تحليل يكشف .. هذه الأسباب وراء تأخر حسم معركة سرت
وطن- على عكس مدينتي ترهونة وبني وليد وبلدات النواحي الأربعة (غرب) لم تسقط مدينة سرت (غرب) بسرعة كما كان متوقعا، فيما نُقل عن الروس أنها “خط أحمر” لا يجب الاقتراب منه، مقابل إصرار الحكومة الليبية على اقتحامها مهما كان الثمن، وهو ما يعكس أهميتها الاستراتيجية لكافة الأطراف.
فسرت (450 كلم شرق طرابلس) تتوسط أكبر مدينتين في البلاد، إذ تقع في المنتصف بين عاصمة البلاد طرابلس وعاصمة إقليم برقة في الشرق بنغازي (ألف كلم شرق طرابلس).
وتاريخيا تتبع سرت إقليم طرابلس، وهي آخر مدينة كبيرة في الغرب الليبي لم يتم تحريرها بعد، وسيطرت عليها مليشيا حفتر لأول مرة في يناير/كانون الثاني الماضي فقط، بعد خيانة الكتيبة 604 المدخلية، للقوات الحكومية، وأغلب عناصرها من قبيلة الفرجان، التي ينتمي إليها حفتر.
** مفتاح تحرير قاعدة الجفرة الجوية
وتكمن أهمية سرت الاستراتيجية في أنها تقع شمال قاعدة الجفرة الجوية (650 كلم جنوب شرق طرابلس)، ولا تفصلها عنها سوى طريق مفتوحة لا تتجاوز 300 كلم، وهي مسافة ليست طويلة جدا بمعايير الصحراء.
ويُعتقد أن روسيا ترغب في اتخاذ الجفرة قاعدة دائمة لتواجدها في منطقة شمال إفريقيا وجنوب البحر الأبيض المتوسط.
وهذا ما يفسر انسحاب مرتزقة فاغنر الروسية إلى قاعدة الجفرة، وإرسال موسكو 14 طائرة من نوع ميغ 29 وسوخوي 24، إلى ذات القاعدة الجوية، بحسب الجيش الأمريكي، لتثبيت تواجدها وسط ليبيا، على غرار قاعدة حميم الجوية غربي سوريا.
وإذا تمكنت روسيا من ضمان عدم سقوط سرت في يد القوات الحكومية، فهذا يتيح لها مستقبلا قاعدة بحرية بسرت لتهديد حلف شمال الأطلسي (الناتو) من جنوب البحر المتوسط، ردا على تهديدات “الدرع الصاروخية” للناتو بالقرب من حدودها الغربية.
لذلك نقل أحمد معيتيق، نائب رئيس المجلس الرئاسي للحكومة الليبية، عن مسؤولين روس عقب زيارته لموسكو، مؤخرا قولهم إن “سرت خط أحمر”، ما أشعل غضبا واسعا في المنطقة الغربية، وأمر فائز السراج، بعدها باستمرار عملية تحرير المدينة.
** الموانئ النفطية.. الكنز الذي يمنع التقسيم
وسيطرة القوات الحكومية على سرت يجعل الطريق أمامها مفتوحا للسيطرة على الموانئ النفطية، إذ لا يبعد أقرب ميناء نفطي (السدرة) عنها سوى 150 كلم.
فسرت كانت دوما القاعدة الخلفية لأي هجوم على الموانئ النفطية من الغرب، لذلك تستميت مليشيا الجنرال الانقلابي خليفة حفتر، في الدفاع عنها للسيطرة الهلال النفطي، الذي يمثل أكثر من 60 بالمئة من صادرات ليبيا النفطية.
حيث تسبب إغلاق الموانئ والحقول النفطية في خسارة البلاد نحو 6 مليار دولار منذ منتصف يناير/كانون الثاني الماضي، وأصبحت الحكومة مضطرة للسحب من احتياطاتها بالعملة الصعبة لدفع المرتبات.
واستمرار غلق الحقول والموانئ النفطية لمدة أطول يهدد بانهيار الاقتصاد الليبي الهش أصلا، لذلك فتحرير سرت ومن ثم الموانئ النفطية أصبح ضرورة قبل أن يجثو اقتصاد البلاد على ركبتيه.
والهلال النفطي ليس له أهمية اقتصادية فقط، بل ضرورة سياسية أيضا، فبعض الأصوات المتطرفة داخل إقليم برقة تنادي بالانفصال عن إقليم طرابلس، والاستحواذ لوحدها على موارد الهلال النفطي الهائلة.
لكن سيطرة القوات الحكومية على الموانئ النفطية عبر بوابة سرت، سيحرم إقليم برقة من أهم مورد مالي بالعملة الصعبة، ويصبح مشروع الانفصال انتحاريا، وغير مغر لقبائل الشرق.
غير أن استمرار سيطرة مليشيا حفتر على سرت والموانئ النفطية لسنوات طويلة، إما بسبب توازن القوة، أو لمفاوضات مستمرة بلا نتائج، فهذا سيكرس التقسيم مثلما هو حاصل في اليمن أو في شبه الجزيرة الكورية.
