تقديرات الموقف في “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”: فهم الراهن واستشراف المستقبل

By Published On: 13 سبتمبر، 2019

شارك الموضوع:

كتب: كريم سليمان (وطن)

ساهمالمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في وضع رؤية استشرافية للواقعين السياسي والاجتماعي العربي والعالمي، عبر خلق أدوات معرفية جديدة، تطرق الحقل السياسي، بآليات منهجية وعقل استراتيجي، يُخضع الظاهرة لشروطها ويحدد الثابت والنسبي داخلها، ومن ثم يحدد مستقبلها وإمكانيات تطورها وتغيرها.

وهو الأمر الذي يشهد نكوصاً وتراجعاً شديدين، في العديد من المراكز العربية التي تعتمد في نشاطها على الأدوار الوظيفية للسلطة، والتماهي مع خطابها، وترديد مقولاتها، من دون أن تنجز موقفاً سياسياً أو تحدث تنمية في الوعي والتفكير.

تنوعت تقديرات الموقف التي انخرط المركز العربي في البحث فيها، سواء كانت قضايا محلية أو إقليمية أو عالمية، كما تراوحت بين ظواهر سياسية تتمثل في الاحتجاجات ضد السلطة، مرحلياً أو كلياً، خاصة، أحداث الربيع العربي، وكذا الاضطرابات الفئوية بين العمال والطلبة وغيرهم، فضلاً عن الأزمات في المنطقة، مثل المقاطعة الخليجية، التي تعكس تباينات سياسية ومصالحية، يقف أحد أطرافها كالسعودية والإمارات، في مواجهة تصفية الواقع الثوري، وتبعاته، وعدم مساندته، الأمر الذي يتصل بشكل عضوي مع طموحها، لمد نفوذها في الجغرافيا السياسية التي كانت تتحرك ضدها، كما هو الحال في اليمن، وبناء حلف وارسو، ومستقبل الصراع في اليمن، وتبعات انسحاب الإمارات من عدن.

ثمة توجهات عملية وعلمية تقود إلى التنبؤ والوصول إلى تقديرات مواقف رصينة، من خلال مجموعة من الأسس العلمية والمعلومات الموثقة، التي تؤدي إلى رفع الوعي ببدائل الرأي، وسيناريوهات التوقع للمستقبل، عبر إخضاعه إلى مجموعة من المراحل، تبدأ بالحصول على المعلومة الموثقة، وتحليلها بعزلها عن سياقها، وفهمها داخله، وتفكيك الطبقات التي شكلتها، حتى لا تقف عند حد التقدير الواحد المصمت، إنما تنتهي لرؤية عامة تتسم بالعمق والشمولية والاستشراف، بحيث تصيغ بدائل للرأي، تنجح في الوصول إلى مقاربة أكثر للواقع.

بيد أن ذلك الأمر، يمكن مطابقته في نماذج متعددة، عمد إلى صياغتها المركز العربي، عبر اعتماده أطراً متفاوتة في تقديرات المواقف، عندما يحشد في ميزانه الحدث وتحليله، وتفكيك الصلات العضوية والارتباطية بين أطرافه، وإعادة النظر في الأولويات الموجودة وأوزانها، بحيث يعطي الإهتمام لأولوية دون الأخرى، ويحدد المخرجات والصيغة النهائية وإطارها المنهجي والمعياري وشكل توظيفه، حيث يكون بمقدوره وضع الخطط وإدارة الأزمات.

لفت المركز العربي، في تقدير موقف له عن مؤتمر وارسو، إلى أبعاد ومنطلقات ذلك الحدث، من عدة جوانب وأهداف، إذ كشف عن أغراضه ودواعيه، ونجح في التنبؤ بمآلاته، حيث عُقد في العاصمة البولندية، وارسو، يومي 13 و14 شباط/ فبراير 2019، المؤتمر الوزاري لتعزيزالسلام والأمن في الشرق الأوسط، بحضور ممثلين عن نحو ستين دولة، وذلك بعد مرور نحو شهر على دعوة أطلقها وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، في خطاب ألقاه في الجامعة الأميركية في القاهرة، لتنسيق الجهود الإقليمية والدولية لمواجهة نشاطات إيرانالمزعزعة للاستقرارفي منطقة الشرق الأوسط.

