قصر العظم في حماة: من أجمل الأوابد العمرانية في العصر العثماني

في أجمل بقعة من مدينة حماة السورية وعلى ضفاف العاصي في منطقة تكتظ بالكثير من الأوابد الأثرية الهامة يقع متحف قصر العظم الذي يعد من أجمل الأوابد العمرانية التي بناها العثمانيون ، ويمثل الطراز الهندسي لهذه الآبدة بما اشتمل عليه من فنون الفسيفساء والحفر على الخشب أروع ما بلغه الفن الإسلامي في عهد انحلاله ولعل أجمل ما في قصر العظم موقعه المميز الذي يشرف على نهر العاصي بقبته السامقة، ويجري النهر تحت أقدامه وكأنه شارع مستقيم جميل تشدو عليه نواعير حماة الشهيرة بصوت عنينها العذب ضمن حديقة غناء تمتاز بأنواع وأشكال مختلفة من الأشجار والثمار والأزهار. ومن نوافذ سطوحه يرى الناظر بانوراما رائعة للكثير من مباني حماة الأثرية مثل القلعة والجامع النوري وحارات حماة القديمة وبعض الجوامع الأثرية المنتشرة في أنحاء مختلفة من المدينة.

 

اشترك في بناء قصر العظم في حماة  ثلاثة من الولاة ففي منتصف القرن الثاني عشر هـ الثامن عشر م كانت مدينة حماة مشغولة في بناء قصر متسلمها في ذلك الحين وبعد جهود كبيرة بُذلت في البناء والزخرفة شمخت القاعة الكبرى بقبتها الجميلة فوق قبو كبير اتُخذ اصطبلاً ومستودعاً للأعلاف آنذاك واُتخذت القاعة مقراً لمستلم المدينة أسعد باشا العظم وكان ذلك سنة 1153 هـ / 1740 م

 

ويدل على هذا التاريخ أبيات من الشعر المنقوش على جدران القاعة الكبرى (قاعة الذهب) نصه

وعش عمرا مديدا في سرور  وعيشك طيب صاف نضير

وقل لمهندس الغرفات أرخ     بقاعة أسعد تحلو قصور

وبحساب الجمل يكون 187/135/444/396 = 1153

 

وأكمل مؤيد باشا العظم عمل أسعد باشا فبنى في الطابق الأرضي  قبواً  ملحقاً بالإسطبل يقع في جنوبه وشيد فوقه جناحا مماثلاً للقاعة الكبرى من الجنوب يتألف من غرف مزخرفة ومنقوشة وكان ذلك في عام 1824م، في عام 1830م أتم أحمد مؤيد باشا تزيين الطابق الأرضي فأنشأ إيوانا بديعا وفسقية كبرى مثمنة الشكل وعدة غرف تحيط بها فضلاً عن حمام خاصة بالقصر سميت باسم حمام المؤيدية نسبة إلى بانيها ويدل على ذلك أبيات الشعر المنقوشة على جدران الإيوان الأرضي الجنوبي جاء في اّخر بيت فيها:

 

أخي اشرب هنيئا ثم أرّخ   بمائي بركة حسنت مزاجا

وبحساب الجمل يكون 54\622\518\52\ = 1246 هجري ، وعندما تسلم نصوح باشا ولاية حماة لاحظ أن القاعة تضيق به فبنى قسماً إلى الشمال من القاعة الكبرى اتخذه مقراً وجعله مكاناً خاصاً  للضيوف والرجال  ( سلاملك  ) كما قام بترميم بعض أقسام قاعة الذهب سنة 1194 هـ ( 1780 م ) واتخذها سكناً لنسائه وحريمه ( حرملك ) كما هي العادة في بناء القصور العثمانية آنذاك ، وقام أحمد مؤيد العظم بن نصوح باشا بإضافات كثيرة على الحرملك فبنى سنة 1240 هـ 1824م القبو المقابل للإسطبل الذي بناه من قبله والده أسعد باشا وأنشأ فوقه غرفاً عدة مواجهة للقاعة الكبرى بعضها مزخرف كما بنى في الطابق الأرضي من الحرملك أيضاً إيواناً تكتنفه غرفتان وأمامه فسقية مثمنة الشكل إضافة إلى الحمام الذي يقع إلى شمال الباحة الواسعة للقصر.

