لأنهم من العباطة بحيث يتصورون أن الآخرين ليسوا أكثر من عُبَطاء ، يأخذ أحدهم (وهو القنصل السعودي في إسطنبول) مراسل وكالة رويترز في جولة إستعباطية داخل غرف وأروقة قنصليته حتى يبرهن له أن (المفقود) جمال خاشقجي لا أثر له هناك ، وبكامل العبَط الهادئ والمتهندم يفتح القنصل النبيه بويباً لإحدى المكتبات لكي يُقنع مراسل رويترز بأن لا وجود لخاشقجي في خانة خشبية أوسع قليلاً من علبة سردين !.
هذه واحدة من مفارقات العته الذي ينتاب (النخبة المثقفة) التابعة للبلاط الملكي السعودي في مسخرة تعاطيها الكاريكاتوري مع واقعةٍ مأساوية تستقطب الأضواء العالمية الكثيفة وبحجم (إختفاء) الكاتب جمال خاشقجي بُعَيد دخوله إلى مبنى قنصلية بلاده في إسطنبول ، وإليكم أدناه بعض الأمثلة على عمق القاع الذي وصلت إليه هذه النخبة :
1 ـ لكي يفوز بسباق الإستعباط ، ومن موقعه كـ (شارلوك هولمز) السعودية يتذاكى علينا الكاتب السوبرليبرالي تركي الحمد قائلاً في أحدث تغريداته البوليسية الفذة : (في قضية جمال خاشقجي فتش عن المرأة ، مفتاح اللغز بيد خطيبته المزعومة).
2 ـ الصحفي عبدالعزيز الخميس ، منافس المحقق العبقري (هيركيول بوارو) بطل روايات أجاثا كريستي ، وبعد إنتهاءه من فك ألغاز الجريمة يخرج علينا بالتصريح الخارق التالي : (إسطنبول خطرة جدا ، ولا بد من الاحتراز والتنبه ، في ظروفها الحالية لا يؤتمن على الإعلامي التركي فماذا عن غيره ، حتى الإخونج صاروا يختطفون من يزور أهله ثم يبكون عليه ، إسطنبول والاخونج خراب وخطر وحذر ، مدينة يدمرها المتطرفون بطرق متعددة ، الحذر) .
3 ـ محمد آل الشيخ ، الصحفي الهائم في حب الصهاينة ، وكمن يتفوه من فتحة مجاري لا من فتحة فمه ، ينعق بكل نتانة : (أعتقد أن خطيبة الخاشقجي الكمخة اللي اسمها خديجة هي المتهمة الاولى في إختفائه فهي عليمية في لبس الحجاب ، وأيعقل أن يتزوج هذه العجوز الشمطاء اللي تروع البعارين ؟) .
4 ـ علي المالكي مدير صحيفة (هام) الإلكترونية يسحل (الذيب من ذيله) لنكتشف معه أن خطيبة خاشقجي (خديجة) هي المسؤولة عن خراب مالطا : ( سري للغاية ، وانكشف اللثام ، الله أكبر عليكِ يا خديجة ، طلعتِ برتبة مقدم في المخابرات التركية ، ومتعاونة مع المخابرات القطرية براتب يتجاوز 20 ألف ريال ، ولكِ سوابق في إحداث المشاكل والإشاعات بين دول الخليج وعُمان لمدة عشر سنوات ، وتدعين أنك خطيبة صلاح كذباً) .
5 ـ نايف العساكر ، المستشار الهمام في وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد ، يأخذنا إلى مسرح العبث السعودي لنتفرج معه على ما يسميه : (مسرحيه جمال خاشقجي التي صارت مكشوفة ، فخيال المآته يريد التخلص من جميع الذين يملكون أدلة تدينه أو يتلقون أموالاً منه ، وهذه الطريقة سيسلكها تنظيم الحمدين والأتراك مع المتعاونين معهم) .
6 ـ المتطرف الشعبوي عبداللطيف آل الشيخ يحسم الجدل العالمي حول لغز (إختفاء) خاشقجي بجملة قطعية واحدة : (مسرحية جمال خاشقجي من تأليف وإخراج وإنتاج تنظيم الحمدين الارهابي ومرتزقتهم ، لدي شعور بأن هذه المسرحية سيسدل ستارها قريباً بمفاجأة ستضع قطر في مأزق خطير أمام المجتمع الدولي) .
تلك كانت عينات عشوائية متفرقة من جملة المصابين بعاهة (العته) المستشري في النخبة التي يقودها كالنعاج مراهقو الديوان الملكي السعودي ، ومن أعراض هذه العاهة ما نقرأه أو نشاهده أو نسمعه يومياً منذ إختفاء خاشقجي من خزعبلات نخبوية سعودية بلهاء لا تجلب على أصحابها سوى سخرية وسخط وازدراء العالم ، ومع إن مفتاح الحل للغز (إختفاء) خاشقجي موجود في قنصلية بلادها بإسطنبول إلا أن هذه النخبة ما برحت تفتعل الحركات البهلوانية السّمجة فتسلك كل الطرق الإلتوائية بإستثناء الطريق المستقيم المؤدي إلى ذلك المفتاح المتمثل (ببساطة) في تسجيلات الكاميرات التي ترصد حتى عدد الأنفاس من شهيق وزفير مراجعي وزائري تلك القنصلية ، وكما لو أن العالم محض غشيم تنطلي عليه هذه المراوغات المفضوحة تصرّ نخبة العته هذه على تكرار مهازلها الإستعباطية بلا خجل ودون أدنى احترام حتى لذاتها بعد أن تتمْسَحَ جلدها وفقدت كل حسّ إنساني وسقطت أخلاقياً في مهوى السفالة والرذالة إلى أسفل سافلين وفضحت دورها سلفاً كشريك فعليّ في جريمة دنيئةٍ خسيسةٍ مهما اجتهدت في محاولاتها العبثية لإستعباط العالم وحرف أنظاره عنها فلن تقوى على طمس حقيقتها التي راحت معالمها المروّعة تتكشف تباعاً أمام القاصي والداني ، فجمال خاشقجي الإنسان الخلوق والصحفي الناصح والمثقف المتسامح لم يتبخر ولكنه في مختلف الأحوال (شهيداً أو سجيناً) إرتقى إلى رمزٍ إنساني مرموق للكلمة الحرة بعد أن تكالبت عليه جسداً وروحاً ومعنىً أراذل أهليهِ من أزلام نظام شمولي إستبداديّ أرعن يدفعه رعبه من تعاظم أعداد وأصوات الطاعنين بشرعيته وأهليّته إلى إرتكاب حماقات وآثام وجرائم خبط عشواء سيدفع ثمنها كاملا حتماً .
مهند بتار