: هؤلاء غجر سوريا الرحالة “الظرفاء المنبوذون” الذين شردتهم الحرب
شارك الموضوع:
يُعد الغجر من أكثر شعوب العالم غموضاً وعزلة عبر التاريخ ،اختاروا حلم الرحيل والهروب المتواصل منذ الأزل فالحنين إلى اللامكان واللازمان هو جوهر الحلم الغجري .. ليس لدى الغجر وطن وعلى نقيض جميع البشر ليس لديهم حلم العودة إلى وطنهم الأصلي ” الهند ” الذي خرجوا منه قبل مئات السنين.
حول هؤلاء الرحالة الظرفاء المنبوذين في المكان والزمان كان لوطن هذا التحقيق:
إلى الغرب من مدينة حمص السورية المفرغة من أهاليها اليوم بسبب الحرب كان ثمة حي شعبي يدعى “جورة العرائس” تتناثر على مساحته الجغرافية مئات البيوت العشوائية، ولتسمية هذا الحي الذي يقطنه نسبة كبيرة من الغجر قصة طريفة يرويها كبار السن في الحي المذكور حيث يُروى أنه في أواخر الخمسينات من القرن الماضي اشتهرت فتاة من هذا الحي بجمالها الأخاذ ورقصها الفتان فهام بها أحد وجهاء المدينة على طريقة الفيلم الشهير ( الغجر يصعدون إلى السماء ) تزوجها وبنى لها بيتاً وأسكنها هناك وسرعان ما تجمع حول هذا البيت غجر حمص من بني قومها فسُمي حي ( جورة العرايس ) الذي بقي إلى ما قبل سنوات قائماً بغجره الذين سكنوا البيوت الحجرية والإسمنتية بعد أن كانوا يقطنون خيام الخيش وقطع القماش الملونة .
وثمة رواية شعبية أكثر طرافة تقول أن هذا الحي اخذ اسمه من عرائس الجن التي كانت تسبح بالقرب منه على ضفاف نهر العاصي – كما روى أبو نمر أحد أبناء الحي المهجرين لـ”وطن” مضيفاً أن أبناء هذا الحي من الغجر كانوا يزاولون مهنة الرقص والغناء في الحفلات الشعبية، وتسمى الفتيات اللواتي يقمن بهذا العمل “الحجيات” ويطلق على هذه الفئة من الغجر تسمية ” الريَّاس ” الذين يعتمدون في معيشتهم على حرفة الرقص والغناء وخاصة النساء منهم بخلاف ما هو معروف عند ” القرباط ” الذين يحترفون النجارة ” صنع الغرابيل ” والحدادة وصبغ الأحذية وخاصة بالنسبة لصغار السن وتصليح الأسنان ولهم شهرة واسعة في هذا المجال .
وهم يبرعون في العزف على آلات النفخ ومن أهمها ( الزرنة ) وآلات العزف الوترية كالربابة والبزق والعود وان كان البزق هو سيد آلاتهم يبرعون فيه بما لا ينافسهم فيه أحد ومن أشهر عازفي هذه الآلة الفنان الكبير الراحل محمد عبد الكريم ( أميرالبزق ) الذي أطلق عليه موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب لقب ” باغانيني الشرق ” .
” الزط ” و” النَّور “
من تسميات الغجر التي وردت في كتب المؤرخين ( الزُط) بضم الزاي أو فتحها أحياناً وهو اسم معرب لشعب هندي قديم يميل لونه إلى السواد أو السمرة النحاسية القاتمة وموطنه الأصلي بلا السند والسواحل الممتدة غربي الهند.
وتحدثنا المصادر العربية والفارسية عن هجرات لهذه العناصر تحت ظروف وأسباب مختلفة إلى إيران والخليج والى جزيرة مدغشقر ( ملجاش ) والساحل الشرقي الإفريقي وعرفوا في إيران باسم ” jat ( الجت ) ومن هنا جاءت تسميتهم المعروفة في سورية بـ ” الجط ” كما عُرفوا في سورية ومصر أيضاً باسم نوري وهي تحريف لكلمة( لوري ) التي عرفوا بها في اسبانيا ولعلها أصل كلمة ” النور” التي تُطلق عليهم في سورية
ويعود أقدم ذكر للغجر أو الزط في بلاد الشام إلى عام 1199 م عندما أسُر منهم خلق كثير يقدرون بنحو سبعة وعشرين ألفا على زمن المعتصم و تذكر المصادر التاريخية أن علي بن أبي طالب أول من استخدم الزط (السبابجة) في الدولة كحرس على بيت مال البصرة، وهـو مـا يعني أن جلبهم تم قبل سيطرة الأمويين على العراق، وقد تحسنت أوضاعهم في عهده كغيرهم من الفئات الاجتماعية ، إلا أن مشاركتهم في الأحداث ظلت قليلة، وتذكر هذه المصادر أن أول انتفاضاتهم كانت في عهد مصعب بن الزبير، الذي خاض صراعاً مع المختار عقب استيلاء الأخير على الكوفة، مما قد يشير إلى علاقتهم بثورة المختار الثقفي.
