قبل أسابيع قليلة وفي الذكرى السابعة لتنحي الرئيس المخلوع “محمد حسني مبارك” عن حكم مصر، أصدر الكاتب والروائي “علاء الأسواني” رواية “جمهورية كأن” عن دار الآداب البيروتية، بعد اعتذار دار الشروق المصرية التي نشرت سابق روايات “الأسواني”، وعلل مدير النشر في الدار سبب الرفض بأن الرواية “ستضعنا في مواجهة مع النظام لا نتحمل تبعاتها”.
ومن جانبه قال “الأسواني” عن روايته الأخيرة: “إن همّه الشاغل هو الإنسان، أينما وكيفما كان، لذلك تتناول الرواية عددا من الشخصيات التي أثرت فيها ثورة يناير بالسلب أو الإيجاب، وبما أن الحديث يدور عن يناير، كان من الضروري التعرض لجانب توثيقي من الثورة المصرية، ورفض ما جرى أثناءها من مذابح وتجاوزات”، مضيفًا: “ربما كان ذلك هو السبب الذي جعل دور النشر داخل مصر تخاف من نشر الرواية”، بحسب روسيا اليوم في 7 من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
إن مؤلف الرواية يقر بانعدام الحريات في مصر، ويتفهم موقف دار النشر الرافضة لعمله، وكذلك الجريدة التابعة لها إذ توقف مقالاته فيها، ولكن الأمر الأكثر لفتًا للنظر وجذبًا للانتباه في كلمات صاحب روايات “عمارة يعقوبيان”، “شيكاغو”، و”نادي السيارات” هو قوله عن “جمهورية كأن”: “كان من الضروري التعرض لجانب توثيقي من الثورة المصرية، ورفض ما جرى أثناءها من مذابح وتجاوزات”.
بين المؤرخ والأديب
ومع تسليمنا برفض المذابح السابقة في مصر والجارية في مصر وغيرها من دول الربيع العربي، بل ضد كل مواطن شريف يريد الحرية لوطنه في مشارق الأرض ومغاربها، إلا أن جملة “كان من الضروري التعرض لجانب توثيقي من الثورة المصرية”، التي أدلى “الأسواني” بها قبل صدور الرواية تدفعنا للتساؤل عن المساحة الفارقة بين المؤرخ الذي يوثق الأحداث ويؤرخ لها، وبين الأديب الذي يعمد إلى رؤية فنية حيال للأحداث.
ومن المناسب هنا أن نقف أمام رأي “ابن خلدون” (1332 – 1406م) في كتابه “تاريخ ابن خالدون” حول تعريف التاريخ وتدوينه: “التاريخ فن من الفنون التي تتداوله الأمم والأجيال … وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق…” تاريخ ابن خالدون جـ1 صـ3.
أما الرواية، أبرز فنون الأدب اليوم فهي تتناول الحدث التاريخي، من حيث رؤية خاصة بالمؤلف تخضع للتغيير والتبديل والإنكار والتعليل، كلٌّ بحسب زاوية الرؤية التي يحب تناولها، ولذلك قيل عن التاريخ إنه الرواية كما حدثت، وقيل عن الرواية إنه التاريخ الذي كان من الممكن أن يحدث.
ومن هنا وضع العلماء شروطًا للمؤرخ منها القرب من الحدث الذي يتناوله، والإحاطة به، أو البحث المتعمق عنه، إن لم يكن شهده، مع الحيادية والتنزه عن الميل والتطرف في الحكم، وفي النهاية فإن المؤلف يعبر عن نفسه عبر رؤيته فيما حدث، فيما المؤرخ يعبر عن غيره محاولًا استبعاد منطقه الخاص.
أين الجانب التوثيقي؟
قال “الأسواني” إن الرواية الأخيرة “تحوي جانبًا توثيقيًا من الثورة المصرية، ورفض ما جرى أثناءها من مذابح وتجاوزات”، والوقوف على هذا الجانب من الرواية يستدعي الرجوع إليها للتحقق من احتوائه على الشروط المطلوبة للتوثيق والتأريخ، والمساحة الفنية والتاريخية الإبداعية بين الرواية والتاريخ.