** القذافي أراد سرت عاصمة لليبيا
في كثير من دول العالم، تتوسط العاصمة البلاد أو على الأقل أكبر مدينتين في البلد، لكن في ليبيا، تقع العاصمة طرابلس غربا بعيدة عن عاصمة الشرق بنغازي بألف كلم، وهذا التطرف المكاني، يفتح المجال للتمزق الجغرافي بين إقليمين بينهما بعض التمايز حتى في اللباس والأكل.
وهذا ما دفع الملك الليبي إدريس السنوسي، عند استقلال البلاد في 1951، لاتخاذ كل من بنغازي وطرابلس عاصمتين مشتركتين للمملكة الليبية المتحدة حتى 1963، منعا للتنازع بين الإقليمين، قبل أن يتخذ مدينة البيضاء (شرق بنغازي) عاصمة للبلاد (1963-1969).
لكن بعد وصول معمر القذافي (1969-2011) إلى الحكم في انقلاب عسكري، نقل العاصمة من الشرق إلى طرابلس الغرب.
وروى أن القذافي كان ينوي أن يتخذ سرت، مسقط رأسه، “عاصمة” للبلاد، ولذلك عمل على تهيئتها، حيث شيّد قاعات واغادوغو التي استضافت قمة إفريقية استثنائية في 2001، أُعلن خلالها تأسيس “الاتحاد الإفريقي”، بالإضافة إلى قمة عربية في 2010. وعبر مطار القرضابية الدولي (20 كلم جنوب سرت) استقبل زعماء عرب وأفارقة.
وفشل مشروع القذافي في تحويل مسقط رأسه إلى عاصمة تجمع بين شرق البلاد وغربها، لأنه أخذ بالبُعدين الجغرافي والسياسي، ونسيّ البُعدين الحضاري والثقل السكاني.
فعدد سكان سرت يقارب 80 ألف نسمة في حين تجاوز عدد سكان طرابلس وحدها 2.5 مليون نسمة، بينما بلغ سكان بنغازي في آخر إحصاء في 2006، أكثر من 670 ألف نسمة من إجمالي 6.5 مليون.
** لا نصر بلا مظلة صاروخية
أحد الأسباب الرئيسية لعدم تمكن القوات الحكومية اقتحام سرت من أول يوم رغم أن معنويات مليشيات حفتر كانت منهارة وتنسحب بشكل عشوائي نحو الشرق، تدخل طائرات بدون طيار داعمة لحفتر.
ففي 6 يونيو/حزيران الجاري، تمكنت القوات الحكومية من السيطرة على منطقة الوشكة غرب سرت، والتي شكلت مركز انطلاق هجمات حفتر نحو أبو قرين باتجاه مدينة مصراتة (200 كلم شرق طرابلس).
وزحفت القوات الحكومية من ثلاث محاور (الساحلي شمالا، والوشكة وسط، وطريق اللود من الجنوب)، وتمكنت خلال ساعات من السيطرة على مساحات واسعة على طول 110 كلم، ووصلت إلى غاية جزيرة الزعفران (مفترق طرق على المدخل الغربي لمدينة سرت).
لكن طلائع القوات الحكومية ابتعدت كثيرا عن مظلة الصواريخ المضادة للطيران، مما أدى إلى سقوط عشرات القتلى في صفوفهم وانسحابهم إلى منطقة الثلاثين (30 كلم غرب سرت) إثر تعرضهم لقصف جوي من طائرات بدون طيار داعمة لمليشيا حفتر.
وتمكنت القوات الحكومية من إسقاط طائرتين مسيرتين لتدفع بعدها مليشيا حفتر أو مرتزقة فاغنر الروسية بطائرة “ميغ29” لميدان المعركة، لأول مرة منذ إطلاق حفتر عملية الكرامة في 2014.
ومنطقة صحراوية مثل سرت، وإن عانقت رمالها مياه البحر، لا يحسم المعارك سوى من يتسيد سماء المعركة، فالأرض منبسطة لا يوجد بها جبال شاهقة أو وديان سحيقة يمكن الاحتماء بها من الطيران، وهو ما يفسر هدوء المعارك بها خلال الأيام الأخيرة، وقيام كل طرف بتحشيد قواته استعدادا لمعركة حاسمة.
فلا يمكن للقوات الحكومية السيطرة على سرت قبل تحييد طيران حفتر المسير والمأهول، وهذا لا يتم إلا عبر تنصيب مظلة للصواريخ المضادة للطيران تمتد إلى ما بعد سرت، تسمح للمشاة بالتقدم تحتها، تسبقهم قذائف المدفعية الثقيلة طويلة المدى لتسهيل مهمتهم.
ففي حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، خسرت مصر 250 دبابة في معركة المضائق بسيناء ضد الجيش الإسرائيلي بعد ابتعادها عن مظلة الصواريخ المضادة للطيران.
فالمرحلة المقبلة، ستشهد تنافسا حول من يهيمن على سماء سرت، والذي ينتصر فيها سيحسم المعركة على الأرض.