 

وترك بناة القصر هؤلاء الثلاثة لأولادهم وأحفادهم القصر من بعدهم فسكنوه حتى عام 1337 هـ/1918م وكاد النسيان يخيم على هذا القصر لولا أن سارعت هيئة أمناء دار العلم الأهلية بحماة فاشترته من أصحابه بمبلغ/5000/ ل.س تبرع الملك فيصل الأول الذي مر بحماة آنذاك بألف جنيه منها. وظل القصر مدرسة حتى تم استملاكه من قبل المديرية العامة للآثار والمتاحف وقامت بتحويله إلى متحف للتقاليد الشعبية في مدينة حماة عام 1956 م في عهد رئيس الجمهورية “شكري القوتلي ” .

 

المانوليا المعمرة

أول ما يقابل الداخل إلى القصر باحة جميلة تتوسطها فسقية كبرى ( بحرة ) مثمنة الشكل ، وفي منتصف الباحة شجرة مانوليا معمرة يُعتقد أنها غُرست عام 1900 كما يروي المرحوم صادق العظم أحد أحفاد أحمد مؤيد باشا العظم ، وفي صدر الباحة يبدو الإيوان الذي بناه مؤيد باشا بواجهته ذات الزخارف النباتية التي تمثل جانباً من الطراز الفني الذي ساد ذلك العصر، وكان مثل هذا الإيوان يُبنى لجلوس أصحاب المنزل وعائلته وقضاء بعض الوقت صباحاً أو عصراً وسماع خرير مياه البحرة ، وما يميز هذا “الإيوان” فرشه المصنوع من القماش الخام الأبيض المطبوع الذي تتفرد مدينة “حماه” بصناعته .

 

وإلى شمال الباحة يرى الزائر ما سُمي بـ  ” حمام المؤيدية” نسبة إلى بانيه  بأقسامه التقليدية الثلاث ( جواني – وسطاني  – براني ) فضلاً عن المقصورة الخاصة. وقد توزعت في هذه الأقسام مجسمات تمثل مراحل الاستحمام التي تنتهي بالاستراحة والإضطجاع مع تناول النرجيلة وشرب الشاي ، وما يميز قسم الحمام هذا سقوفه المزدانة بالقمريات الزجاجية التي تسمح بمرور النور من خلالها، وإلى جانب الحمام ( غرفة المطبخ ) كما كانت تستعمل في العهد العثماني عُرضت فيها خزائن زجاجية تضمنت نماذج جميلة متعددة ومتنوعة من الزجاج الشفاف والمغشى والأوبالين والخزف الملون ذا البريق المعدني الذي اشتهرت به مدينة حماة في الماضي ، ، وإلى يمين الباحة يقابل الزائر درج حجري طويل يفضي بدوره إلى ساحة الطابق العلوي وهي تشبه الباحة الأرضية إذ تتوسطها بحرة فسقية من الرخام مثمنة الشكل ، وإلى يمين الباحة ثلاث قاعات بناها مؤيد باشا العظم ازدانت سقوفها وجدرانها بزخارف نباتية محورة عن الواقع وهي من نوع الدهان العجمي الذي اشتهرت به سوريا ولا زالت فضلاً عن زخارف كتابية تؤرخ لهذه الغرف وقد اُشغلت القاعة الأولى منها بمجسمات تمثل بعض الأزياء الشعبية التي اشتهرت بها مدينة حماة وقراها وبعض الصناعات التقليدية مثل النول اليدوي ومجسم يمثل فتاة تطحن البرغل من ريف حماة الشمالي ، أما القاعة الثانية فتضم مجسمات تمثل مشهداً لـ ( جلوة العروس) – حسب اللهجة المحلية – حيث تقوم الماشطة بتزيين وتلبيس العروس وتقديمها إلى العريس وإلى جوارها أم العروس والكل يرتدي الزي الحموي المشغول بزخارف نباتية من ” الصرمة ” هذا فضلا عن ثوب القز التي تشتهر به العروس الحموية وهو من الحرير الأصلي الأسود أو الأبيض تزينه زخارف شُغلت بطريقة ربط عقد صغيرة من القماش وصبغها بألوان طبيعية من الأحمر والأصفر و فوق كل نقطة توضع برقة وخرزة ويتوج هذا الثوب ياقة من المخمل الأسود المشغول  بـ  ” الصرمة ”  أيضاً بأشكال نباتية وحيوانية محورة عن الواقع .