تقع “جمهورية كأن” في 521 صفحة، و73 قسمًا موزعًا بالتناوب أو التبادل بين أسر ومعارف وأصدقاء: “أحمد علواني”، مسؤول جهاز مباحث أمن الدولة، “بيومي مدني حميد عبد الوارث”، سائق سيارة خاص لـ”عصام شعلان”، العضو المنتدب في أحد المصانع المخصصة لشركة أجنبية حديثًا، “أشرف ويصا” الارستقراطي المسيحي، والناشطة السياسية “أسماء الزناتي” وصديقها “مازن جمال السقا”، والأخير ممثل العمال في مصنع الأسمنت السابق الذكر.
اللواء “علواني” أهم جانب من جوانب رئاسته لجهاز مباحث أمن الدولة وفق توثيق الرواية يجيء في يوم تنحي “مبارك” إذ: “كانت الأمور تجري كما خُطط لها. سوف يفرح المتآمرون اليوم بتنحي الرئيس، ولكنهم لن يفرحوا بعد ذلك أبدًا”صـ260 من الرواية.
وكان من متطلبات عدم فرح المتظاهرين/المتآمرين وفق وجهة نظر “علواني” جمع الأخير لنجوم السياسة والفن والرياضة (على قمة الأخيرين حارس مرمى المنتخب) صـ257 من الرواية، بالإضافة للإعلام وعلماء الدين السلفيين في مصر، وتكليف ضباط مباحث أمن الدولة بكل مجموعة منهم لصياغة عقل جمعي للشعب المصري يعود به إلى تقبل القمع من جديد، ورفض الثورة.
وفي نفس التوقيت يقابل “علواني” مرشد الإخوان المنتظر في مكتبه حاضرًا قبل الموعد بعشر دقائق، كان هذا يوم تنحي “مبارك”: “أدرك علواني، بنظرة واحدة، أنه يعرف (المرشد) بتنحي الرئيس وربما حتى يعرف ما سيطلبه منه .. كان المرشد رجل نحيف أصلع في نحو السبعين من عمره … صارا الآن وجهًا لوجه، كانت علاقتهما ودية ومتحفظة في نفس الوقت”صـ262 من الرواية.
إن مثل هذه الكلمات والجزم بتعاون بين رئيس جهاز مباحث أمن الدولة وبين مشاهير السياسيين والفنانين والرياضيين وعلماء السلفية ومرشد جماعة الإخوان؛ يوم تنحي “مبارك”، مع الإفصاح عن صفة لاعب كرة ومرشد الإخوان، بل وصف الأخير جسمانيًا يخرج بكل الأحوال عن نطاق الفن والرواية إلى “المكايدات السياسية” وما في حكمها، بخاصة مع التمادي في وصف الإخوان بأنهم كانوا مستجيبين دائمًا لطلبات مباحث أمن الدولة، وأن المرشد أتفق مع رئيس الجهاز على تصويت الإخوان بنعم للتعديلات الدستورية في استفتاء 19 من مارس/أذار، والاتفاق تم يوم تنحي “مبارك”، مقابل أن يسمح الأمن للإخوان بأن يترشحوا كما يريدون في الانتخابات النيابية المقبلة، ويفوزوا بأي عدد من المقاعد.
وأخطر ما في الكلمات أنها تصدر في حق إنسان مغيب عن الواقع خلف قضبان السجون يلاقي من فنون التنكيل ما يمثل خطرًا شديدًا على حياته، والأخير لا يستطيع مجرد الدفاع عن نفسه.
ومع توالي صفحات الرواية يتم كيل اتهامات أخرى لمرشد الإخوان من موافقته على بطش المجلس العسكري بالشباب الثوري مقابل السماح لجماعته بافتتاح المزيد من المقار، ووعد بمقابلة أعضاء المجلس العسكري.
إننا أمام وقائع مدسوسة تمامًا على فصيل وطني مصري بالكامل يعاني من محنة وموقف لا يحسد عليه، والمؤلف يقول في البداية أنه يقف مع الإنسان ويؤرخ للثورة ويرفض المجازر، وأيًّا ما كان موقف “الأسواني” ومعارضته للجماعة فإنه لا يمحو أنها فازت في استحقاقات انتخابية وساهمت في إنجاح الثورة، ووصلت لسدة الحكم باختيار شعبي لولا الانقلاب العسكري عليها، والمجازر المتعرضة لها في رابعة والنهضة وميادين مختلفة على امتداد مصر؟
وبالتالي: هل تخوين شركاء في الثورة المصرية، وإن كانت لهم أخطاء ومساوئ، يعد من التأريخ بمقتضياته النزيهة المحايدة؟ أو من فن الرواية بمتطلباته الراقية الممتعة للقارئ؟ وكان من الممكن ـ ببساطةـ أن يسوق المؤلف أوجه انتقاده للجماعة ويوظفها فنيًا في سياق الرواية بلا تخوين.
