ما من تاريخنا المتشابه دفعت نشوة الانتصار، وغريزة الانتقام ببني العباس إلى نبش قبور بني أمية، ونشر ما ضمته رفاتهم على الأشجار، وجاءوا بـ (ابن النصير) من المغرب الأقصى، و بـ (ابن القاسم) من جبال الهند مقيدين؛ لا لشيء إلا لأنهما قادا جيوش بني أمية في الفتوحات، فوجب في نظر الدولة الجديدة اجتثاث الرجلين وعزلهما على طريقة اجتثاث البعث العراقي، والعزل السياسي الليبي، ونبش قبور آلـ (أبو منيار) .. لا فرق بين ما يجري من تنكيل وتهجير لليمنيين، والدار فوريين، والسوريين، والعراقيين السنة، والسكان العرب في مناطق الأكراد، وتاورغاء، والعوينية، والقواليش، وسرت، وورشفانة، وبني وليد، وطبخ أنصار القذافي أحياءً في القدور والأفران وبين حصار قريش لبني هاشم، ومجازر المهلهل في بني بكر، وما فعله العباسيون ببني أمية، وما فعله جيش اليزيد في ركب آلـ (البيت) في تلك العصور الغابرة، و جرجرة صدام لحبل المشنقة تحت جنح الظلام كأضحية لعيد نحر المسلمين و التخفي و سحل الأمير عبد الإله في شوارع بغداد و تنكيل ثوار (البرجوازية!) بالقذافي و أبنه المعتصم و الرتل المصاحب وما فعلته جحافل الإنكشارية في الدواخل الليبية، وهم يجبون للأستانة الضرائب المجحفة لتثبيت عروش حكامهم، وإشباع عطشهم لدماء العرب البدو المساكين في العهد القرمانلي.
تحالفنا مع الأمريكان في أفغانستان، والعراق، وليبيا، وسوريا على أنهم أهل كتاب ودعاة حرية وحقوق إنسان، وبـ (لي) عنق النص المقدس كانوا هم الأقرب لنا معشر المؤمنين في مشروع إسقاط (الإتحاد السوفيتي!) ،كما أفتى لنا مشايخنا في الحرمين، وغضضنا الطرف عنهم في بيت المقدس و أكنافه ربما لذات السبب أو ربما لأن فتوى الـ (إم آي 6) في وجوب الجهاد من عدمه تقول بتأجيله في فلسطين إلى أن تتوحد جبال كشمير مع رمال أزواد وتمبكتو وشواطئ طنجة والبوسنة وصقيع الشيشان وشمال نيجيريا تحت راية خليفة واحد يقطن طيبة يحسم خلافاتنا حول اللحية والإزار ورؤية الهلال ويجيز المسح على الجورب ويفرز لنا الفرقة الناجية ويحرق صحف ما سواها من الفرق الباغية؛ لتتنزل ببركته (الملائكة!) كما تنزلت و قاتلت مع الأفغان ثم تنزلت لتلعن حفتر وتحمل إلى الجنة جثة (نادر العمراني)، ستتنزل هي ذاتها وببركة ذلك الخليفة لتفكك لنا مفاعل ديمونة وتشعل النار في جنة بن جاسم في (نهاريا)، و تبارك تفجيراتنا في منهاتن وباريس للكفار الطغاة لقولهم بأن الله ثالث ثلاثة ولشروعهم في استنساخ الخلية الجينية، ومناداتهم بالزواج المثلي، وحق التظاهر، وحرية الاعتقاد، وعولمة ثقافة الأجناس.
لا شيء تغير فبالأمس جاءنا (لورنس العرب) وأقنعنا بالتمرد على الأتراك العثمانيين لأنهم مارسوا التجهيل وقمعوا الحريات، ثم خلع قناعه وقسم لنا شبه الجزيرة العربية واستعمرها لعشرات السنين، وجعل من نجوعنا البدوية دولاً كرتونية هشة ذات طرق وأبراج ولها رايات وجيوش وأناشيد وأموال (قارونية) وأحلافاً دولية تدك بها باب العزيزية، وجبال اليمن، دون أن ندري بأن دولنا المرفهة هذه وبأبراجها لن تكون إلا خرافاً تسمن للذبح في العيد الأمريكي الآتي في علم الغيب، كمكافئة لها على مساهماتها الغبية في المشروع الأمريكي البريطاني لإحياء الصراع بين الهلالين السني والشيعي حين ضخت أموالها الضخمة في الحرب على الخميني الذي أزاح الشاه، وطرد سفير إسرائيل وسلم سفارته لياسر عرفات.
