من القدرات الغريبة والعجيبة للثورات المضادة التي تديرها الدول القديمة أو العميقة، أنها واكبت سريعاً كل تقنيات التواصل الاجتماعي، وهي بالمناسبة بارعة في مواكبة كل التطورات التقنية التي تتعلق بحماية عروشها فقط؛ فتجدها تستعين بأحدث أجهزة التجسس والمراقبة، وتوظف ببراعة المخبرين والساسة والإعلاميين وجماعات الضغط في العواصم الغربية، لكن من أهم ادواتها ما يسمى باللجان الإلكترونية، الذين يملؤون المواقع الاجتماعية شتماً وقدحاً وتشكيكاً وتسبيحاً بحمد الحاكم، وكذلك كتبة التقارير الأمنية أو الصحفية، إضافة إلى مذيعين جاهزين للنباح من على فضائيات تتسلل إلى غرف نومنا.
لكن ما مشكلتهم مع قناة “الجزيرة” وهم يملكون هذا الأسطول الهائل من اللجان والكتاب والفضائيات والصحف والسياسيين والميليشيات؟ ما الذي جعلهم يقاطعون ويحاصرون القطريين شعباً وحكومة، وتكون أولى مطالبهم إغلاق القناة التي أكملت عامها العشرين؟
هذا السؤال المحرم، كما أسئلة أخرى دارت في مخيلة بطل رواية جورج أورويل، “1984”، فلا حقيقة في هذا الكون سوى ما يقوله “الأخ الأكبر”؛ محمد بن زايد بالتحديد، فما ابن سلمان إلا تابع، وأي قول غير قول ابن زايد هو إرهاب ودعم للإرهاب والإخوان والإسلاميين. و”الجزيرة” تتبع هذه الفئة.
قسمت السعودية ومصر والإمارات الشعب العربي بين إخوان أو لا إخوان والمسألة ليست كذلك. ربطوا أي معارض لهم بالإخوان، حتى اليساري والليبرالي والمسيحي أيضًا. ولم يطلقوا على ما فعلوه إرهابًا. ولا شك في أن هذه “الجزيرة” -اتفقت معها ام اختلفت- تفسد بعض طبيخهم للمنطقة، أو على الأقل تحرض رعيتهم عبر تطرقها إلى محرمات “الأخ الأكبر”.
عشرون سنة من عمر القناة الفضائية تكفي بما ساهمت فيه من إشعال الثورات وإسقاط الأنظمة، هذا ما يقوله لسان حالهم، بينما دروب الثورة المضادة تضيق في معركتها المدمرة للثورات العربية وكأنها -أي “الجزيرة”- مع دولة قطر، آخر العقبات أمام محمد ابن زايد الذي يدشن تاريخاً جديدا للعرب عنوانه الصهينة.
ورغم أن “الجزيرة” أفردت مساحات واسعة لتغطية ثورة التونسيين متأخرة، إلا أنها متهمة بالتحريض، وهو شرف لم تنله ولم تدعيه، وكذلك فعلت مع الثورة المصرية والسورية. لا تعترف الثورة المضادة بأي من الأسباب التي قامت من أجلها الثورات من قتل وقهر وتعذيب وإهانة للكرامة الإنسانية على يد رجال الأمن وفساد مستشري وديكتاتورية وتوريث حكم للأبناء ومصادرة للحريات وقضاء فاسد مسيس وحكم شمولي مقيت وفاشل.
لا ترى الدولة العميقة سبباً لكل الشرور التي أصابت الرعية لولا هذه القناة التي التف حولها العرب واختلفوا عليها. ورغم أن اللجان الإلكترونية، ومنذ انقلاب الجيش المصري على أول رئيس منتخب، ظلت تروج أن “الجزيرة” ساقطة ولا يشاهدها أحد، ورغم كل الفضائيات التي صرف عليها ابن زايد الملايين لتقارع “الجزيرة” ففشلت، إلا أنه اكتشف في نهاية المطاف أن لا حل مع هذه القناة سوى قصفها إذا اقتضى الأمر كما اقترح قدوته “جورج بوش”.
وإن لم يفعل بوش فإن ابن زايد مضطر لأن يفعل كي ينهي حربه ضد ثورات العرب التي بدد فيها المليارات دعماً وتمويلاً للانقلابات والحروب الطائفية والعرقية. والثورات لا صوت لها سوى “الجزيرة”، وهي آخر المسامير التي تدك طغيان الدول القديمة والعميقة بعد أن طفحت معتقلاتهم بالمعارضين.
ومن مخازي تاريخ العرب منذ جاهليتهم الأولى أنه تولى أمرهم “ابن زايد” الذي استطاع أن يهيمن على قرار أكبر عاصمتين تهدد عرشيهما قناة إخبارية. الأول اللاهث وراء العرش محمد بن سلمان الذي خطف حكم المملكة من أبيه الملك وأقصى ولي عهده محمد بن نايف ثم سلم القرار لمعلمه ابن زايد مقابل أن يدعم الأخير صعوده إلى العرش بقوة ماله وعلاقاته مع صهاينة واشنطن! والثاني صاحب العرش الذي أقيم على جثث ضحايا رابعة، عبد الفتاح السيسي، الانقلابي الذي لن يصمد من دون دعم مالي من ابن زايد، ودعم سياسي أيضًا من خلال صهاينة واشنطن وعبر سمساره يوسف العتيبة.
لا شيء يعكر معارك اليوم المصيرية التاريخية والتي سترسم مستقبل المنطقة ما بعد “سايكس بيكو” سوى مقاومة هنا وهناك، وشاشة تنقل صوت المقاومة والناس والثوار والإخوان واليساريين والليبراليين والمهجرين واللاجئين في عصر لا يحتمل أكثر من صوت ابن زايد وحليفه وزير الحرب الإسرائيلي “ليبرمان” الذي يشاركه معركته المصيرية ضد “الجزيرة”. ولا شاشة تستحقها الرعية، كما يرى الحاكم بأمره، أفضل من “العربية” و “سكاي نيوز” مع كمشة فضائيات مصرية أخرى للردح والنباح. ولا شيء يزيد المشهد بؤساً سوى المنساقين وراء اللجان الإلكترونية، الذين بمقدار ما رددوا على مسامعهم أن “الجزيرة” سبب مصائبهم، صدقوا وتمنوا لو تزول كي يجدوا المأكل والملبس والدواء والسكن وتنتهي الطائفية والحروب الأهلية ويتوحد الفلسطينيون، وتحل كل مشاكل العرب، التي ازدادت كما أقنعتهم اللجان والفضائيات والمقالات بعد ثورتهم “المجرمة”.
نظام المهداوي