أشار المركز في تقديره إلى أن تمثيل دول عديدة منخفضًا في المؤتمر، كان حضور أكثر الدول العربية على مستوى وزراء الخارجية، وأوفدت إسرائيل رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو لتمثيلها، ومثل الولايات المتحدة الأميركية نائب الرئيس مايك بنس. وباستثناء المظاهر الاحتفالية التي عبر عنها المسؤولون الأميركيون نتيجة تمكنهم من جمع مسؤولين عرب إلى جانب رئيس حكومة إسرائيل، لم يخرج المؤتمر بقررات مهمة؛ ما جعله يبدو كأن هدفه الرئيس هو توفير غطاء لتطبيع العلاقات بين بعض الدول العربية وإسرائيل، بذريعة مواجهة تهديد مشترك تمثله إيران.

وترتب على فشل الولايات المتحدة في حشد تأييد كبير، خاصة بين حلفائها الأوروبيين، لمؤتمر تحت عنوانمواجهة إيران، بحسب تقدير الموقف، إلى توسيع عدد القضايا التي يعالجها؛ لتشمل عملية السلام الإسرائيليةالفلسطينية، والأزمات الإنسانية في سورية واليمن، والأمن السيبراني، والإرهاب والتطرف، وتطوير الصواريخ وانتشارها، والتهديدات التي تستهدف التجارة البحرية، وغيرها.

مع ذلك، قررت دول أوروبية عديدة خفض مستوى تمثيلها في المؤتمر، في حين قاطعته المفوضة العليا للشؤون الخارجية والأمن في الاتحاد الأوربي، فيديريكا موغريني، متذرعة بمشاركتها في مؤتمر قمة الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا. ويتمسك الاتحاد الأوروبي بالاتفاق النووي الإيراني، خاصة الدول الأطراف فيه وهي فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا، والتي تشجع إيران على الاستمرار فيه.

وفي ما أشار إليه تقدير الموقف للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، لم تنتج من المؤتمر أي سياسات جديدة ضد إيران، وتحول إلى محاولة لرفع الحرج عن الأطراف العربية الساعية للتطبيع مع إسرائيل، كما تحول إلى مدخل يسمح باستمرار العمل على إنشاءتحالفعربيإسرائيلي بحجة مواجهة إيران.

ففي حين تستعد الولايات المتحدة للانسحاب من سورية، يتوقع أن تقود إسرائيل جهود مواجهة إيران في المنطقة، خاصة في سورية؛ وهذا يتطلب، بحسب واشنطن، أن يقبل العرب بتمرير تسوية للقضية الفلسطينية من دون الفلسطينيين ووفق الرؤية الإسرائيلية التي يسعى للترويج لها صهر الرئيس الأميركي ومبعوثه إلى الشرق الأوسط جاريد كوشنر تحت عنوانصفقة القرن“.

أكد المركز في تقديره الاستشرافي، أنه لن يكتب النجاح لمحاولات الولايات المتحدة إيجاد رابط بين مواجهة إيران وتصفية القضية الفلسطينية؛ بحيث تضغط الدول العربية على الفلسطينيين للقبول بتسوية وفق الرؤية الإسرائيلية في مقابل تعاون عربيإسرائيلي لمواجهة إيران.

من جهة أخرى، تناول المركز في تقدير موقف له عن الوضع المصري المتفاقم، إبان ما جرى من عزل مرسي، ونجاح الثورة المضادة في الوصول للسلطة، حيث أوضح الصلة بين تفشي التعذيب كوسيلة ممنهجة ومستمرة لتصفية الخصوم، والغطاء الدولي، خاصة من الولايات المتحدة في ولاية ترامب، حيث اعتبر أن تراجع الضغوط الدولية على النظام المصري في مجال حقوق الإنسان، لا يعني انعدام الجهود الحقوقية لمواجهته؛ فالواضح أن تراجع الضغط الدولي عليه في مجال حقوق الإنسان، ارتبط بوعي ونشاط متزايد لكشف انتهاكاته لحقوق الإنسان بين المنظمات الحقوقية الدولية بالتعاون مع المنظمات المصرية في الداخل والخارج. فمفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان تنشر بيانات وتقارير على نحو منتظم عن أوضاع حقوق الإنسان في مصر، بما في ذلك حقوق المعتقلين والسجناء السياسيين.