هل أفاد التوثيق الرواية؟
أما عن التوثيق ـ فرع التأريخ ـ فإن أعلى مراتبه ما رآه المؤرخ بعينيه وساهم بنفسه في إحداثه، و”الأسواني” شهد أحداثًا محورية ومفصلية في ثورة “25 يناير”، بداية من عضويته في حركة “كفاية” حتى منعه من الكتابة في الصحف المصرية ومنع كتابة الأخير من دخول مصر، فلماذا لم يؤرخ لما شهده بنفسه وساهم فيه طالما الأمر سيطول الواقع تحت زعم التوثيق؟
ويبقي سؤال: هل أفاد التوثيق الرواية.. بمثل هذه المباشرة والسياق الفج وتوجيه الاتهامات بخيانة الثورة المصرية حتى قبل نجاحها من جانب الإخوان؟
من المعروف الواضح المتفق عليه أن الروائي يجب أن ينزه نفسه عن العداوة الشخصية حينما يكتبها، ومن ذلك أخذه مسافة من جميع الذين يكتب عنهم، وتحكيم ضميره في مضمون ما يكتب .. والأسلوب والسياق الذي سيخرج بهما على القارئ، وأيًّا ما كان الأمر فليس من المستساغ الافتئات حتى على الثابت إجرامهم، على الجانب الآخر، فأفعالهم تكفيهم، وليس من الممكن القبول منطقيًا وعقليًا أن جهاز مباحث أمن الدولة كان موجودًا يدير دفة الأمور في مصر ويجتمع بجميع مشاهير المجتمع يوم تنحي “مبارك” وقبل إعلان التنحي بالتحديد؟ إن الإمكانية في حد ذاتها متنافية في ظل أجواء ثورية كانت تلف مصر كلها وهي معروفة، أو أن يخرج “الأسواني” جازمًا بأن مرشد الإخوان ترك دماء الشهداء من المصريين في ميدان التحرير قبل التنحي وذهب ليلتقي رئيس جهاز مباحث أمن الدولة؟
إن الزج بأحداث لم تحدث على رواية أو فن سردي يفقدهما مقوماتهما الفنية على الفور، ويجعله أقرب إلى الادعاء والافتئات والظلم، وإن مناقشة الأفكار ودفعها أمر معهود في الرواية العالمية والعربية على ألّا يكون الاتهام حاضرًا بخاصة إذا كان ضد غائبين.
إننا أمام رواية فيها من الجوانب الفنية من تصوير قصة حب “خالد مدني”، ابن السائق الفقير لـ”دانية علواني”، ابنة رئيس جهاز مباحث أمن الدولة واستشهاده أمام عينيها في أول أيام الثورة، وإن كان الأفضل عدم الجزم بأن البطلة ابنة رئيس جهاز أمن الدولة، فإن المباشرة الشديدة هنا أوقعت الروائي في فخ مخالفة الواقع، وأفقدت الخيال.
ومن جوانب فنية الرواية ـ أيضًاـ تصوير ألم مدني السائق البسيط بعد استشهاد ابنه طالب الطب، وأيضا مراحل تحول “عصام شعلان” من اشتراكي ثوري في السبعينيات إلى نفعي تابع لأمن الدولة، وتضافر الخيطين الدراميين السابقين رشح الرواية لما هو أفضل مما هي عليه لولا إسهاب مؤلفها في المباشرة، ومنها شهادة ناشطة ـ ذكرها “الأسواني” بالاسم ـ على وقائع كشف العذرية في مارس/أذار 2011م، وهي الشهادة التي استغرقت الفصل الحادي والأربعين من الرواية كاملًا، مع خلق أحداث لم تحدث ولم يقل بها أحد من قبل ويلفظها المنطق وتتجنى على آخرين أخرجت الرواية عن فنيتها وسياقها العام وأضرتها، في مناطق التعرض لآخرين بصفاتهم، وجعل العمل الفني أقرب إلى الصرخة الغاضبة بدلًا من العمل الفني الإبداعي.