عزمي بشارة يشرح مصطلح “الإرهاب”: من هو الفاعل؟
“وطن- كتب وعد الأحمد”- يدرس المفكر العربي عزمي بشارة في مقالة له بعنوان “الإرهاب: بموجب هوية الفاعل أم بموجب هوية الضحية؟” العديد من الجوانب والنقاط المتعلقة بمفهوم الإرهاب، بدءاً من تعريفاته اللفظية والإجرائية، وسياقات نشأتها وتبلورها في العصر الحديث، مرورًا بالاستخدام الأداتي للمصطلــح وتوظيفاته الراهنة، وأثر ذلك في تهميــش قضايا الديمقراطية والعدالة والتحرر، بعد أن دخلت السياسة الدولية في حلقة مفرغة ما بين “الإرهاب” و”مكافحة الإرهاب”.
يرى بشارة في دراسته المنشورة في مجلة “سياسات عربية” أن “تعريفات الإرهاب الرســمية المعاصرة تحمل في طياتهــا خللاً منطقياً لكونها تركز على هوية الفاعل من غير الدول وليس على هوية الضحية وبموجبها”، إذ “يعد العنــف ضد المدنيين وغير المدنيين لأهداف سياســية إرهاباً إذا كان مرتكبه فرداً أو مجموعة أفراد، أو تنظيماً من خارج مؤسسات الدولةـ ومن هنا تختفــي الحــدود التمييزيــة الفاصلــة بيــن الإرهــاب، وحــركات التحــرر، والمقاومــة ضد الاحتلال، والكفاح في مواجهة عنف الدولة ضد المدنيين”.
وبحسب صاحب “مقالة في الحرية”، فإن تبيين مدى شيوع مصطلحي “الإرهـــاب” و”مكافحة الإرهاب” لا يحتاج إلى إجراء مسح إحصائي؛ فحضورهما طاغ ويفرض نفسه على حياة الناس اليومية، ولا تكاد تخلو منها نشرة إخبارية أو بيان مشترك بين قادة الدول. يلفت بشارة إلى أن أهم إشكاليات “الحرب على الإرهاب” تتجلى في عدم محدوديتها بالزمان والمكان، وفي غموض ملامح العدو، وعدم تحديده. وهذا ما ينسف -حسب قوله- أساس استخدام مصطلح “الحرب” أصلاً، ولكن ربابنة الحرب على الإرهاب يستعيرونه، ولا يأخذونه بجدية في الوقت ذاته. يمضى بشارة قائلاً إن “التناقض الكامن في عملية تقسيم العالم إلى معسكرين يتجلى بموجب أداتية مصطلحي الإرهاب ومكافحة الإرهاب”؛ حيث أن “هذا التقسيم نفسه لا يتم بموجبهما بل بموجب اعتبارات سياسية ومصلحية، ومن ثم فهو لا يفيد في حصر الإرهاب وتحديده مقدمة لمحاصرته ومكافحته، بل يعقّد هذه المهمة أكثر”.
يتوقف بشارة عند لفظ كلمة الإرهاب Terrorism مشيراً إلى أن اللفظ بحد نفسه “ليس جديداً ولا يُعد استخدامه في السياسة طارئاً أو مستجداً؛ فإذا حذفنا اللاحقة ism وأبقينا Terror سنجد أن هذا اللفظ Terrorقد استخدم في وصف اليعاقبة الفرنسيين بأنفسهم للسياسة التي اتبعوها في قمع من اعتبروهم أعداء الثورة وعملاء النظام القديم، حتى سُميت مرحلتهم عهد الإرهاب”.
يتابع بشارة: “هدف سياسة العنف الثوري ضد أعداء الثورة والملكيين كان هو حماية الديموقراطية، بمعنى حكم الشعب المؤلف في غالبيته من الفقراء وذلك بتكثيف العدالة وفرضها بالفعل، والإرهاب هنا هو حرفياً تمكين الفضيلة ومنحها أدوات لكي تهزم الرذيلة التي مثلها النظام القديم، أي أنه تخويف بهدف الردع، أي تخويف أعداء الثورة”.
واستخدم هذا المصطلح نفسه لاحقاً مؤسس المخابرات السوفياتية في عهد لينين فيلكس دزيرجينسيك (1877–1926) الذي صرخ قائلًا: “إننا نمثل في أنفسنا إرهاباً منظماً وهذا يجب أن يُقال بوضوح تام”.
يوضّح بشارة، في موضع آخر، أن الإرهاب الأحمر يشتمل على إرهاب واعتقال وإبادة لأعداء الثورة على أساس انتمائهم الطبقي أو أدوارهم ما قبل الثورة، مشيراً إلى أن السياسة المعلنة لجهاز الأمن الذي أسسه “البلاشفة” بعد الثورة كان إرهاب أعداء الثورة وكبح جماح الثورة المضادة والحفاظ على منجزات الثورة البلشفية .
