“هل من مسألة قبطية في مصر؟” لـ عزمي بشارة.. في عبور الطوائف
شارك الموضوع:
ثمة واقع مسكوت عنه في الحالة السياسية المصرية، وهو حقيقة أوضاع الأقباط المصريين، وأحوالهم الدينية والسياسية والمجتمعية، حيث يتخللها التبسيط والتعتيم والتشويش. وتفرض السلطة خطاباً باهتاً ومصنوعاً، لا يخرج عن إطار التنميط، الذي يجري استدعاءه في المناسبات الرسمية، وخلق مشهدية تقليدية، عن التآخي والمحبة بين عنصري الأمة.
“هل من مسألة قبطية في مصر؟”، يتناول هذا الكتاب، “الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسة”، للمفكر العربي عزمي بشارة، واقع المواطنيين المصريين من الأقباط. ويطرح تساؤلاً حول مشروعية الكتابة، في ما يمكن وصفه بـ”المسألة القبطية” في مصر، ومدى وجاهة ذلك البحث من عدمه، وتعيين عناصره الواقعية، وذلك في ضوء تطورين مهمين، يسلك منهما بشارة، نحو فرضيته العلمية؛ أولاهما، تصاعد مشاعر الغبن الطائفي، لدى فئات واسعة، والثورة المصرية الكبرى، وما تقوم لإعادة صوغ العلاقة، بين مسلمي مصر وأقباطها، في إطار هوية وطنية مشتركة.
تتناوب الدراسة، التي تعد بحثًا جادَا في تاريخ مصر المعاصر، على فحص أوضاع الأقباط المصريين، منذ محمد علي باشا، وصولاً إلى اللحظة الراهنة، وأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، خلال العقود التاريخية المختلفة، ومؤشرات صعودهم وهبوطهم، في ظل الفترات التاريخية والسياسية، السابقة والراهنة.
تناول،بشارة بحرص الأحداث المختلفة، التي تعرّض لها الأقباط، سواء كانت حوادث عنف أو اعتداءات متكررة، لكنه عمل على التمييز والفصل بين ما هو واقعي وفعلي، متفاديا الأطروحات المبالغ فيها، متجنبًا التهافت على الخطابات المزيفة والمؤدلجة، ذات الصبغة المتوترة والمتشنجة، التي تواجه التشدد والطائفية، بطائفية مضادة؛ فتعرض للمصادر القانونية ومسائل الأحوال الشخصية، والعلاقة بين السلفيين والأقباط، خاصة في ظل تنامي خطاب سلفي متشدد، في مرحلة ما بعد الثورة، يتميز بالتحريض والتشنيع ضدهم وإصدار فتاوى تكفير.
هناك ملاحظة يشير إليها بشارة، في مقدمة الكتاب؛ تبدو ضرورية ولافتة، وهي أن الكتاب كان جزءًا من نشاط بحثي يخوض فيه الباحثون، في المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسة، قبل الثورة، والدافع الرئيس وراءه، كان تتالي الاحتجاجات القبطية، خلال النصف الثاني من عام 2010، والتي بلغت قمتها مع حادث تفجير كنيسة القديسين، في الإسكندرية.
لكن المشروع توقف بسبب قيام الثورة، ولم يصدر في حينه، حيث رأى المشرفون على البحث، أن ثورة 25 كانون الثاني/ يناير 2011، قد أظهرت تلاحماً غير مسبوق بين فئات وطوائف الشعب.
ويقول بشارة، نقلاً على لسان المشرف، المسؤول عن البحث، في تعليقه حول أحداث الربيع العربي، في نسختها المصرية، وعلاقة الأقباط بالثورة: “في حين تخرج أنظمة الحكم العربية أسوأ ما فينا، فإن النضال ضدها، يخرج أفضل ما فينا”، حيث كان التآخي “العابر للطوائف”، بين المصريين بحسب وصفه، فضلاً عن جماليات الثورة، جزءاً من واقعها الحي ونجاحها، الذي ضمد جراح الهوية الوطنية المشتركة والمنصهرة في كيان واحد.
