وأنا صغير عندما كنت أسمع سورة البروج، ذات الجرس المهيب، والنبرة المتوعدة، كنت أسأل عن قصة اصحاب الأخدود، وأحاول تصور حجم المعاناة والألم الذي تعرض له المومنين على يد أشباه البشر الذين قاموا بهذة الجريمة البشعة، فقط لمجرد أنهم أمنوا بالله، وخالفوهم في المعتقد، كما قال عنهم الله عز وجل في السورة “وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد” فالإيمان بالله هو جريرتهم والثبات عليه هو ذنبهم، كنت أتألم للتعذيب الذي تعرض له المؤمنين، ولكن عزائي كان أن هذا الأمر قد حدث في الماضي، وكنت أتصور أنه لن يتكرر في المستقبل، وأن تلك المأساة لن تتكرر مرة أخرى، فلإسلام انتشر، والأخدود أهيل عليه التراب، وصبت اللعنات على حفاريه.
لكن كل هذا كان خيال طفل صغير، لا يعرف حقيقة العالم، ولم يدرك الاغتراب الذي يعيشه المسلم حتى على الأرض التي ولد عليها جد جده، فالأخدود مازال مفتوحا في الأرض كجرح أحدثه أبن عاق في جبين أمه، ونيرانه مازالت تنزف متأججة حتى شكا منها طير السماء، يغذيها طغيان حكام المسلمين، وتعاميهم عما يحدث في بني دينهم، مقابل أن يتعامى الأخرون عما يفعلونه هم في بني اوطانهم الذين قدر عليهم ان يقعوا تحت نير حكمهم.
وتمر الأيام وأعرف وأفهم، ولكن هذا الفهم كان لا يزال غير شامل أو كامل لما يتعرض له المسلمين، فكنت أظن أن الأخدود تحول من شق في الأرض يسعر بالنار، إلى فكرة أو رمز من رموز التعذيب والقهر، لكنني كنت مخطئا مرة أخرى، فعندما رأيت ما يحدث في الروهينجا، وجدت صور للأخاديد التي شقت في بطن الأرض تستعر فيها نار وقودها رجال ونساء وأطفال، لم يقترفوا أي ذنب في دنياهم إلا أن قالوا أن ربهم هو الله.
مسلمي الروهينجا يحرقون على الهواء، أمام أنظار الجميع، والمجتمع الدولي يتفرج، والسبب الوحيد لهذا الحرق والاغتصاب والتهجير، وفرجة المجتمع الدولي أيضا، هو أنهم يشهدون بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، في الوقت الذي ينقلب الغرب فيه رأسا على عقب إذا هاجم أحدهم الشواذ، وقال – مجرد قال- إن ما يفعلونه جريمة بشعة ضد الفطرة التي فطر الله خلقه عليها، فهل لعاقل أن يعتمد على رد فعل مجتمع دولي هذا ميزانه وهذا عدله.
وكارثة هذة الصور والفيديوهات التي تردنا عن المحارق التي يتعرض لها أهلنا في بورما، أنها تجعلنا ننظر مع الوقت لكارثتهم بصورة إجمالية، بعيدا عن التفصيلات التي تتمثل في أن كل شخص موجود في أي صورة له حياة كاملة مثلك تماما، وله أم وأب وأبناء وأحلام ومشاريع كان يخطط لها في حياته، وليس مجرد رقم من أرقام ضحايا الحرق والتهجير، فالتعامل مع الكوارث التي أصبحت تحيق بأمتنا بصورة مستمرة بهذة الطريقة يجعلنا نعتاد الهوان بالتدريج، وأنا هنا لا أهون من أهمية هذة الصور بل بالعكس هي سلاح غاية في الأهمية، ولكن اهمية السلاح وخطورته تكمن في طريقة أستخدامك له وتعاملك به ومعه حتى لا تضر نفسك به.
الافت للنظر في مأساة الروهينجا، أن المجازر التي تحدث هناك يقوم بها ويشرف عليها كهنة الديانة البوذية، التي تفننت السينما الأمريكية والأوربية في إظهار مدى تسامحها، وأنها ديانة تؤدي للصفاء الروحي، ورحمة الحيوان، وسلوك كهنتها المثالي، مع إن المتصفح للصور والفيديوهات لن يجد واحدة تخلوا من كاهن يقف بزيه الأحمر الشهير، نحن هنا إذن أمام تصفية صريحة على أساس ديني، هل سكوت العالم يعني أنه مع أي كيان طالما أن هذا الكيان ضد الإسلام؟.
هذا العالم لا يلتفت إلا إلى الأقوياء، ولا يقدر إلا على الضعيف، وخاصة إن كان هذا الضعيف مسلما، وطالما سيظل المسلم بهذا الضعف والهوان، فلا تنتظر إلا المزيد من مشاهد القتل والتذبيح في المسلمين، وأول الطريق إلى نصره ضعفاء الأمة، هو تحرير هذة الأمة من طغاتها، وأي طريق لا يؤدي بنا إلى هذا الحرية هو طريق يؤدي بك لأن تصبح وقودا لنار الأخدود الذي لا يزال مشتعلا.