“وطن-وعد الأحمد”- لا يزال من تقدم بهم السن وعاشوا بدايات القرن الماضي يتذكرون أواخر الصور من المحمل الشامي الذي كان أميز مظاهر الحج في الشام، ولم يبق من هذه المظاهر إلا المحمل ذاته الذي تحول إلى قطعة تراثية في متحف قصر العظم وسط دمشق القديمة.
ومن يزر هذا المتحف اليوم لا بد أن يسترعي انتباهه في قاعة الحج إطار خشبي مربع وفوقه هرم يكسوه نسيج حريري أسود مطرز بخيوط ونقوش وزخارف من لون الذهب، ويبدو محمولاً على ظهر جمل يحيط به حارسان مع شمع وسنجق.
هذا المشهد الرمزي هو آخر ما تبقى من أيام المحمل الشامي الذي كان الوسيلة الوحيدة لأداء فريضة من فرائض الدين يوم لم تكن هناك طائرات ولا مركبات ولا حدود.
والمحمل الشامي إلى جانب المحمل المصري هما أهم محملين سمحت بهما وبالتالي تبنتهما ونظمتهما الدولة العثمانية في العالم الإسلامي في مواسم الحج، ورغم أنه لم يقم أي سلطان عثماني بأداء فريضة الحج بمن فيهم السلطان عبد الحميد الثاني الذي أعلن نفسه خليفة المسلمين، لدواعٍ أمنية، فقد اهتم العثمانيون بتأمين سلامة هذا المحمل بوصفهم حماة الحرمين الشريفين طوال القرون الأربعة التي حكموا فيها بلاد الشام.
وتعود فكرة المحامل إلى المماليك وبالأخص الظاهر بيبرس الذي أرسل المحمل لأول مرة عام 1266 ميلادية كبادرة ورمزية لسياسته حيال الأماكن المقدسة الإسلامية، ومن بعده اهتم السلطان الغوري آخر سلاطين مصر من المماليك بتسيير المحمل كل عام ولا يزال محمله معروضاً في متحف اسطنبول حتى اليوم.
وكان أيام العثمانيين هناك محمل رمزي يخرج في اسطنبول عبر احتفال بالمدينة خلال القرن الثامن عشر وعند الوصول إلى محطة البحر في اسطنبول كان قماش المحمل يُطوى ويوضع في صناديق ليتم استعماله في السنة التالية.
والمحمل الشامي موضوع حديثنا تم تصنيعه في (دار الطراز الرسمية) في اسطنبول عام 1330 هـ الموافق 1911 وهو مطرز بالخيوط الفضية المذهبة وهذا الضرب من التطريز يُعرف باسم “الصرما”، وكان يلازم المحمل ما يُعرف ب”السنجق” وهو قطعة كبيرة مستطيلة من القماش ذات أربعة أطراف مكتوب في كل زاوية منها اسم أحد الخلفاء الراشدين- أبو بكر- عمر- عثمان-علي وبعض الآيات القرآنية وهو من المخمل النفيس.
طريق الحج الشامي
كان موسم الحج في دمشق (المدعوة باب الكعبة) كما يقول الباحث عزيز العظمة في كتابه (مرآة الشام، تاريخ دمشق وأهلها) “يُعد في طليعة موارد العيش حيث يدر الأرباح الطائلة على جميع أهلها طيلة العام.
وكان الطريق الممتدة من دمشق إلى المدينة المنورة من أقصر الطرق وأكثرها سلوكاً وظل الحكام طيلة العصور الإسلامية وحتى العهد العثماني يعنون بهذه الطريق وأمنها وتعميرها حيث أقاموا فيه الحصون والقلاع بدءاً من المزيريب وبصرى إلى القطرانة ومعان ذات الحج”.
ويعود تاريخ طريق الحج الشامي إلى بداية انتشار الإسلام في بلاد الشام ثم في آسيا الصغرى، وما جاورها وكان يمثل أهمية خاصة للسلطان العثماني الذي كان يُهيّأ للمحمل الشامي الذي يسير عليه ما يلزم ويعيِّن له أميراً للحج قد يكون من أمراء البدو أو كبيراً من الدمشقيين أو والي دمشق بالذات.
وبدءاً من سنة 1708 أصبح والي دمشق يتولى إمارة الحج وكان موظفون عثمانيون يُرسلون من اسطنبول للإشراف على شؤون الحجاج وكان يرافق القافلة قاضٍ ومؤذنٌ وإمام وأهم واجبات أمير الحج ضمان أمن القافلة من هجمات البدو الذين كانوا يطبقون على القوافل وينهبون ما يحمله الحجاج من أموال ومواد غذائية وقد يكون مع البعض سلع حُملت للإتجار بها.لذلك نشأت مع الزمن عادة دفع (الصرة)، وهي أموال عينية تُجبى من الولايات بأساليب مختلفة وتدفع لزعماء البدو لصرف أذاهم عن قافلة المحمل.
وهذا ما يؤكده المؤرخ “اسماعيل حقى أوزون” المتخصص في التاريخ العثماني في كتابه “أمراء- أشراف مكة”، حيث يذكر أن الدولة العثمانية كانت تخصص للقبائل العربية التي يمر بها طريق الحج “صرة” من النقود الذهبية وكميات من الحبوب وخلعة فاخرة لشيوخها ولكن قد تحصل بعض الإجراءات الخاطئة من أمير الحج أو قد يحجب الشريف الصرة أو يعطيهم أقل، مما هو مخصص لهم فيؤدي ذلك إلى ثورتهم. تحفل سيرة المحمل الشامي بالكثير من النكبات من حريق أو سلب أو أوبئة أو غرق على غرار ما رأيناه في المسلسل السوري (الخوالي) الذي عرض على التلفزيونات العربية منذ عامين ويرصد بدقة متناهية تفاصيل رحلة المحمل الشامي بمختلف مراحلها.
ويكتب المؤرخ “بديري الحلاق” في كتابه الشعبي الشهير “حوادث دمشق اليومية” جانباً من النكبة التي حلت بحجيج الشام عام 1169 هـ 1724 م قائلاً “أما الأعراب اعترضوا الحجاج ونهبوهم وشلحوا كبيرهم لباسه وخاتمه من إصبعه وانزلوه من تخته وأخذوا أطواخه “أوسمته” ومدافعه ثم ثنوا بقافلة الحج فأمعنوا فيها قتلاً وسلباً حتى أنهم ارتكبوا أفعالاً لايفعلها إلا عباد النيران”.
أجرة نقل المسافر من دمشق إلى مكة
وتذكر المصادر أن قافلة الحج الشامي إلى الحجاز لم تخرج في السنتين اللتين اعقبتا الفتح العثماني لبلاد الشام في عام 1516 بسبب التبدل في السلطة الحاكمة واضطراب الأمن في الأرياف وتحرك القبائل البدوية… وبعدما قضى العثمانيون على ثورة جان بردي الغزالي والي دمشق المملوكي الأصل في عام 1521 استبعد المماليك نهائياً من إمارة الحج الشامي، في حين أنهم تسلموا قافلة الحج المصري طوال وجودهم في مصر خلال العهد العثماني.
وعمد العثمانيون في بلاد الشام إلى تعيين أحد الأمراء المحليين من حكام سناجق غزة أو عجلون أو اللجون أو نابلس أو صفد أو القدس التي كانت تتبع ولاية الشام، أميراً على الحج، وممن عين من هؤلاء الأمراء المحليين على القافلة الحج الشامي قانصوه بن مساعدة الغزالي أمير عجلون والكرك، الذي شغل منصب أمير الحج الشامي مدة خمسة عشرة سنة من -1572 / 1587م.ويذكر المؤرخ الدكتور “عبد الكريم رافق” في بحث له بعنوان: “قافلة الحج الشامي وأهميتها في العهد العثماني” أعد للمؤتمر العالمي لتاريخ الحضارة العربية والإسلامية في دمشق /نيسان عام 1981/ أن أجرة نقل المسافر من دمشق إلى مكة في شوال 1158 تشرين الثاني _ نوفمبر 1545 كانت سبعين قرشاً تفصيلها أجرة جمل 40 -سقاية ماء 5 -ثمن شقدوفة 5 -أجرة عكام 5 -أجرة حمولة وزنها 15 أوقية -15 قرشا) ولم تتضمن الأجرة الطعام لأنه لم ينص عليه.وعمد العثمانيون في بلاد الشام إلى تعيين أحد الأمراء المحليين من حكام سناجق غزة أو عجلون أو اللجون أو نابلس أو صفد أو القدس التي كانت تتبع ولاية الشام، أميراً على الحج، وممن عين من هؤلاء الأمراء المحليين على القافلة الحج الشامي قانصوه بن مساعدة الغزالي أمير عجلون والكرك، الذي شغل منصب أمير الحج الشامي مدة خمسة عشرة سنة من -1572 / 1587م.