يقر الكتاب بوجود ملفاً قبطياً حقيقياً، وليس نتاج تآمر أجنبي، أو تحريض إسلامي، كما أنه لا يمكن رد القضايا القبطية، إلى مجرد انعزالية الكنيسة، وتبعية المؤسسة الكنسية للدولة، ومن ثم فإن معالجة الأمر، تحتاج إلى مواجهة كلية وشاملة، مع كافة العناصر، التي تؤدي إلى تكوين بؤر، وتجمعات طائفية، متأججة ومشحونة بالغضب، بصورة مستمرة، وهو ما يحتاج إلى نظام ديمقراطي، يتعامل مع الإفرازات المختلفة للقضايا الطائفية، بهدف حلها.
ويرى، بشارة، أن إخفاق النظام المصري في حل المسألة القبطية، يرجع إلى عدم قدرته على الانتقال من نظام الملل العثماني، إلى المواطنة، التي تؤمنها الدولة الحديثة، التي تساوي في الدستور بين المواطنين بغض النظر عن اختلاف انتماءاتهم الدينية.
بيد أن بعض المواقع في الدولة ظلت محظورة على المسيحيين، بسبب هويتهم الدينية، فتمثيلهم في القضاء والاعلام والديبلوماسية والجيش والشرطة لا يتعدى الإثنين في المئة. وفي مصر 17 جامعة حكومية، لكل واحدة منها مدير وثلاثة نواب له، غير أنه لا يوجد في هذه المناصب أي قبطي.
ساهمت الحوادث الطائفية، التي وقعت بعد الثورة، والاعتداءات المختلفة، خاصة التي تورط فيها عن عمد المجلس العسكري، الحاكم وقتها، وحاول استثمارها سياسياً لصالحه، من باب القمع والتخويف، مثل اعتصام ماسبيرو، إلى استعادة أهمية الملف القبطي، ومشروعية البحث، والكتابة عنه ونشره، وفق الرهانات الموضوعية الجديدة، وتفاصيلها المغايرة، وأسبابها المستجدة والمتطورة، ما جعل من الملف أكثر حساسية، والتطرق إليه ضرورة ملحة، من الناحية المهنية العلمية البحتة وحتى الأخلاقية.
فإن أحداث ماسبيرو الشهيرة، التي وقعت في تشرين الأول (أكتوبر)، تم فيها الاعتداء على تظاهرة للأقباط، في منطقة ماسبيرو، بوسط القاهرة، من قبل قوات الأمن والجيش، والتحريض ضدهم، في وسائل الإعلام الرسمي، وأدت إلى مقتل 26 قتيلًا وإصابة حوالي 343 آخرين.
وتجددت اشتباكات طائفية في منطقة إمبابة التابعة، لمحافظة القاهرة، أودت بحياة 13 شخصًا، بالإضافة إلى إصابة 240 آخرين، وذلك قبل الحادث الأول بشهور قليلة.
وفي كانون الثاني (ديسمبر) 2016، وقع الأقباط ضحية اعتداء صعب، يوم “أحد الشعانين”، في كنيستين؛ أحدهما في مدينة طنطا، والأخرى في محافظة الإسكندرية، وتبنى تنظيم داعش هذا الاعتداء المزدوج.
بدأت أولى الاعتداءات الطائفية، في العام 1972، في حي الخانكة، شمال القاهرة، وتلتها أحداث الزاوية الحمراء، في القاهرة العام 1981، ثم أحداث قرية “الكشح” في سوهاج العام 1999، وبعدها اشتباكات الاسكندرية العام 2006، ومن ثم، الاعتداء على مطرانية نجع حمادي العام 2010.
وتسببت فترة حكم الرئيس السادات، في تكوين وصناعة هذا الشرخ الطائفي، الذي بلغ عمقه واتساعه، في العقود التالية، وذلك في ضوء ما رافق سياسات الدولة الجديدة، من تحولات اجتماعية وسياسية جذرية، بدأها الرئيس الراحل، بإعلانه حمل لقب “الرئيس المؤمن”، وقال: “أنا رئيس مسلم لدولة إسلامية”، كما حرر التيار الديني الأصولي من مكامنه، بغيه استئصال التيار اليساري، بجناحية الناصري القومي والماركسي، واستتبع ذلك، بوضع نص دستوري يقول بأن “الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع”.
ومع صعود التيار الإسلامي الأصولي والسلفي في هذه الفترة، تنامى معه الشحن الطائفي، وتوالت الاعتداءات على الأقباط بشكل ممنهج، مثل هدم الكنائس وترديد مقولات وفتاوى، بتكفير المسيحيين، وعدم جواز تهنئتهم في الأعياد الدينية الخاصة بهم، دون أن يخرج ذلك عن دوره الوظيفي الذي استغلته السلطة والنظام السياسي.
