بالتزامن مع ما نشرته صحيفة وكالة الأنباء الفرنسية، من تقرير صحافي، حول المفكر العربي، عزمي بشارة، تصدت عدد من الصحف في مصر والإمارات، إلى ترجمة النص ونشره في صحفها المحلية.
وليس ثمة جديد، في ما جاء ذكره في “التقرير”، الذي أعاد نسج سرديات قديمة ملفقة، من دون سند، تدعمها المعلومة والتوثيق، من جهة، أو الممارسة على مستوى السياسة والكتابة النظرية، من جهة أخرى، ناهيك عن المباشرة، التي توضح عدم وجود وحدة موضوعية، في المادة الصحافية، وغياب المهنية ومعاييرها.
جاء في رد في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات على وكالة الأنباء الفرنسية: ” أثار دهشة المركز العربي تورط الوكالة ومكتبها في دبي بالخروج على قواعد المهنية والموضوعية والنزاهة في تقديم المعلومات والتقارير التي يجب أن تُميّز عمل الوكالات الإعلامية العالمية والمواثيق الأخلاقية المنظمة لما تنشره، وانخراطها في الحملة التضليلية الشعواء التي تشنها الأجهزة الإعلامية السياسية في دولة الإمارات العربية المتحدة ضد المركز؛ إذ لم يكلّف مُعدّ المادة نفسه بالتواصل مع المركز العربي، أو مع مديره العام، أو مع أي مسؤول من مسؤوليه لاستجلاء رأيه ورؤيته، وهو ما يُعدّ من أساسيات الموضوعية الإعلامية، بل قام بإعدادها بتواطؤ مكشوف بينه وبين سلطات الحكم في أبوظبي”.
يعد صاحب “أن تكون عربياً في أيامنا”، أحد أهم المفكرين العرب، الذين لم تنقطع صلاتهم بالواقع والسياسة، والاشتباك مع ما هو راهن ويومي، وتحليله، وتفكيك المشهد العربي، بامتداداته ومآلاته.
ومنذ أحداث الربيع العربي، يخوض عزمي بشارة، من خلال عدد من المؤلفات العلمية والمعرفية، معركة شاقة وطويلة، بجهد رصين، محاولاً فهم الظاهرة وتوصيفها بدقة، والإحاطة بكافة جوانبها وتفاصيلها، والتعاطي مع الشرائح التي دشنت هذه السيرورة الثورية، في التاريخ العربي، الجامد والمتداعي، ومن ثم، لا ينفك عن تحليل أسباب انتكاستها وهزيمتها، من خلال تضفير العوامل الذاتية والموضوعية والتاريخية معاً، وأبعاد ذلك الإقليمية.
لم ينخرط بشارة في سجال سياسي وأيدولوجي قائم على الهجوم السهل، الذي يستهدف أنظمة وسياسات، بقدر ما كان يحفر أسفل تلك الطبقات والقشور السطحية، للوصول إلى الطبقة الأعمق، التي تعتمل تحت جلدها وأعصابها حركة الجسم ورداته العكسية، التي تقاوم توق الجماهير للحرية والعدالة، وتبحث عن مجتمع مدني، لا تحكمه الشمولية والطائفية والعائلية، عبر الاستعانة ببطش الأجهزة العسكريتارية والأمنية.
ولد عزمي بشارة في فلسطين، عام 1956، عزمي بشارة، في عائلة عربية مسيحية، وبرز نشاطه السياسي، منذ دراسته في المرحلة الثانوية، حيث جرى انتخابه عام 1974، رئيسًا لمجلس الطلاب، كما ساهم في تأسيس “اللجنة القطرية للثانويين العرب”.
وبانتقاله إلى المرحلة الجامعية، درس في الجامعة العبرية في القدس، عام 1977، وساهم في تأسيس اتحاد الطلاب الجامعيين العرب، وكان رئيسه الأول. وفي السابعة عشرة من عمره، انضم إلى الحزب الشيوعي، كامتداد طبيعي إلى والده الذي كان ناشطاً شيوعياً هو الآخر.
وفي أواخر ثمانينات القرن الماضي، تعرضت مسيرة بشارة السياسية لهزات عنيفة ترافقت وأفول مسيرة اليسار، على إثر تفكك منظومة الاتحاد السوفييتي، وتبعية كثير من المنظمات اليسارية والماركسية لها.
