غزة، الرجل المناسب في المكان المناسب

قدر لي في الفترة الأخيرة أن ألتقي عدة شخصيات قيادية على رأس عملها في قطاع غزة، كان آخرها قبل يومين، حين التقيت مع العقيد على المسلاتي، قائد لواء الجنوب في قوات الأمن الوطني، لقد التقيت مع رجل عسكري فلسطيني مبتسم ملتزم، بعد انتهاء الندوة السياسية التي نظمها التوجيه السياسي والمعنوي، صعدت برفقته إلى برج المراقبة المرتفع على الحدود المصرية الفلسطينية، حيث الإشراف الكامل على جانبي الحدود، كان الرجل يتحدث بثقة عن دور قواته في تأمين الحدود، وهو يرفع يده باحترام، ويرد السلام على الجنود المصريين في موقعهم على الطرف الآخر، ليؤكد بالإشارة صدق الرواية عن الاحترام المتبادل بين الجنود والضباط المصريين ونظرائهم الفلسطينيين، رغم انعدام العلاقة المباشرة بين الطرفين حتى يومنا هذا.

تحدث العقيد عن طول الحدود الفاصلة بين مصر وفلسطين، والتي يقدرها طولها 12.5 كيلو متر، وليس 14 كيلو متر كما يقولون، حدود صناعية مكشوفة، يفصل فيها جدار من الباطون بين أرض مصر وأرض فلسطين، كما خلقتها لنا اتفاقية سايكس بيكو.

قبل عدة أيام التقيت في غزة مع العميد فؤاد أبو بطيحان مدير عام مراكز الإصلاح والتأهيل، رجل هادئ، يتفاعل مع المسؤولية، ويستشعر واجبه في العمل، وهو يقول: للأسف، لقد تأثر طعام السجناء بالأوضاع الاقتصادية الصعبة لسكان قطاع غزة، فمع العقوبات، صرنا نقدم وجبة لحم واحدة للسجناء، أما بقية الأسبوع، فطعامهم يخلو من اللحمة، لدينا 1450 سجيناً، يقضون فترة محكوميتهم في عدة سجون في قطاع غزة، ولا أقبل أي سجين دون ملف قضائي كامل، معظم السجناء في غزة تتراوح أعمارهم بين 22 عاماً وحى 45، وأغلب التهم هي السرقة والمخدرات، بأحكام قضائية تتراوح بين الإعدام وحتى عدة أشهر، لقد قمنا في الفترة الأخيرة بمساعدة السجناء في الاستفادة من الوقت في التعلم والتهذيب والإصلاح، لقد جمعنا مليون دولار من متبرعين، لسداد ديون خفيفة عن عدد من المسجونين، وتم إطلاق سراحهم.

في جولة داخل غرف السجن، وقف السجناء احتراماً للزائرين، غرف السجن نظيفة، أسرتهم مرتبة، لديهم تلفاز وسخان ماء، لديهم مطبخهم، وطعامهم الخاص، لقد أحسست لحظتها أنني أحد السجناء في غرف سجن نفحة الصحراوي، فالسجن واحد في كل زمان ومكان.

قبل أسبوعين أو أكثر، ألتقيت مع العميد نهاد الجعبري، أبو الحسن، مدير شرطة محافظة خان يونس، رجل مميز بإنسانيته، وقدرته على احتمال شكوى الجمهور، لا يغلق باب مكتبه أمام الناس، يستمع، ويتابع، ويراجع مدراء مراكز الشرطة في المحافظة في كل صغيرة وكبيرة، يعيش حال المحافظة بالتفاصيل، ولا يغلق هاتفه حتى في ساعات الليل، وكأنه سخر لخدمة المواطن، الذي يبيت آمناً بفعل يقظة ونشاط جهاز الشرطة على مدار الساعة.

التقيت قبل فترة مع النائب العام، الأستاذ ضياء المدهون، رجل حكيم رزين عميق بسيط، لا يثرثر كثيراً، ولا يصمت على باطل، يؤدي عمله على مدار الساعة بهدوء واتزان، لا يرجع إلى بيته قبل المغيب، وتلاحقه قضايا المواطنين حتى جلساته الخاصة، يتابع عمل النيابة في محافظات قطاع غزة بكل جدية واهتمام، ولا هم له إلا العدل بين الناس، وسيادة القانون، ولا يترفع عن لقاء الناس في يومين من الأسبوع، يستمع، ويناقش، ويستدعي وكلاء النيابة ذوي الشأن، يمارس عمله المنهك للجسد بكل ثقة بأن خلف هذه الحياة الفانية حياة خلود.

جميع المسؤولين الذين التقيتهم في الفترة الأخيرة لا يتقاضون راتباً، ربما يتقاضون 50% أو أقل من نسبة الراتب، ولكنهم يعملون، ويكدون، صابرون مرابطون، حافزهم إلى العمل هو الانتماء لهذا الوطن، وثقتهم بأن الشعب الفلسطيني يستحق منهم التضحية والوفاء.

ملاحظة: هذه مشاهدات ميدانية، و ذكر هؤلاء المسؤولين لا ينقص من قدر الاخرين في مواقعهم الوظيفية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى