(الميكافيلية) الخضراء .. بحارة الأمس وأزمة البحث عن دور
من خلف و حول ذلك البدوي كانوا هم الطوق الخانق الذي لعب أدوار النضال والبطولة متشبهون بثوار أمريكا اللاتينية تارة ، وبرجال الـ (كي جي بي) تارة أخرى، إلى أن أثبتت الأيام براءة النموذجين من أصحاب العباءات المذهبة والخيل (المسرجّة) عبر الأثير .. هي ذات العائلات وذات الوجوه من خياري (الجاهلية والإسلام) ، ومذ انتصرت الخيمة على القصر وحطمت عصى الراعي تاج الملك تبادلت – بجشع وغباء سياسي محكم – القبض على حبال الأشرعة واحتكار مواقع الصدارة؛ لتثقل بثرائها وفسادها وإقصاءها الكفاءات الشابة كاهل الربان واستحقت وعن جدارة تسمية “القطط السمان” أو (بارونات) المال العام.
واليوم .. وبعد أن بدأت أمواج الإعصار العاتي تهدأ – وإن على مهل- يبذلون جهوداً مضنية في اصطياد الفرص للتقرب من نخبة فبراير العميلة التي جاءت تحت أجنحة (الأباتشي) وامتشقت حرابها للدفاع عن مشروع الأطلسي، والحاخامات، وعرب اليمين (الرجعي)، ولأنه لن يكتب لمحاولات التقارب المشبوهة تلك النجاح إلا بقدر ما تنصل أصحابها من انتماءاتهم الجماهيرية ، وبقدر ما ابتعدوا عن النظام الذي صنعهم من العدم وجعل منهم نخبته المميزة في الجيش والأمن والحياة المدنية بمختلف مشاربها؛ نرى أولئك (الباعة المتجولون) يذهبوا بعيداً في تشريح النظام وكفاءاته الوطنية، ويتهافتون على أبواب البعثة الأممية في طرابلس وعواصم الجوار ويمدون جسورهم مع من تركهم (ليفي) خلفه صبية، و(جزارة) قساة عَهِدَ لهم بحرق ما تبقى من جثة صيده الربيعي الثمين (ليبيا!).
إن تلك الأيادي العابثة باختلاساتها البشعة قبل النكبة، وإفسادها للقطاع العام، وبجلبها لقيادات إدارية هشة من دهاليز المخابرات العالمية، ومن علب الليل و”مصاطب” الباعة المتجولين في مدن شمال المتوسط وغرب المحيط على أنهم عقول وخبرات دُفعت دفعاً لأن تكون معارضة سياسية؛ إنما كانت تحفر بغباءٍ شديد أخاديد الموت لثورة الكادحين وأنصارها الأوفياء، ولا ينفك المرء اليوم يتقزز من رؤية (ميكافيليتنا الخضراء) وهي تغتسل (عارية) في مستنقع فبراير الآسن، صباح مساء مستعرضة مهاراتها، ونزوعها للبيع بأبخس الأثمان، وكذا مخزونها الثقافي الكبير الذي لم يمنعها ولعشرات السنين من المشاركة في النظام والسعي الدءوب لتولي المناصب السيادية فيه والتقاف المهام السرية والعلنية والمنازعة عليها في أروقة الخارجية والمالية ومكتب اللجان، ولم نكن حينها في معرض الظن أن نخبتنا النهمة هذه ليست سوى خطيئتنا الكبرى و الابن السفاح الذي سيفقدنا الوطن دولة، وتراباً، وثلة من الرجال الأكفاء.
ولى في تقديرهم زمن المجذوب، وعبد القادر البغدادي وبات من المحرج تذكر أسماء من قبيل عز الدين الهنشيري، وهلال الجرم، وعائشة العقوري، وميلاد الواسع، وإبراهيم علي، وآخرين كثر من حركة اللجان ماتوا وقوفاً على العهد، أو مازالوا أحياء صامدون في سجون الغدر والعمالة كأبي زيد دوردة، وأحمد إبراهيم، واعويدات غندور وانتهت بنهاية ذلك الزمن اليتيم كل موجبات الحياء والخجل كما انتهت معه رحلة التدليس والامتصاص الطويلة ولم يعد هناك ما يمنع من زيارة مرتفعات الرجمة، وميناء الشعاب، وأسواق عكاظ في (قمرت) التونسية؛ بحثاً عن أدوار جديدة وإن اقتضى الأمر البصق على إرثنا القديم في مجالس وفضاءات الإفك و العمالة.
مرت السبع الأول العجاف كاشحات؛ سحق فيهن الوطن والمواطن وتعالت الأصوات في طوابير العوز والجوع والخردة تنادي بعودة سيف (الرؤيا) وسيف (النظام)؛ وبات المأزق كبيراً للذين خدعتهم زرقة الأطلسي ودفء مياه الخليج الملعونة، وهانوا لأجلهما الأهل وغدروا بالرفاق والأتراب وفككوا ما استطاعوا من ترتيبات الدفاع وفتحوا المنافذ وأخلوا أسطح المباني لمن أسموهم جبناً بــ “شوية شباب!” وهم في واقع الحال جند الناتو على الأرض وقد جمعوا بين النقيضين: صفة (الثوار!)، ونقل (الإحداثيات!) .. كان كل ذلك (السقوط!) المريع؛ ولم يكن العدل ولا الأمن ولا الحكم الرشيد، وما عادت فبراير سوى مستنقعاً كبيراً للإنبعاثات والذباب القاتل والبعوض ولن يتعافى الوطن من أسقامه إلا بردم وتجفيف مستنقع السوء هذا بكل ما حام حوله وما حوا في جوفه من قاذورات ثقلت عليها أسمائها الكبيرة، وسمعة عائلاتها وآبائها وأجدادها العطرة؛ فقررت خوفا ثم طمعا أن تشرب كأس نهايتها بوضاعة في عصر التقنية والصورة والتوثيق!.
أنا هنا لا أعني – بأي حالٍ من الأحوال – ضباطنا وجنودنا ومتطوعينا البسطاء الذين بذلوا جهدهم ثم تقطعت بهم سبل الاتصال والتواصل مع قيادة المعركة بسبب الضربات الجوية وغابت عليهم الذخائر والتعليمات وكل احتياجات الصمود ثم وبعد سقوط البلاد غادروا وبألم، ولكني أعني القيادات العسكرية، والمدنية، والشبابية، والحركية الثورية العليا وحتى الاجتماعية التي كانت مقربة ومنعمة ثم تواطأت وغدرت أو تخلت في سكينة وهدوء ثم نشطت من جديد – وباسم النظام السابق – تلوح بخوض لعبة الانتخابات؛ للمساهمة في بيع التراب المروي بدماء الشهداء ليصبح على أيديهم مكبٌ للتوطين والقمامة والنفايات الصناعية السامة، وأدوار أخرى تتنافس فيها مع رموز فبراير في العمالة وخذلان الأهل والرفاق كدأبهم مع قائد الثورة في الماضي القريب حين أستأمنهم على لحاء الساق في نظامه الجماهيري فحفروه بالفساد والجشع والمحسوبية والسلبية والتعالي على الناس، وحين غدا للمعركة يبوء المؤمنين مقاعد للقتال بادرت تلك القيادات النخبوية بفتح أبواب المدن الليبية للغزاة كما فعل أسلافها بمملكة تدمر دون أن يخطر ببال تلك النخبة أن أحفاد (نابليون) و(موسيليني) ربما اعتادوا غسل أيديهم وتجديد هواء مكاتبهم فور مغادرة الخونة لها وانسحاب (الكاميرات).