وفي خضم تلك التطورات، غادر عزمي بشارة صفوف الحزب الشيوعي عام 1987، وعلق على تلك المرحلة قائلاً: “وصلت إلى قناعة عميقة؛ وهي أن الفرق بين النظام الشيوعي، والأنظمة الشمولية الأخرى ضئيل، إنه فرق في القيم الأصلية التي تآكلت، لا في الممارسة”.
يدحض بشارة الدعاية المضادة للأنظمة العربية، التي تحصر شعوبها بين خيارين تلفيقيين؛ إما الاختيار بين: الاستقرار وحفظ الحياة، والأمن والسلام، في مقابل الحرية؛ فيعتبر ذلك مجرد سؤال وهمي؛ لأن من يعارض منح الناس الحريات المدنية والسياسية، لا يدعي تأييد الظلم، بل يقابل الحرية بقيمة أخرى، مثل الوطنية والاستقرار والحفاظ على الأمن.
من ضمن المواجهات والنضالات، التي تجاسر عليها بشارة، كانت الصهيونية، وثمة كتاب مرجعي له بعنوان: “الصهيونية من يهودية الدولة حتى شارون”، قدم خلاله، تحليلاً لبنية “الديمقراطية” اليهودية، مفنّداً عناصرها من خلال التطابق بين مفهوم الأمة والدين، في الصهيونية، والأمن والعسكرة منذ بدأ الاستيطان الزراعي.
وفضح بشارة التناقضات التي تعيشها الديمقراطية اليهودية، أبرزها التناقض الرئيس، مع السكان الأصليين الفلسطينيين، والمحيط العرب، بالإضافة إلى التناقض بين المواطنة ويهودية الدولة، ما يعني عدم الفصل بين الدين والقومية، ما يقتضي أن إسرائيل بحسب رؤيتها وتعريفها لذاتها، أنها تمثل العديد من الناس، الذين ليسوا مواطنين، فيها بزعم أنها دولة اليهود.
يقول بشارة: “إن آفاق المستقبل مفتوحة، وإسرائيل هي التي يجب أن تقلق من المستقبل، إذ لا يمكن الحفاظ على نظام أبارتهايد، في القرن الواحد والعشرين، إذا ما استنزفت إسرائيل الخيار القومي للفلسطينيين، فلن يكون نظام الفصل العنصري بديلاً عنه، بل الكيان الثنائي القومي”.
ومنذ ثورات الربيع العربي، عام 2011، ركزت الدوائر الأمنية والمخابراتية، وأجهزتها الإعلامية التابعة لها، هجومها على عزمي بشارة، محاولة مواجهة خطابه المؤيد لثورات “العيش والحرية والكرامة الإنسانية”، التي قابلها بإنتاجه المعرفي الغزير والضخم، حيث عكف على دراسة الثورة السورية والتونسية والمصرية، بهدف التأصيل المعرفي لها، وتقديم سردية جادة، وتوثيق أحداثها المهمة، والوقوف عند الأخطاء وتفاديها في المستقبل.
ويعد من أبرز المجادلات التي أوضحها بشارة في حديثه عن الربيع العربي، هو كشفه عن الطائفية، عبر كتابه المرجعيّ الأخير ” الطائفة، الطائفيّة، الطوائف المتخيّلَة”، التي تخنق الواقع العربي، وتستثمره الأنظمه، بهدف دعم شرعيتها السياسية، وتغييب الأسباب الواقعية للثورات ضدها. فالطائفية، كما يحددها بشارة، هي مجموعة مغالطات، لكنها تبدو منطقية، أي أنها التعصب لجماعة سواء أكانت تضم متدينين أم غير متدينين، وهذا يعني أن الانتفاضات العربية، محكومة بالاختناقات، ما دامت مدارة سياسياً، من تعدديات طائفية، لا تعترف بالتعدديات الديموقراطية.
لا يتوقف صاحب “مقالة في الحرية”، في كل مسيرته النضالية والفكرية، عن مواجهة الاستعمار المحلي والأجنبي، والتبعية للغرب، بقيمه المادية والمعنوية، التي يفرضها علينا ويقوم بتسليعها، كما لم يتوان عن شق كل السبل نحو دعم كيانات عربية قوية، لا تفتك بها غياب التنمية السياسية وبناء نظم مافياوية، تعنى بالطائفية السياسية، التي كانت سبباً في التدخل الاستعماري لحماية الأقليات منذ الاحتلال العثماني.