أصوات فكرية عريقة عن تربية فلسفية جديدة

” انه لو ساءت حال صانعي الأحذية ، ولم يعودوا كذلك إلا بالاسم، لما كانت العاقبة وخيمة على الدولة، أما إذا لم يعد حراس القوانين والدولة حماة لها إلا بالاسم لجرأ على الدولة كلها خراب لا يعوض. إذ أن نظام الدولة وسعادتها إنما يتوقف عليهم وحدهم.”1[1]

يحتل سقراط (399-470) قبل الميلاد مكانة استثنائية في تاريخ التربية وذلك لما كان قد اتصف به من تواضع علمي وخاصة إقراره من جهة بأن كل ما يعرفه هو أنه لا يعرف شيئا مع تلازم ذلك مع أمره القطعي بأن يعرف نفسه بنفسه من جهة أخرى وهو ما مثل مفارقة في العملية البيداغوجية برمتها: إذا كان غير متأكد من صحة ما يعرفه ومن مطابقته مع عالم الحقيقة ولا يملك مؤيدات تجريبية حوله فإنه لا يملك أي شيء يمكن تعلميه ولا يستحق أن يكون مرسلا للمعرفة ولا مختصا في الدراسات التاريخية.

مقالات متعلقة

زد على ذلك امتلاك كل امرئ معرفة سابقة حصل عليها بصورة فطرية في الناس قبل حلولها في البدن وهذا الأمر يكون بصورة أقل لدى الأطفال والعوام والمرضى وبالتالي  قد لا  يحتاج إلى معلم خارجي وإنما يمارس الاستبطان أو العودة إلى الذات وعليه أن يتقن فن التوليد الذي يعيد الحياة إلى الأفكار التي كان يعلمها في العالم الأبدي قبل السقوط في العالم الأرضي وعليه ممارسة التهكم والسخرية من الآراء.

بهذا المعنى إن توليد الأفكار من الأنفس هو بمثابة استخراج الحقائق التي يحملها الكل بصورة بديهية منذ ميلاده وان فن التوليد هو صفة من صفات الآلهة مايا التي تلد الكائنات من عناصر سابقة التكوين2[2].     لقد كان رهان سقراط الأول هو التعويل على الذات في عملية البحث عن الحقيقة والانغماس في تعلم الحكمة بدل البقاء في مستوى النية والادعاء على المستوى النظري وجعل تفادي الزيف هو الشرط الذي يسبق كل عملية إدراكية تصل إلى المعرفة اليقينية واكتشاف العلم الحقيقي بعد تنقية الذهن من الظن.

لقد ناضل سقراط ضد بيداغوجيا الإكراه التي أتاح لدوائر النفوذ القيام بأعمال غليظة تتصف باللاّتسامح وسعى بكل ما أوتي من جهد إلى تأسيس بيداغوجيا الجهل الحكيم وفن التعلم الذاتي وترك رسالة التفلسف الحر والوفاء المطلق للحقيقة والالتزام بالمبدأ والتمسك بالتعاليم الفلسفية التي لا تتحرج من التدخل في الشأن العام بغية إصلاح أحوال الناس ومساعدتهم على احترام القوانين وإتباع العقل وصيانة المدينة.

بيد أن أفلاطون (347-427) تجاوز الفن المستلهم من مهنة الأم في التوليد نحو بناء فن الجدل بالحوار العقلاني واللغة المفاهيمية والتصورات العامة من خلال حضور أطراف ثلاث من الناس وهم المشاركين في الحوار والمتفرجين على النقاش العمومي في الأغورا أو الساحة والحكام الذين ينظمونه وفق قواعد3[3].

  لقد توزع فن الحوار بين طرح الأسئلة على المتعلم ومساعدته على اكتشاف الأجوبة بنفسه عبر معارفه.

غير أن العامي ينتهي في الغالب إلى أجوبة خاطئة يستقيها من المعرفة اليومية والحس المشترك ويحتاج إلى تجربة تطهيرية لكي يتخلص منها ويفرغ من ذهنه من الأوهام ويتحسس السبيل نحو الوعي بالذات.

على خلاف السفسطائيين تبني أفلاطون وجهة نظر وجود الحقيقة من حيث واقع مفارق ومطلق يتحرك ضمن العالم الإلهي وجعل من نظرية التربية المثالية طريقة عملية تهدف نحو الكشف عن هذا الواقع.

  لقد كان برنامج الأكاديمية ، التي اعتزم أفلاطون تشييدها دون جدوى من ذلك، يتضمن منح المرء صفة الإنسان الكامل عندما يبلغ عامه الخمسين وبعد أن يخضع لعدد من التمارين الشاقة والحصص المتعاقبة ويتعلم بالتجارب ويزود بالتقنيات ويختبر ملكاته ويروض من طرف باحث عن الحقيقة في مدينة مثالية.