 

وتضم القاعة الثالثة مجسمات تمثل رجلاً وثلاث سيدات بلباسهم التقليدي المعروف في حماة حيث يرتدي الرجل الشروال التقليدي الأسود وفوقه الدامر المطرز ويلتفع بالعصابة ( الحطة السوداء ) أما السيدات الثلاث فلكل واحدة منهن لباسها المميز كالدامر الطويل والثوب المحرداوي والثوب السراقبي وهي أزياء تشتهر بها مدينتا محردة وسراقب التابعتين لمدينة حماة .

 

قاعة الذهب !

مقابل هذه القاعات الثلاث تقع القاعة الكبرى أو ” قاعة الذهب ” التي تُعد أنموذجاً معمارياً وفنياً بالغ الروعة والجمال من الداخل والخارج على حد سواء .

 

وقبل الدخول إلى القاعة يقابل الزائر مدخل جميل مبني بالحجارة الملونة المعشقة الذي تعلوه أشرطة ذات زخارف نباتية محفورة بالحجر تملأ معظم جدار الواجهة ومن المعروف أن الزخرفة المحفورة على الحجر قد شاع في سورية منذ زمن بعيد ويعد الفنان السوري من أمهر الفنانين في هذا الميدان وتعبر واجهة الإيوان في الطابق السفلي وواجهة قاعة الذهب ابلغ شاهد على مدى مهارة الفنان السوري في هذا المجال .

 

وعند الدخول إلى قاعة الذهب ( القاعة الكبرى ) تتعطل لغة الكلام ويصبح الانبهار بماهو موجود من روائع زخرفية بديعة هو سيد الموقف وليس بوسعك والأمر كذلك إلا أن تتأمل جدران وسقف هذه القاعة التي تجلت فيها عبقرية الفنان العربي وأن تنظر إلى القبة المنيفة ومقرنصاتها البديعة التي تنم عن ذوق فني رفيع وتنطق عن فن ناضج أصيل يذكرنا بمجد الفن الإسلامي في فردوسنا المفقود ( الأندلس ) .

 

وعتبة هذه القاعة مربعة الشكل طول ضلعها 4 م فُرشت بالرخام والحجارة الملونة بأشكال هندسية متناظرة في غاية الدقة والإبداع وتقوم في وسطها فسقية صغيرة

 

” اثنا عشرية ” من الحجارة الرخامية والملونة المرصوفة تنتهي بتاج رخامي بديع يتألف من ثلاث وخمسين نافورة للماء تُحدث عند تشغيلها شبكة بلورية رائعة تتكسر عليها أشعة الشمس وتتألف قاعة الذهب من جناحين شرقي وغربي وهما متناظران في كل شيء في النوافذ الخشبية التي ازدانت بالزخارف النباتية والهندسية واكتست بالدهان العجمي الرائع إلى جانب العناصر الكتابية وهي نماذج من الشعر العربي القديم فضلاً عن الشمسيات الجصية المخرمة الملونة التي تزين أعلى الجدران وهي تشبه النوافذ من حيث تناظرها وتنوعها .

قد يهمك أيضاً

تعليقات

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

تابعنا

الأحدث