ويضاف إلى ذلك، أن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة يناقش تقارير عن تلك الأوضاع على نحو دوري. كما تصدر منظمات حقوق الإنسان الدولية، وعلى رأسهاهيومان رايتس ووتشوالعفو الدولية، تقارير حقوقية مستمرة عن مصر.

وخلال زيارة السيسي الأخيرة إلى واشنطن، عقد مركز أبحاث معروف هناك، هومشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط، ندوة شارك فيها عدد من أعضاء الكونغرس الأميركي، ومنظمة حقوقية مصرية جديدة، هيالمنبر المصري لحقوق الإنسان، للتنديد بانتهاكات السيسي الحقوقية والمطالبة بموقف أميركي أكثر جدية في التعامل مع قضايا حقوق الإنسان في مصر. وقد أعلن بعض أعضاء الكونغرس المشاركين في الندوة عن عزمهم تشديد الشروط التي تقرن تقديم مساعدات لمصر بمدى التزام النظام بحقوق الإنسان.

وأبرز المركز العربي في تقديره، أن تلك التحركات تمثل وسيلة مهمة للضغط على النظام المصري، ولو جزئيًا، خاصة أنها تقترن بكم متزايد من الإدانات الصادرة عن أكبر منظمات حقوق الإنسان الدولية. كما أن قضية المعتقلين باتت تمثل إحدى أهم أولويات المعارضة المصرية في الوقت الراهن، خاصة أنها تشمل مختلف القوى السياسية؛ إذ أن ترسخ وعي المصريين بأهمية الدفاع عن حقوقهم السياسية والمدنية، ورفض ما يتعرض له المعتقلون والسجناء السياسيون من انتهاكات جسيمة، من أهم مكاسب خبرة السنوات الأخيرة الصعبة.

وفي سياق إقليمي آخر، قدم المركز العربي تحليلاً لافتاً حول الأوضاع المأزومة في اليمن، حيث لم يتبنَّ التحالف موقفًا سريعًا وجادًا لوقف الصراع، واكتفى بعد أربعة أيام من المواجهات المسلحة بإصدار بيان لوقف إطلاق النار، وانسحاب قوات الطرفين إلى مواقعها السابقة، في الوقت الذي كانت فيه قوات المجلس قد حسمت المعركة. عزز ذلك الدعوة المتأخرة التي وجهتها المملكة العربية السعودية إلىالأطراف التي نشب بينها النزاع، للاجتماع العاجل في الرياض، وقيام طائراتها بشن غارات على أهداف غير ذات أهمية.

وعليه، استشرف المركز العربي، الموقف السياسي الذي تبنته أبو ظبي، حتى لو كان الموقف السياسي للإمارات متأخرًا؛ فبعد سيطرة قوات المجلس على عدن، دعا وزير الخارجية الإماراتي إلىحوار مسؤول وجاد من أجل إنهاء الخلافات، مع علمه أن المسألة ليست مسألة خلافات بعد أهداف معلنة للمجلس الانتقالي بالإعداد لإقامة دولة. تزامن ذلك مع حملة إعلامية شديدة قادها سياسيون وأكاديميون مقربون من مركز القرار الإماراتي، حاولت بعث النزعات الانفصالية، والتعريض بالرئيس هادي، والدعوة إلى طرد الحكومة من عدن.

ومن بين تقديرات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، كان تصديه لفهم أحداث الثورة السودانية، إذ حلل الحدث عبر تأطيره له داخل مفهومين شديدي الأهمية؛ هما التحول السياسي والتحول الديمقراطي، وأسس مقارنة سريعة بين دلالات المفهومين وعلاقاتهما، إذ إن (التغيير السياسي) هو مقدمة سابقة ولازمة للمفهوم الثاني (التحول الديمقراطي)، ولكن الثاني قد لا يكون نتيجة حتمية للأول؛ فقد يحدث التغيير السياسي ولكنه يظل تغييرًا فوقيًا، لا يقود إلى تحول ديمقراطي حقيقي ومستدام للنظام السياسي السائد. بل قد يقود، في عديد من الحالات المشاهدة، إلى نظام سياسي أكثر عجزًا من النظام الأول في تلبية تطلعات الجماهير والمجموعات المحكومة للتحول الديمقراطي.