يتعلق الأمر بتكوين مواطنين لهم القدرة على إدارة الشأن العام ويضعون أنفسهم في خدمة النظام السياسي وتشييد جمهورية تربط بين نظرية المثل والنسق التربوي الحقيقي ضمن نظرية النظام السياسي الأفضل. لقد أقام فلسفته التربوية على جملة المبادئ التالية: “الرجل الصالح هو الذي يحتمل الأذى، لكنه لا يرتكبه. وبالتالي إن القليل من العلم مع العمل به أنفع من كثير من العلم مع قلة العمل به… لكن لا يتطلب الأمر سرعة العمل بل تجويده لأن الناس لا يسألونك في كم فرغت منه بل ينظرون إلى إتقانه وجودة صنعه”.

لقد ولدت علوم التربية ضمن إطار تشكل السياق الاجتماعي ولكي تستجيب لانتظار الوسط الحضري ويحقق حاجيات الجسم السياسي الذي تشكل في فترة متأخرة ويتيح للقيم والممارسات الديمقراطية الانتشار والترسّخ ويساعد الناس لاكتساب المواطنة عبر آليات الحوار العقلاني وتشجيع حلقات النقاش العمومي.

لقد ظهر منذ البداية اتجاهان متعارضان:

الاتجاه الأول براغماتي اعتمد بالأساس على السفسطة وتعامل مع التعليم من حيث هي حرفة ومثله بروتاغوراس الذي رفض أن يهدف التعليم إلى بلوغ الحقيقة ضمن شروط محددة وحرصه في معرفة الكيفية التي يكون بها المرء ناجعا في أفعاله وأقواله ، وبعبارة أخرى إتقان فن الإقناع بواسطة الخطابة.

الاتجاه الثاني فلسفي اتخذ من العقل وسيلة أساسية للتمييز بين المحسوس والمعقول وبين الظن واليقين وأسس للمواطن الأرستقراطي في أثينا بعد خوض تجارب سياسية فاشلة أكاديمية تربوية تمثل مدرسة عليا ومركز بحث وتعلم الكل عن طريق المحاورات حول جميع المواضيع التي تهم الحياة وماقبلها ومابعدها. ما يجدر الانتباه إليه في هذا المقام أن ” التربية هي واحدة من الأنشطة الأكثر أساسية والأكثر ضرورية بالنسبة للمجتمع البشري”4[4]، عرفها الإغريق واعتنى بها غيرهم من الأمم وخاض فيها الفلاسفة العرب. فقد ذكر ابن مسكويه حول تأديب الأحداث والصبيان خاصة أن العقل من بين القوى التي تظهر للإنسان فيحدث له الشوق إلى تمييز الأفعال الإنسانية خاصة أولا أولا، حتي يصير إلى كماله في هذا التمييز”5[5]، ثم يضيف في دستور تهذيب الأطفال ما يلي:”فالأولى بمثل هذه النفس أن تنبه أبدا على حب الكرامة”6[6].

  بيد أن ابن الجزار القيروان في سياسة الصبيان وتدبيرهم رفض التنشئة عن طريق الإهمال في صبيان وتركهم يعتادون على صاحب الطبع المذموم ولقد ركز على اثر الأخلاق في تهذيب الطباع بقوله ” فمن عود ابنه الأدب والأفعال الحميدة والمذاهب الجميلة في الصغر حاز بذلك الفضيلة ونال المحبة والكرامة وبلغ غاية السعادة ومن ترك فعل ذلك وتخلى عن العناية به هاداه ذلك إلى عظيم النقص والخساسة”7[7].

من جهة أخرى رفض عبد الرحمان ابن خلدون في المقدمة التربية بالإكراه والعسف وذلك لما يخلفه في نفوس المتعلمين من إذلال وضعف ولما يكرسه من حكم جائر وسياسة متسلطة وفي المقابل دعا إلى التربية من خلال الحرية واللين والمسايسة والإقناع وذلك لما يثمره في النفوس من ثقة وإقبال ومحبة.

” من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر، وضيق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه الى الكسل، وحمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقا، وفسدت معاني الانسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرن، وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله، وصار عيالا على غيره في ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى انسانيتها، فارتكس وعاد في أسفل السافلين”8[8]. إذا جاز الحديث عن فلسفة تربية في حضارة إقرأ فإنها تدور في فلك الاحتذاء والاقتداء والأسوة والإبداع وتنفر من العنف والهذر والتقليد والنقل وتكون قريبة من حسن الأدب والفضائل والشيم وبعيدة عن الرذائل والبحث عن الجاه والمجد والمال.  لكن ماهي الدروس التي يمكن استخلاصها من مساءلة التربية من جهة حدها المنطقي وماهيتها الميتافيزيقية؟

الإحالات والهوامش:

[1]  أفلاطون، الجمهورية ، ترجمة فؤاد زكريا، دار الوفاء ، الإسكندرية ، مصر،  طبعة 2004، ص 288

[2] Maïa, maieutiké, art maïeutique

[3] Platon, Théétète, « Mon art d’accoucher a toutes les propriétés de celui des sages-femmes…ceux qui me fréquentent  donnent pour commencer l’impression d’être ignorants ; de moi, ils n’ont jamais rien appris, mais c’est de leur propre fonds qu’ils ont fait nombre de belles découvertes, par eux-mêmes enfantées ».