في محطة أخرى يأتينا (بول برايمر) محتجاً على رجل منا حافظ على وحدة العراق بجيشه العظيم ليأمرنا بذبحه ليلة عيد الأضحية، وتقسيم بلاده بالطائفية وعاصمته بحواجز (الكنكريت) وفرق الموت ، وبعد فينة من الزمن وبتفويض من الجامعة العربية، وبحلف عربي أطلسي، وعلى أرض المختار والقومية العربية يأتينا (برنارد ليفي) – تحرسه بنادق ليبية شوهت تاريخها في محروقة والقرضابية والكردون والجبل الأخضر و قصر حمد – ليتشفى من البدوي الذي فند قوله بإنجاز اليهود لوعد الله ؛ وليخلق بفوضى الجهل والكيدية مزيداً من التثبيت لوعد بلفور، وهنا أيضا يتناسى أعياننا تاريخ تدمر، ويفتحون له منافذ برقة وجبل نفوسة و الكراريم ويستقبلونه بأزيائهم الشعبية وزغاريد النساء و(الترفاس) والجنسية الفخرية ويتخذونه دليلهم على درب الحرية ويفتحون علينا أبواب الجحيم؛ وللعام السادس لازال صوت الرصاص يدوي في أقسام الطوارئ في مستشفيات قصر بن غشير و سبها وبنغازي وأبو سليم والصابري وسوق الحوت، وهاهم بلمختار والغرياني والغنوشي يستحلون ما تبقى من دماء و كهرباء و أموال ذلك الوطن المنكوب المرشح للتقسيم، وها هي مفارز من الجيوش الغربية على الأرض، و في الأجواء تتقاسم الأدوار في مناصرة (ثوارها!) المتحاربين .
أينما تجولت في تاريخنا تجد الغدر و الدماء؛ أليسوا عرب أولئك الذين تسموا بـ(الأقدام السوداء) في حرب التحرير الجزائرية ؟! و ماذا عن أولئك الذين نفذوا مذابح أيلول الأسود، و صبرى و شاتيلا؟! أولم نقدم على طرد عناصر الجيش الأحمر الياباني من لبنان بجريمة قتالهم معنا في مطار (اللد) ؟! فعلناها و طردناهم ربما لأننا و (قولدمائير) خلافاً للماركسية نلتقي في السامية! و التوحيد! فعلناها و تواطئنا كما تواطئنا حين أقدمنا على تسليم (كارلوس) للمخابرات الفرنسية، وهو الذي ترك علومه وغنى أسرته، ودخل عالم الجريمة السياسية الدولية تضامناً مع قضايانا العادلة الخاسرة في موازين المجتمع الدولي! ألم يشهد علينا العالم ونحن نعلن من واشنطن (عاصفة الحزم) لتنطلق طائرات التحالف العربي السنغالي تقصف المدارس ومواكب الأفراح وخيام المآتم في تعز وصنعاء التي حال الفقر بينها و بين عضوية مجلس التعاون الخليجي حلبة (الأولوقارشية) الأثرياء؟! أردناها حرباً على ولاية الفقيه و حكم الإمامة فإذا بالمفخخات في قلب عدن والصواريخ تدك بوارج، و مدن شرق السعودية، و مشاهد توابيت الموتى لا تفارق الأنظار، و إذا بالإفتاء المكي يعلن بعد ألف سنة كفر الشيعة البواح! .. لا أدري وأنا عربي كيف لي أن أتفهم تحالفنا مع جبهة النصرة و جند الشام ضد بشار الأسد والجيش العربي السوري وهي تداوي جرحاها في مستشفيات الصهاينة بالجولان المحتل وتتقدم تحت غطاء جوي أمريكي نحو دمشق الممانعة التي ظلت عصية على التطبيع و السلام ؟! وكيف لي أن أتفهم التنكيل بقبائل خولان وأبو النمر والعلوية في اليمن والعراق وسوريا والقبائل العربية التي ناوأت المشروع الغربي في ليبيا لتصبح مستباحة الدماء والأعراض والأموال بالجملة وعلى هذا النحو ؟! وكيف لي أن أتفهم أن نفعل بـ (اليزيدية) باسم الإسلام ما لم يفعله عمر والصحابة حين فتحوا العراق والشام ولم يمسوهم بسوء ؟! وكيف لي أن أتفهم جدوى وجود جامعة عربية والجموع العربية تزداد تزاحماً في مخيمات اللجوء من جبالية وجنين وتل الزعتر وتندوف إلي الموصل مروراً بـ (تاورغاء) وجاراتها الليبيات كما هي مخيمات اللجوء بدار فور واليمن وأقاليم الصومال لنتبوأ في زمن العولمة الصدارة في الانتهاكات والتقتيل واللجوء والتهجير؟!
