فرانشيسكو سترازاري
عزالدين عناية∗
يُعدّ كتاب الباحث الإيطالي فرانشيسكو سترازاري من الدراسات القليلة التي تناولت أوضاع المسيحيين في الوقت الراهن في بلدان الخليج العربي، وهو يندرج ضمن اهتمامات الباحث بالمسائل الأمنية والتعايش الديني بين المسلمين والمسيحيين. فقد أصدر في الشأن عددا من المؤلفات منها: “صوب الأرجنتين لمعرفة البابا برغوليو” 2013، و”الكنائس في أكرانيا والقوقاز بعد 1989″ 2011، و”المسيحيون بين الأصولية والحرب في بلاد الرافدين” 2010. والكتاب المخصص لشؤون المسيحيين في الخليج العربي يأتي بشكل عام ضمن مناخ يسود فيه تخوّف على مصائر الأقليات المسيحية في البلاد العربية من الأكثرية المسلمة. ولذلك وجب التنبه إلى ضرورة التعاطي مع المسيحية في الخليج العربي ضمن منطق مغاير، بوصفها مسيحية مهاجرة عابرة ووافدة وليست مسيحية أصيلة، حتى لا تُحشَر ضمن منطق الأكثرية والأقلية.
يستهلّ الباحث بحثه بتقديم عام بقلم جورج إميل عيراني الأستاذ في الجامعة الأمريكية في الكويت، يستعرض من خلاله الخاصيات التاريخية والسياسية لمجمل بلدان الخليج، مبرزا الأوضاع الاقتصادية الجيدة التي ساهمت في جذب المسيحيين وغيرهم نحو هذه البلدان. إذ يفوق عدد المهاجرين في بلدان الخليج 15 مليونا، وتبلغ نِسبهم في قطر والإمارات مثلا أكثر من ثمانين بالمئة، في حين تتنازل في سلطنة عمان والعربية السعودية إلى قرابة ثلاثين بالمئة. يتناول عيراني في تقديمه الخصوصيات الدينية والاجتماعية المحافظة في الخليج، فضلا عمّا يشهده من تحديات متمثّلة في تسرّب التشدد الديني، ناهيك عن التهديدات والمطامع الخارجية، التي جعلت من تلك البلدان محطّ أنظار العديد من القوى الإقليمية والدولية.
ينطلق الكاتب في بحثه بحديث عام عن الجذور التاريخية للمسيحية في جزيرة العرب، كون هذا الدين يعود تاريخه إلى عهود سابقة لظهور الإسلام. ليتتبّع تلك الجذور منطلقا من النص الوارد في العهد الجديد على لسان بولس “بل انطلقتُ إلى بلاد العرب وبعد ذلك رجعتُ إلى دمشق” (الرسالة إلى مؤمني غلاطية1: 17)، الذي يلمح فيه لخُلوته الروحية التي يُرجَّح حصولها في منطقة الأنباط، تحديدا في البتراء. ومع أن المسيحية قد شهدت فتنة عقدية مبكرة حول شخص المسيح، بين الموحِّدين وأنصار الطبيعة الواحدة للمسيح، البشرية والإلهية، فقد كان جنوب الجزيرة فضاء خصبا لانتشار الأريوسية الموحّدة، النافية لأي بُعد إلهي في شخص المسيح. من جانب آخر يُرجِع الباحث عدم تجذّر المسيحية في تلك البقاع إلى طابع الترحال المهيمن، فضلا عن عداء يهود الجزيرة المستحكم للمسيحيين، وما خاضه ذو النواس في أرض اليمن من سعي حثيث لاجتثاث أتباع دين المسيح في مطلع القرن السادس. وبرغم الأوضاع العسيرة التي أَلمّت بالمسيحية في جزيرة العرب، والتي روى القرآن الكريم حدتها في “سورة البروج” تواصَلَ حضور أتباع المسيح حتى فجر الإسلام، في مكة وتيماء ووادي القرى والمدينة. ويذهب سترازاري إلى تواجد تواشج عميق بين الروحانية الإسلامية والرهبنة المسيحية من حيث أشكال التعبد والتقرب إلى الله والتعامل مع نصوص التلاوة سواء في القرآن الكريم أو المزامير، وهو ما خلّف تقاربا بين التصوف الإسلامي والنسك المسيحي.