يوضح صاحب: “سورية.. درب الآلام نحو الحرية”، أن تسمية أكبر الأقليات الدينية في مصر، بـ”الأقباط”، يندرج تحت بند التوصيف الأيدولوجي، وينم عن موقف سياسي وأيدولوجي، وليس مجرد تقسيم مواطني؛ لأن الأقباط مواطنون مصريون أصليون، يصعب عليهم تقبل فكرة أنهم “أقلية”، ومن ثم، إدراجهم في إطار تعداد وصفي قائم على الدين.
ويشير إلى أنه لو كان المعيار، الذي يحكم الدولة المصرية، هو المواطنة والوطنية المصرية، لكان الأقباط جزءاً أصيلاً، من الأكثرية المصرية والعربية معاً، فهم اندمجوا ثقافياً، في الحضارتين عبر التاريخ، كونهم تعربوا وأسلموا، مثل بقية سكان مصر، وبالتالي، لا يمكن وصفهم بالأقلية، كما ينسحب التعريف على الأقليات المهاجرة في أوروبا.
وينتمي معظم أقباط مصر، كما يشير بشارة، إلى الكنيسة الأرثوذكسية المصرية، ومقرها الأسكندرية، وهي تتمتع باستقلال عن باقي الكنائس في العالم، بمعنى أنها كنيسة وطنية مستقلة، لا تهيمن عليها مؤسسات أجنبية، ولا تلتحق بتبعيتها.
بيد أن هناك عدداً قليلاً من أتباع الكنيسة الكاثوليكية، في روما، وعدد محدود ينتمي للكنيسة الإنجيلية البروتستانتية.
يرصد، بشارة، في كتابه عملية التوظيف السياسي للدين، التي بدأت منذ عهد عبد الناصر، حيث أدى تبني الدولة مواقف دينية، وتشجيع تدين إسلامي معين، ضد التدين السياسي (يقصد مواجهة الإخوان المسلمين أيدولوجياً)، في الفترة الناصرية، قد أنتج ظاهرة مرافقة شعور الأقباط بأنهم غرباء داخل هذه اللعبة السياسية.
ويعرج، بشارة، على مرحلة الرئيس السادات، الذي مثل قطيعة مع الميراث الناصري، من خلال تصفية الرؤية القومية، التي كانت تشمل الأقباط، بوصفهم عرباً ومصريين، وساد خلالها تحريض ضد الأقباط، وخطاب اتسم بالعنف والمقولات الطائفية، حتى من رئيس الدولة، في خطاباته الرسمية المعلنة، وانتشرت خلالها حوادث اعتداءات طائفية، في القاهرة وغيرها، وحرق للكنائس ومنع بنائها، وتضييق على منحها التراخيص.
ولما قام السادات بإطلاح سراح المعتقلين من التيار الإسلامي، وانتشار للخطاب الديني، في صورته المتشددة، بصورة غير مسبوقة، قد أثر سلباً في أقباط مصر بسبب الشحن الطائفي، في خطاباتهم ودعايتهم الدينية المتطرفة. بحسب بشارة.
وازدات الهوة بين الأقباط والدولة، بشكل خاص، بعد وضع “الشروط العشرة” لبناء الكنائس، وترميمها، فعمقت حالة الاغتراب.
تسربت أخبار متعمدة عن السادات، كتصريحات منسوبة له ضد الأقباط، تعود وقت توليه منصب الأمين العام للمؤتمر الإسلامي عام 1965، عندما قال: “سيحول الأقباط إلى الإسلام، خلال عشر سنوات، أو سيتم تحويلهم إلى ماسحي أحذية وشحاذين”.
وبحسب بشارة، فإن فقدان المساواة يترافق وفقدان الديمقراطية، وانهماك النظام المصري في الاعتماد على أدواته السلطوية في القمع، وضمان حماية مصالحه ونفوذ نخبته، الاقتصادية والسياسية، فضلاً عن تبعية لمصالح أجنبية وخارجية، سينتاقض، طوال الوقت، مع تحقيق المواطنة، ومسؤولية الدولة في تحقيق المساواة الوطنية.