لم نقدم للإنسانية سوى القات ووأد البنات وختانهن وطبخ المعارضين في الأفران والقدور وإعدامهم بالرصاص وبماء النار كما فعلنا بأنصار القذافي وبالمهدي بن بركة وأبو ضياف عندما كانت ليبيا والمغرب والجزائر في أمس الحاجة إليهم .. أو لسنا نحن من أسقط الكاتب ناصر السعيد حي من ارتفاعات شاهقة في صحراء الربع الخالي، واخصينا شاعرنا الكبير مظفر النواب ؟ أو لم يخترق رصاصنا الغادر رأس المبدع ناجي العلي في غربته الحزينة ؟ أو لم نُطْبق الأصفاد على معاصم فقهاءنا وننسفهم نسفا كما فعلنا بالشيخ الشويرف وأبو صوة والشيخ البوطي ؛ فقط لأجل الفهم المغاير كما كانت جريرة أبا ذر و شكري بلعيد والدكتور رجب أبو دبوس والشاعر القطري إبن الذيب ونظيره العراقي أحمد النعيمي؟! أو لسنا نحن من نسف فندقاً كاملاً بالمخرج العالمي مصطفى العقاد وأبنته مكافئة له على إبداعه الكبير في الرسالة وفي عمر المختار ؟! أو لم نذبح عشرات الكتّاب والصحفيين والمحامين في عشرية الجزائر السوداء ؟! أو لم نكافئ نزار قباني بنسف زوجته بلقيس في بيروت، ووضعنا أبو رقيبة باني تونس الحديثة في الإقامة الجبرية لعشر سنوات أو يزيد ؟! أو لم نذبح وبلا محاكمة الرجل الذي أجهد نفسه ليبني لشعبه مجمعات الحديد والصلب ورأس الأنوف ومليته ومصفاة الزاوية على شواطئ المتوسط ونُسجَيه في ثلاجة خُضار بل وحرَمنا عليه المدافن في أرضٍ جلب لها الماء من أعماق الصحراء؟!
لم ننجز شيئاً ذا قيمة من بعد الموروث الحضاري الفرعوني – إن جاز لنا إدعائه لأنفسنا – وسد مأرب وحدائق بابل واختراع الصفر وقصر الحمراء والسد العالي وأخيراً النهر الصناعي العظيم أكثر المحاولات الجادة لمواجهة العطش كما يصفه خبراء المياه في الغرب الأمريكي .. لم نقدم للبشرية بعد هذه المنجزات القليلة التي تمت في قرون طويلة وظللنا على دأبنا نروي عطش السادية فينا ونتفنن في الكيدية والشخصنة والتآمر والخيانة والعمالة والانتقام و السبي و اغتصاب (الولايا!) والغش والنفاق والسطو والذبح والتعذيب وحرق المنازل والتهجير وتحويل المدارس إلى معتقلات قبلية وأماكن للجوء ومهاجمتها بالرشاشات القبلية وبسكاكين التنظيمات الجهادية والطائفية وحين طفح بنا الكيل وضقنا ذرعا بكل هذا، وبالإفتاء المسيس، وتطويع الدين لخدمة الإستراتجيات الغربية، ومللنا الاصطفاف الطائفي والقبلي والجهوي والاستهداف والقهر والتهميش على الهوية ؛ لم نفكر في ظهور الإبل ومكة الثرية الجحود بل عبرنا – كما عبر الوالد الليبي الوفي بطفلته ساجدة التي لم تجد في مستشفياتنا بعد فبراير أي ملاذ – وركبنا قوارب الموت بالملايين إلى بلاد الغال ؛ بحثاً عن عدل الله في حياة بلا دماء وخبز بلا غبار ونوم بلا رصاص ومساكن لا تقذف بالـ (هاونات) وحتما ستضع نساءنا في ذلك العدل من يؤله المسيح أو يعبد الشيطان رداً على جحود مكة وسادية إسلامها الغامض الجديد .. هذا دأبنا ولا جديد!!!
شكرا أستاذ بريني على هذا المقال الذي يعكس الألم الذي تعانيه جراء ما آلت إليه أحوال الأمة. المقال مكتوب بلغة رشيقة وسلسة ولكنني رأيته مغرقاً في جلد الذات. لكل حضارة نقاطاً سوداء والأمة العربية ليست استثناء ولكن الرقعة مليئة بالمساحات البيضاء وبالإسهامات في الحضارة الإنسانية.. قبائل متناحرة يستغلها الأقوياء من فرس وروم في مآربهم، كما تفضلت، تصبح سنابك خيلها في سنين قليلة على مشارف فرنسا والصين والسند والهند في فتح قال عنه المؤرخ جوستاف لوبون أن التاريخ لم يعرف فاتحاً أرحم من العرب.. ما خططته في مقالك صحيح في مجمله ولكن دعنا نسأل سؤال منطقي هل لو كانت هذه الأفعال المدرجة في المقال هي السائدة هل غادر العرب صحراء الجزيرة ومرابعها؟.. أحسنت