بعد ذلك التمهيد التاريخي للمسيحية في الجزيرة، يتناول الكاتب الحضور المسيحي خلال الفترة الحديثة مع تشكل نواتات الوافدين كما هو الشأن حول ميناء جدة. حيث أُنشئت نيابة بابوية ترعى شؤون الجالية برئاسة أنطونيو بوناجونتا فوغي الإسباني والمكلَّف من “بروباغندا فيد”، الأمانة الراعية لشؤون التبشير في حاضرة الفاتيكان. لتغادر تلك الهيئة جدة في فترة لاحقة باتجاه عدن. وفي 28 يونيو 1889 حين تشكّلت النيابة الرسولية للجزيرة العربية كانت تضمّ ما يُعرف اليوم بالكويت واليمن والعربية السعودية والبحرين وقطر وعمان والإمارات العربية وقد تولى مهامها الكابوتشيون، أُتبِع ذلك بتدشين أول كنيسة في المنامة سنة 1939، ليتسارع حضور المسيحيين مع منتصف القرن العشرين بتطور الصناعة البترولية. ونظرا للتطورات الحاصلة في أعداد المسيحيين الوافدين على المنطقة، تم تقسيم النيابة الرسولية للجزيرة العربية إلى فرعين، أحدهما شمل البحرين والكويت وقطر العربية السعودية والآخر ضمّ جنوب الجزيرة وعمان والإمارات واليمن.
في القسم الثاني من الكتاب يتحوّل الباحث إلى عرض أوضاع المسيحيين في الراهن، مستهلا حديثه بالعربية السعودية التي يبلغ عدد المسيحيين فيها، وفق ما يورده، مليونا ونصف المليون جميعهم من الوافدين، وليس من ضمنهم رسميا مسيحيون سعوديون. كما يبيّن سترازاري أن العربية السعودية لا تربطها علاقات دبلوماسية بحاضرة الفاتيكان وإن كانت تجمعها اتصالات غير مباشرة. مبرزا أن ما يَحُول دون إرساء علاقات بين البلدين يتلخص في المطالبة من الجانب المسيحي بحرية العبادة وتشييد دُور خاصة للعبادة، فضلا عن الإلحاح الدائم للسماح بأنشطة اجتماعية تابعة للكنيسة.
سلطنة عمان
بعد تقديم تاريخي واجتماعي للسلطنة، يتناول الكاتب المسيحية عبر تاريخ عمان الحديث منطلقا من الغزو البرتغالي سنة 1508 وهو ما ترافق بإصرار من الأهالي لتحرير بلدهم من الغزاة الأجانب الذين خلّفوا وراءهم بعض الآثار الدينية مثل الكنيسة الصغيرة في قلعة الميراني. بعد أن تحولت البلاد إلى محمية بريطانية سنة 1891 نالت استقلالها سنة 1971. يورد الباحث أن نسبة المسيحيين من جملة أديان أخرى في السلطنة تبلغ خمسة بالمئة. ويذكر أن تاريخ الكاثوليك في السلطنة يعود إلى أواخر القرن التاسع عشر حين ناشد جمعٌ من الكهان في عمان القنصل الفرنسي في مسقط لمساعدتهم لفتح بيت للرعاية. مع ذلك بقي عدد المسيحيين إلى غاية العام 1976 محدودا، تاريخ شروع الكابوتشي الأمريكي الكاهن بارث كيستل في إنشاء كنيسة في منطقة روي، بعد نيل ترخيص من السلطان قابوس. ومع تطور الصناعة البترولية في السلطنة وتنامي أعداد المسيحيين طلب المونسنيور غريمولي من السلطان السماح له بإنشاء “بيت للصلاة”، وتم تدشين الكنيسة سنة 1981. يذكُر الباحث تعذّر التآلف بين مختلف المذاهب المسيحية، ما دفع إلى إنشاء كنيسة خاصة بالكاثوليك خلال العام 1984. ومع تزايد العمالة الأجنبية وتعدد المطالبات بتوفير أماكن خاصة للعبادة سمحت السلطنة بكنيستين واحدة في بوشار وأخرى في غلا فضلا عن إقامة للرهبان، وتم تدشين المقر سنة 1987 بحضور أربعة آلاف مسيحي. وعلى مستوى عام تبلغ أعداد الكاثوليك في السلطنة زهاء ثمانين ألفا، تسهر عليهم أربع أبرشيات، اثنتان في مسقط (روي وغلا) وثالثة في صحار ورابعة في صلالة، يتولى تسييرها في الوقت الحالي تسعة كهنة. حيث يتمتع المسيحيون بحرية تامة في أماكن العبادة الممنوحة من قِبَل الدولة. وأما من جانب إسداء الخدمات فهي خاضعة لترخيص تمنحه الدولة. يذكر الكاتب أن العلاقات مع السلطات في العموم طيبة ويقدِّر أن نسج علاقات دبلوماسية مع الكرسي الرسولي هو مسألة وقت.