[4] Hanna Arendt, crise de la culture, Arendt (Hanna), la crise de la culture, huit exercices de pensée politique, traduit de Patrick lévy, édition Gallimard, Paris, 1972,p238.

[5]  مسكويه (أبو علي)، تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، مكتبة الحياة، بيروت، لبنان ،طبعة 1901، ص69.

[6]  مسكويه (أبو علي)، تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، مرجع مذكور، ص70.

[7]  ابن الجزار القيرواني، سياسة الصبيان وتدبيرهم، دار الغرب الإسلامي، بيروت، طبعة 1984، صص135- 136.

[8]  ابن خلدون (عبد الرحمان)، المقدمة، فصل في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم، تحقيق سعيد محمود عقيل، دار الجيل، بيروت، طبعة أولى، 2005، ص597.

المصادر والمراجع:

أفلاطون، الجمهورية ، ترجمة فؤاد زكريا، دار الوفاء ، الإسكندرية ، مصر،  طبعة 2004،

ابن خلدون (عبد الرحمان)، المقدمة، فصل في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم، تحقيق سعيد محمود عقيل، دار الجيل، بيروت، طبعة أولى، 2005،

ابن الجزار القيرواني، سياسة الصبيان وتدبيرهم، دار الغرب الإسلامي، بيروت، طبعة 1984،

مسكويه (أبو علي)، تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، مكتبة الحياة، بيروت، لبنان ،طبعة 1901،

Hanna Arendt, crise de la culture, Arendt (Hanna), la crise de la culture, huit exercices de pensée politique, traduit de Patrick lévy, édition Gallimard, Paris, 1972,

كاتب فلسفي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
situs slot togel
slot gacor
https://kaisarpoker.missteeninternational.us/ https://www.phprentacar.ro/doc/superkaisar/ https://kaisarpoker.camaraayacucho.org.pe/
kaisarpoker
kaisarpoker
grafindo.id
kaisar-poker.banksyariahdanamulia.co.id
kaisarpoker
kaisarpoker
kaisarpoker
kaisarpoker
kaisarpoker
kaisarpoker
kaisarpoker
situs anti rungkat
kaisarpoker
kaisarpoker
bandar slot
kaisar poker
situs anti rungkat
kaisarpoker
kaisarpoker
kaisarpoker
kaisarpoker
kaisarpoker
kaisarpoker
situs anti blokir
kaisarpoker
kaisarpoker
kaisarpoker
Link Alternatif Terbaru Global
kaisarpoker
kaisarpoker
kaisarpoker
kaisarpoker
sudirman168
kaisarpoker
slot asia
terminal4d
situs toto slot
kaisarpoker
situs anti rungkat
situs slot togel
slot anti rungkat
bandar bola slot
bocoran parlay
situs slot pakai qris
slot bet 200
slot gampang maxwin
slot asia
slot gacor
slot anti lag
situs anti blokir
slot gacor sudirman168
kaisarpoker anti rungkat
sudirman168
slot asia
slot gampang scatter kaisarpoker
kaisarpoker
slot dana sudirman168
scatter hitam
slot online kaisarpoker
situs slot sudirman168
slot gacor sudirman168
rtp slot sudirman168
slot asia gacor
scatter hitam mahjong wins 3
sudirman168
sudirman168
sudirman168
sudirman168
situs sudirman168
sudirman168
sudirman168
slot gacor
scatter hitam
scatter hitam
scatter hitam
toto slot
scatter hitam
sudirman168 login
sudirman168 link alternatif
slot gacor dana
slot dana sudirman168
situs sbobet
sudirman168
situs sudirman168
terminal4d
slot dana
slot dana gacor
slot dana gacor
slot dana
bandar slot
slot gacor
Situs toto slot hari ini
slot togel
slot asia
slot asia Sudirman168
slot asia Sudirman168
slot asia Sudirman168
slot asia
slot asia sudirman168
Daftar situs slot togel terpercaya 2024
slot asia sudirman168
slot asia & scatter hitam
slot asia
slot asia
situs slot asia sudirman168
situs plinko online
toto slot 4d
situs slot
slot apk
slot togel
slot asia sudirman168
slot asia sudirman168
situs slot toto
slot toto 4d
slot toto gacor
toto slot gacor
toto slot
SITUS SUDIRMAN168