يلمح بشارة إلى أن التعريفات الرسمية التي تقدمها القوانين والمواثيق تنطلق من هوية الفاعل وليس من هوية الضحية، أي أن المهم أن من يقوم بالقتل مدني وليس أن الضحية هو مدني، وهذا -بحسب قوله- بعكس ما يُظن عادة لأول وهلة حين نسمع مصطلح “الإرهاب” وعكس المنطق أيضاً؛ فالإرهاب بالنسبة لهذه التعريفات عنف خارج القانون تقوم به جماعات أو أفراد من خارج الدولة، سواء كان موجهاً ضد مدنيين أم عسكريين.
كما يلفت صاحب “أن تكون عربياً في أيامنا” إلى مفارقة في مفهوم الإرهاب وتوصيفه ما بين الدولة والمنظمات الإرهابية؛ ففي حالة سقوط مدنيين ضحايا من ممارساتها القتالية لا يكون ذلك عن قصد، بل عن طريق الخطأ؛ فإذا لم تكن تلك النتيجة التي تُوصف عادة بـ”المأساوية” مقصودة، بل كان سقوط المدنيين أثراً جانبياً لعمليات قصف مثلاً أو أضراراً جانبية؛ فلا يعتبر ذلك من المنظور الرسمي قابلاً للمقارنة بأفعال المنظمات الإرهابية التي تستهدف المدنيين والمرافق المدنية، مع أن هذه الدول تعتبر العمليات ضد قواتها إرهاباً أيضاً. يسوق بشارة مثالاً عن حادث سيارة سقط فيه ضحايا أبرياء نتيجة لقيادة مخمور سيارته وهذا -حسب قوله- ينطبق على طيار ألقى قنابل على منطقة مأهولة بهدف قتل أفراد بعينهم وليس قتل المدنيين القاطنين في هذه المنطقة، مع إدراكه هو ومن أعطاه الأمر بالقصف أن عدداً كبيراً من الضحايا المدنيين الأبرياء سيسقط نتيجة لفعله.
يتوقف صاحب “الجيش والسياسة” عند مصطلح ” الإرهاب الإسلامي” الذي نشأ منذ ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته وارتبط -كما يقول- بعمليات عنيفة ضد أجهزة الدولة ورجالاتها وضد السياح الأجانب والمرافق السياحية في مصر، وراج تحديداً بعد عمليات تنظيم القاعدة، خصوصا ما تعرضت له مدينة نيويورك من هجمات إرهابية نسبت له عام 2001 واعتبرت أنها نُفذت بدافع ديني وأصبح المصطلح متداولاً إلى درجة أن البعض حين ينطق كلمة “إرهاب” أصبح يعني بها إرهاباً إسلامياً.
يوضح بشارة أن مساعي ربط جوهر الإسلام بالإرهاب لا يخلو من دوافع ثقافية عنصرية مناهضة للإسلام، “إسلاموفوبيا”، وثمة -كما يقول- دوافع براغماتية متعلقة بالمصالح السياسية، موضحاً أن هناك “قوى سياسية يمينية مختلفة ومحافظة تحثّ على ذلك في الغرب، لأن التعميمات دائماً أسهل ترويجاً وعامة الناس يجب أن لا تُشغل بالتفاصيل الدقيقة والتمييزات بين تيارات مختلفة، والتعميم على الإسلام والمسلمين يبدو أسهل تسويقاً في أي حملة انتخابية، عدا أن المعادين للمهاجرين ولوجود مسلمين بين ظهرانيهم معنيون بنشر هذه الصورة عن الإسلام، وتدفع إسرائيل والحركات الصهيونية ولوبياتها في الجامعات ومراكز البحوث بهذا الاتجاه لتوحي للعالم بوضع إسرائيل بحيث يكون الرأي العام داعماً لسياساتها بصورة عامة ومسبقة”.
يخلص بشارة في نهاية دراسته إلى القول إنّ الإرهاب الأخطر هو في العنف العدمي الانتقامي بلا هدف سياسي محدّد، والذي ينشأ في مراحل أزمات الحركات الثورية وانحلالها أو تراجعها أمام عنف الأنظمة المضاد، ولا سيما في غياب القيادة الموحدّة والمشروع السياسي القابل للتحقيق، وفي مراحل انتشار النزعة الانتقامية المعزّزة بشعارات دينيّة أو طائفيّة أو غيرها.
يرى بشارة أن حلّ هذه المسألة لا تكمن في الحلول الأمنية والعسكرية، ولا حتى في السياسات الاقتصادية والاجتماعية فحسب، بل في خلق بيئة مضادّة للإرهاب، تقوم على الحرية والعدالة والمساواة والتنمية البشرية وصون حقوق الإنسان.