البحرين:
كان يقطن خلال ثلاثينيات القرن الماضي في البحرين قرابة 500 كاثوليكي يشملهم بالرعاية في ثلاث مناسبات سنوية كاهن كرملي يأتي للغرض من بغداد. وقد أُنشئت أول كنيسة في المنامة سنة 1940، لحقها تأسيس مدرسة سنة 1953 بموجب تكاثر أبناء الأسر الوافدة، تتولّى الإشراف عليها راهبات التنظيم الكومبوني. وفي الحقبة المعاصرة شهدت العلاقات مع حاضرة الفاتيكان تطورا ملحوظا حيث استُقبل رئيس الوزراء خليفة بن سلمان آل خليفة من قِبل البابا بندكتوس السادس عشر في التاسع من يوليو 2009. ووفق ما يورده الباحث تبلغ نسبة المسيحيين في البحرين عشرة بالمئة من المجموع العام للسكان، أي ما يعادل مئة ألف مسيحي أغلبهم من الفيلبين. وتنتصب في العاصمة البحرينية كنيسة كبرى يسهر عليها ستة كهنة من الكابوتشيين. كما توجد كنيسة أخرى يؤمها قرابة الألف كاثوليكي في عوالي يسهر عليها كاهن مقيم، وثمة توجّهٌ لتحويل كنيسة عوالي إلى كاتدرائية كبرى للنيابة الرسولية لشمال الجزيرة العربية، وقد حظي ذلك بتزكية من الجهات الرسمية.
دولة الكويت:
تبلغ نسبة أعداد الكاثوليك في دولة الكويت تسعة بالمئة، ويمثّل الأجانب تقريبا نصف سكان البلاد من ضمنهم 12 بالمئة من المسيحيين، يتوزعون بين العديد من الكنائس، لكن يبقى الكاثوليك الأكثر عددا، حيث يبلغ عددهم 350 ألفا ينتمون إلى مختلف المذاهب، اللاتين والموارنة والأقباط والأرمن والسريان والكلدان. وتمثّل الكتلة التابعة للطقس اللاتيني القسم الأهمّ، وهي متأتية من الهند والفيلبين والبلدان العربية، فضلا عن أعداد قليلة قادمة من إفريقيا وأمريكا اللاتينية والبلدان الآسيوية. وعلى العموم يمثّل المسيحيون فسيفساء متنوعا يتوزعون بين بلدان عدة ويتكلمون لغات شتى، وقد خلّف ذلك جملة من المشاكل ذات طابع طقسي وتنسيقي، يظهر في التوتر الحاصل بين تجمعات البروتستانت والكاثوليك، التي غالبا ما يسعى القائمون لتطويقها.
في مجال التسيير يشرف آباء سيدة الكرمل على النيابة الرسولية منذ 1953، تصحبهم في الوقت الحالي تنظيمات كنسية أخرى. كما نجد تجمّعات للراهبات وافدة من الأردن ولبنان تشرف على مدرسة فجر الصباح، وتشرف راهبات الكرمل من الهند على مدرسة الكرمل، كما يدير الآباء السالزيان المدرسة الأكاديمية.
خلال سنوات قليلة تطوّرت أعداد الكاثوليك في الكويت من 100 ألف إلى 350 ألفا، ما انعكست آثاره على مداولات البرلمان بشأن السماح من عدمه لتوسيع الكنائس الحالية وذلك جراء تخوّفات من أعمال التبشير، كما ثمة خشية من الجانب المسيحي لانتهاء العقد المتعلق بالكاتدرائية بحلول العام 2016، وهي من التحديات العويصة التي تواجه الكنيسة في بعض بلدان الخليج كونها كنيسة عابرة ومؤقتة. يُذكر أن دولة الكويت تربطها علاقات دبلوماسية بحاضرة الفاتيكان منذ العام 1968.
قطر
تُقدَّر نسبة المسيحيين في قطر بتسعة بالمئة من مجموع الوافدين العام. ويعطي مؤلف الكتاب صورة قاتمة عن النظام الاجتماعي السائد في البلاد كون النهج العام يطغى عليه الطابع الوهابي، ومع أن القانون يمنع التمييز على أساس ديني فهو يحظر أي شكل من أشكال التبشير. خلال ثمانينيات القرن الماضي كان عدد المسيحيين ستة آلاف، وفدوا من بلدان شتى خصوصا من الهند، وفي الوقت الراهن تبلغ أعدادهم 400 ألف، من ضمنهم ربع مليون كاثوليكي على رأسهم ثمانية كهان يتولون شؤون الرعية بشكل رسمي. بحلول العام 2008 أمرَ الأمير حمد بن خليفة بإنشاء موضع مخصص يسمى “مركب الأديان” يشمل المسيحيين، وتطورت الأمور بسماح قطر بحضور جماعة من الرهبان يسهرون على شؤون الجالية، حيث يقام في الكنيسة خلال أيام الجمعة والسبت والأحد زهاء أحد عشر قدّاسا في اليوم الواحد بلغات مختلفة يشارك فيها بين عشرين ألفا و ثلاثين ألف مسيحي، كما تنعم الجالية بجملة من المركبات تسدي خدمات للكنيسة تغطي مختلف الحاجات الأسرية والتربوية والتعليمية. فضلا عن ذلك ثمة مركزان آخران في الخور ودخان، علما أن قطر تربطها علاقات دبلوماسية بحاضرة الفاتيكان.