في ضوء ما سبق، وبالنظر إلى معطيات الراهن السوداني، طرح المركز العربي في تقدير الموقف، سؤالاً مفاده: “هل ما يحدث في السودان الآن يمكن أن يمثل تغييرًا سياسيًا فقط في قيادة الدولة أم هو مقدمة لتحول ديمقراطي حقيقي؟“. وعلى الرغم من أن المشهد لم يتكشف حتى الآن، والأحداث لم تبح بجميع أسرارها، فإن ذلك لا يمنع، من خلال الشواهد والدلالات ومقارنة الحاضر بالماضي، أن نحاول أن نستشف اتجاه الأحداث الجارية.

وبينما ليست هذه هي المرة الأولى التي تزاح فيها حكومة عسكرية من سدة الحكم في السودان، على يد القوى السياسية المدنية، فقد فعلت ذلك، من قبل، مرتين. غير أن سيرورة التحول الديمقراطي سواء بعدثورة أكتوبرعام 1964 أو بعدثورة أبريلعام 1985، لم تكتمل يومًا؛ إذ دائمًا ما تفشل القوى السياسية المدنية في استدامة الديمقراطية والتأسيس لنظام حكم مدني فعال يقود ويكمل مشروع بناء الدولة القومية في ذلك البلد المضطرب.

وفي ضوء الحقائق المتاحة والموثقة، فإن مسألة التحول الديمقراطي في السودان أعمق من مجرد إنهاء حكم عسكري دكتاتوري، بل إن جوهر ومراحل التحول الديمقراطي تبدأ مع تنصيب الحكومات المدنية، فالثورات الكبرى الثلاث على الحكام العسكريين عبرت فيما عبرت عنه عن رغبة تجمع أشتاتاً سياسية، اتفقت مرحليًا وتلاقت مصالحها على ضرورة إزاحة الحكومة العسكرية القائمة، أكثر من اتفاقها على ثوابت وطنية أو حتى ملامح برنامج حد أدنى للحكم والمشاركة السياسية.

ووصف المركز في تقدير الموقف، الحراك الشعبي الحالي الذي أطاح حكومة الرئيس عمر البشير، من دون أن يمس بقواعد حكمه كثيرًا، بأنه بمثابةقفزة في الظلام؛ حيث أن حجم التحديات التي تواجه إنجاز التغيير في مرحلة أولى ومن ثم تحول ديمقراطي حقيقي ومستدام في مرحلة ثانية، كبير جدًا.

تنبأ تقدير الموقف، بأن الثورة الحالية تأتي في ظل ظروف داخلية وخارجية بالغة الصعوبة والتعقيد. فداخليًا تغيرت البيئة السياسية كثيرًا عما كانت عليه في نيسان/ أبريل 1985، تاريخ إطاحة حكم الرئيس الأسبق جعفر نميري، وعرفت السنوات الثلاثون من حكم الإنقاذ بروز قوى سياسية جديدة، وتراجع أخرى ونشوء تحالفات جديدة وانفراط أخرى قديمة ظلت قائمة ومسيطرة ردحًا من الزمان. وقد ساهمت سياسات النظام الذي ظل يحكم البلاد منذ 30 حزيران/ يونيو 1989، وحتى نيسان/ أبريل 2019، في هذه التغيرات بشكل كبير.

أما خارجيًا، فقد تغيرت البيئة الإقليمية والدولية كثيرًا، ومن المؤكد أن قائمة الحلفاء المحتملين وكذلك الأعداء سوف تشكل متغيرًا بالغ الأهمية في مسألة سهولة أو صعوبة إنجاز التحول الديمقراطي في السودان، وذلك وفقًا لطبيعة المصالح السياسية، والاستراتيجية المتقاطعة لدول الإقليم ومن خلفها القوى الكبرى.

شارك هذا الموضوع

Leave A Comment