طقوس الولادة
من الطقوس الخاصة بالغجر منذ القدم وحتى اليوم ما يتعلق بالولادة ، إذ كانت المرأة الحامل عند الغجر قديماً بمثابة كائن غير طاهر، وبالتالي تعزل في خيمة منفصلة بعيدة عن أهلها وأهل زوجها وعند قدوم ميقات وضع الطفل تذهب الأم المرتقبة بعيداً بمفردها إلى شجرة حيث تضع مولودها هناك، أو تضع مولودها في خيمة أخرى، وتستمر فترة العزل للمرأة بعد الولادة لمدة تتراوح بين أسبوعين إلى شهرين، بعدها تمارس حياتها العادية اليومية بصورة طبيعية، ولا يلمس والد الطفل ولده إلا بعد أن ينمو قليلاً .أما الآن فقد تغيرت هذه العادات وأصبح بمقدور الغجرية أن تذهب للمستشفى لإجراء عملية الولادة، ويستطيع الزوج أن يزور زوجته وهو في كامل أناقته.
عربة الميت !
تعتبر عادات الوفاة من أكثر العادات القديمة التي دامت إلى اليوم عند الغجر، و تلعب ” العربة ” التي كانت بمثابة رمز للغجري دوراً ظاهرا في تلك العادات، فبعد وفاة أحد الغجر تحرق عربته! وفي الأوقات العصيبة يقومون ببناء خيمة وتدميرها عوضا عن إحراق العربة – كما يقول الباحث الدكتور دارم الطباع الذي وضع كتابا بعنوان ( الغجر الرحالة الظرفاء المنبوذون ) ، وقبل دفن الغجري المتوفى لا يتناول الغجر الطعام ولا الشراب، ويقوم ثلاثة من الغجر بحراسة المتوفى من الأرواح الشريرة، وقد استمرت هذه العادات حتى عام 1915م، وعادة ما يكون الكفن واسعاً لاحتواء ممتلكات المتوفى إلى جانبه، ويقومون بإلباسه أحسن الأزياء لديه، أما المرأة فتدفن معها جميع ممتلكاتها الثمينة، إلا في حالة أن يكون لديها بنات من دم غجري خالص، عندها يرثن تلك الممتلكات .
ويرى الحاج محمد ديب النجار نسابة حمص لـ”وطن” أن الكثير من الغموض والأسرار تحيط بطقوس الوفاة لدى الغجر في سورية إذ لا يعرف أحد أين يوارون موتاهم ولا مقبرة خاصة بهم في سورية وهذا الرأي يؤكده الواقع .
المكنسة والشال !
تتسم طقوس الزواج لدى الغجر بالصرامة والمحافظة والطرافة والغرابة بآن معا ً ويتم هذا الزواج عادة في سن مبكرة ولا يزوج الغجر بناتهم من غير الغجر وكذلك لا يتزوج الغجري إلا غجرية و يعطي الغجري البنت التي يختارها للزواج الشال الحريري الذي يلفه على عنقه، وإذا ما ارتدت البنت هذا الشال فهذا دلالة على أنها قبلت الزواج به وإلا فلا، والطلاق نادر الحدوث بين الغجر. وهناك عادة قفز الزوجين للمكنسة، وعادة أخرى أكثر غرابة في الزواج، وهي أن يتصافح الزوجان ثم تكسر قطعة من الخبز وتسكب عليها قطرات من الدم من إبهاميهما، ثم يأكل كل واحد منهما القطعة التي فيها دم الآخر، ثم يكسر ما تبقى من قطعة الرغيف على رؤوسهما، وبعدها يغادران مكان الاحتفال، ولا يحضران إلا في اليوم التالي للمشاركة في الغناء والرقص وبذلك يتم الزواج والكثير من هذه العادات وغيرها انقرضت اليوم وأصبح احتفال الغجر بأعراسهم مثل غيره لدى طبقات المجتمع السوري الأخرى.
ادفنوني واقفاً !
ليست ثمة إحصائية رسمية تقدر عدد الغجر بالضبط في العالم ولكن التقديرات تشير إلى أن عددهم يقترب من اثني عشر مليوناً منهم ثمانية ملايين في أوربا خاصة الشرقية ورغم هجرتهم من أواسط آسيا قبل أكثر من ألف عام فلا يكاد يوجد ذكر مفيد للغجر في المدونات المعاصرة ، وكان يطلق على الغجر أسماء كثيرة تضمر في معظمها الإهانة : التتار – الكفار – اليهود – البوهيميين – الحمقى – شعب فرعون وغيرها من الصفات التي تطلق جزافاً إلى الآن دون معرفة عميقة بهم كما تقول الباحثة ” ايزابيل فرنسيسا” في كتابها ( ادفنوني واقفاً – الغجر ورحلتهم ) ولذلك يعيشون هكذا على ضفاف الزمن في منتهى العفوية والتلقائية وفي أغلب الأحيان لا تتجاوز ذكرياتهم ثلاثة أو أربعة أجيال .