اليمن
يناهز عدد الكاثوليك في اليمن أربعة آلاف، تسهر على شؤونهم أربع أبرشيات في صنعاء وعدن وتعز وحديدة، كما توجد دورٌ للرعاية الصحية أيضا أنشِئت منذ 1973. وقد تمت مصادرة أماكن الرعاية والمدارس أثناء حكم الشيوعيين، وبعد مقتل ثلاث راهبات في الحديدة سنة 1998 أُحيطت أديرة الراهبات بحراسة مشددة من قِبَل السلطات الرسمية.
الإمارات العربية
خلال سبعينيات القرن الماضي حين غدت أبوظبي عاصمة البلاد سمحت السلطات بإنشاء كنيسة ومدرسة وبيت إقامة لرجال الدين. ومع إخلاء عدن من النشاط المسيحي في مطلع العام 1974 تحول رجال الدين إلى أبوظبي لتغدو مقرا للنيابة الرسولية. في فترة لاحقة وُضِع حجر الأساس لأول كاتدرائية في مارس 1981 وتم تدشينها في فبراير 1983 بحضور عدد من الشخصيات الدينية والسياسية. وفي دبي جرى الترخيص منذ مطلع الستينيات لإنشاء كنيستين أُتبعت بالعديد من المدارس الدينية تتوزع بين مختلف الطقوس. وفي الشارقة أيضا بعد تشكّل جالية مسيحية تم السماح بإنشاء كنيسة يتقاسمها الكاثوليك والبروتستانت ليجري تغيير مقرها نحو مكان آخر. كذلك أُنشئت كنيسة في إمارة العين منذ العام 1969 جرى توسيعها مع مطلع العام 1981. بشكل عام يناهز عدد الكاثوليك في الإمارات المليون نسمة، حيث تتواجد سبع أبرشيات يسهر عليها 32 كاهنا يرأسهم أسقف. ومنذ إرساء علاقات دبلوماسية مع حاضرة الفاتيكان سنة 2007 تطورت العديد من الخدمات، حيث نجد سبع مدارس يديرها كاثوليك يرعون 17 ألف طالب وطالبة من التحضيري إلى ما قبل الجامعة، كما سمحت السلطات خلال العام 2011 بإنشاء كنيستين جديدتين.
ووفق تقديرات عامة يتواجد في بلدان الخليج العربي زهاء ثلاثة ملايين مسيحي كاثوليكي، من ضمنهم 30 ألف طفل يتمتعون برعاية تربوية ودراسية مسيحية يسهر على شؤونهم 90 رجل دين. والجلي في الكنيسة في الخليج العربي أنها تتشكّل من مهاجرين، نصفهم من الشرق الأوسط، مع ذلك تسعى حاضرة الفاتيكان إلى كسب الجميع إلى صفها، سعيا لتثبيت قدم في تلك البقاع والتأثير من خلالهم، وذلك عبر تبني مطالبهم. وهو ما يملي على بلدان الخليج ضرورة إرساء سياسة هجرة مشتركة للرد على التحديات المطروحة. فالفاتيكان يلحّ من خلال وسائل إعلامه على ضرورة مراعاة الحرية الدينية في الخليج، والحال أن الحرية الدينية مصطلح فضفاض تتغير دلالته بتغير الأنظمة الاجتماعية. فالحرية الدينية في الغرب تتغير دلالتها من بلد إلى آخر، وليست الحرية الدينية في أوروبا مثل نظيرتها في أمريكا التي تنعدم فيها هيئة دينية مهيمنة ناطقة باسم الدين.
لعل من المآخذ الجلية على الكاتب أنه يبتعد في العديد من فصول كتابه عن موضوعه الأساسي المتعلق بتتبع أوضاع المسيحيين، ليتحول إلى تنديد بأوضاع المهاجرين ونظام الكفيل. يقول مثلا تحت عنوان المسار الطويل والشاق لحقوق الإنسان في دول الخليج، صفحة: 60 “ثمة مئات الآلاف من المسيحيين خصوصا من النساء يعيشون في حالة عبودية بدون أية حقوق” وهو افتراء بدون دعامات.
الكتاب: المسيحيون في بلدان الخليج.
المؤلّف: فرانشيسكو سترازاري.
الناشر: منشورات ديهونيان (بولونيا-إيطاليا) “باللغة الإيطالية”.
سنة النشر: 2018.
عدد الصفحات: 86ص.