الصداقة، هذا المنهل العذب الذي يصبرنا على العيش في صحراء الحياة القاحلة، الملجأ الذي يستطيع أن يلوذ به الإنسان من وحش الوحدة القاتلة، سعيد هو من صادف في حياته ولو صديق واحد، ومحروم من حرم من نعمة الصداقة، فهو يعيش في شر البلاد كما قصد المتنبي عندما قال في شعره: “شر البلاد بلاد لا صديق بها —– وشر ما يكسب الإنسان ما يصم” ولقد قالوا قديما: أختر الرفيق قبل الطريق، فيا حظ من وجد من يشاركه دروب الحياة الوعرة، المليئة بالمهلكات، فكم من عقبات تخطيناها بتشجيع من صديق، وكم من مصائب نجونا منها بنصيحة من صديق.
وقد صادفت الكثير من الناس في حياتي لا يعرفون معنى الصداقة، وإن كانوا يظنون في أنفسهم أنهم من أكثر الناس أصدقاء، فتجدهم كلما جاءت سيرة أحدهم يقولون بثقة شديدة “فلان هذا صديق” ولثقتي بأن الصديق نادر في الناس كندرة الذهب بين المعادن، كنت اعرف أن من يدعي صداقة الجميع لا صديق له.
وكثيرا ما كنت أهم بإخبارهم أنهم واهمون، ولكني كنت أشفق عليهم من وقع الصدمة، صدمة أنهم وحيدون للغاية، وكنت أفضل لهم التنعم في راحة الجهالة، على أن أدخلهم في شقاء المعرفة، وبالطبع كان هذا خطأ شديد، لأن أحداث أحداث الحياة غالبا ما كانت تسبقني إليهم فتعرفهم حقيقة الصداقة، فيكتشفوا في نهاية المطاف أنهم لم يقابلوها في حياتهم ولو لمرة واحدة، فتتركهم حطاما يشكون للرائح والغادي ما حل بهم من غدر الأصدقاء.
الصداقة كالرزق –بل هي رزق-أمر قدري لا يد لنا فيه، فتجد بعضنا سعيد الحظ فيه، وبعضنا الأخر لم يقدر له أن يصب منه شيئا، الصداقة لا قيمة لعنصر الوقت فيها، وخصوصا في طور نشأتها، فقد تجد أنك تربيت مع شخص ما، عشت معه عشرات السنين، إلا أن علاقتك به لا تعدو المعرفة السطحية، لا تفهمه ولا يفهمك، وإن كنت تعرفه ويعرفك، لذلك قد ترى الكثير من الأشقاء غير أصدقاء، وإن كانت من نعم الله على الإنسان، أن يكون الشقيق صديق.
وهذا بالطبع لا ينفي أن مرور السنوات على الصداقة التي تأسست على أسس سليمة من التفاهم والتوافق والتجرد من المصالح، لا يزيدها إلا قوة وصلابة، مع ما تمر به هذة الصداقة من اختبارات ومواقف مصيرية في حياة الأصدقاء خلال مرور الزمن.
وقد تتعرف على شخص فينفتح قلبك له في وقت وجيز، وتجد نفسك تتصرف معه على سجيتك، وقد يحدث العكس فترى نفسك قد انقبضت بمجرد رؤية شخص بدون أن تكون بينكما سابق معرفة، كما روي عَنْ أمِّ المُؤمِنينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنها قَالَتْ: قالَ رسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَف. ( ((رواه أحمد، والبُخاري، ومسلم، والتِّرمذي، وابن حبّان)).
والتكلف عندي هو معيار الصداقة، كلما قل التكلف بين الصديقين، كلما عرفت أن الصداقة صارت أكثر عمقا، لذلك فقد صدق الإمام الشافعي عندما قال: “إِذَا المَـرْءُ لاَ يَـرْعَـاكَ إِلاَ تَكَلُّفـاً— فَـدَعْهُ وَلاَ تُكْثِـرَ علَيْـهِ التَّأَسُّفَـا” فالصديق يقول لصديقه ما تجيش به نفسه من انفعالات دون أن يخشى سوء تفسير أو التباس في الفهم، الصديق يفهم ما يرضي صديقه او يغضبه دون أن يحتاج صديقه أن يصرح بهذا.
ولا يشترط أن تتطابق طباع الأصدقاء، بل يكفي أن يفهم كل صديق طبع صديقه، ويقبله على علاته، فيجب أن نعرف أننا كبشر لا نخلوا من العيوب، وطالما أن هذة العيوب لا تقدح في الدين والمرؤة، فالواجب على الصديق أن يقبل صديقه كما هو.
وديننا يحض على الصداقة ويرغب فيها، طالما كانت هذة الصداقة من الصداقات المعينة على السير في طريق الحق، والثبات على المبادئ القويمة، حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل من الصديق دليل على أخلاق صديقه، عندما قال “جعلت فداه”: المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل، ليس هذا فقط بل إن الأصدقاء الذين أجتمعوا على الخير والوفا ومحبة الله -جل وعلا- وعدوا أنهم من السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله، ولولا أن الصداقة من نعم الله في الأرض لما وعدنا الرسول صلى الله عليه وسلم بمقابلة أصدقائنا في الجنة عندما:” إذا دخل أهل الجنة الجنة فيشتاق الإخوان بعضهم إلى بعض فيسير سرير هذا إلى سرير هذا وسرير هذا إلى سرير هذا حتى يجتمعا جميعا فيتكئ هذا ويتكئ هذا فيقول أحدهما لصاحبه : تعلم متى غفر الله لنا ؟ فيقول صاحبه : نعم يوم كنا في موضع كذا وكذا فدعونا الله فغفر لنا”.
فاللهم أرزقنا برفقة أصدقائنا في الجنة، وقنا من العيش في شر البلاد.