جذور الصراع الثقافي الحضاري في المنطقة العربية والشرق الأوسط

في مواضع خلت تناولنا بإسهاب غير ممل صراعين : الصراع الأول مزمن في جذوره مستجد في شكله ، وهو صراع التسلح النووي في منطقة الشرق الأوسط ، الذي بدأته إسرائيل ، ولحقت به إيران ، ويخطط العرب وبالذات في الخليج لدخوله . وستستعر نيرانه بعد قليل .
الصراع الثاني مزمن في جذوره وتفاعلاته الفكرية والحركية ، مكبوت في وقائعه ومجرياته ، تفجر ليشعل المنطقة دماراً وخراباً ، ولا يعلم أحد مداه ، ولا مدى تداعياته ، ذلك هو الصراع المذهبي السني الشيعي وما يندرج في ثناياه من فرق وجماعات أخرى متقاتلة .
الصراع الثالث الذي سنخوض فيه في هذه المقالة والثلاثة التالية هو صراع أيضاً متجذر ، ولكنه كان يبرز في شكل تعريجات تخفي معناه الحقيقي وجوهره الأساس ، وهو الصراع بين قوي التغيير التي تفرضها حركة التاريخ الإنساني وتجسدها الثورات العربية ، وبين قوى الجمود والنخلف وتجسدها النظم الاستبدادية الفاسدة ومضادات الثورات ، وسنتتبع جذور الصراع الثقافي الحضاري في المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط على النحو التالي :
أولاً : سيادة وترسخ رباعية الجهل والفقر والتخلف والاستبداد في المنطقة العربية والشرق الأوسط منذ تمزق الدولة الإسلامية المركزية :
تؤكد النتائج المنهجية المترتبة على الدراسة المسحية لتاريخ المنطقة العربية ومنطقة الشرق الإسط بمفهومها المعاصر والتي تتكون في معظمها من دول إسلامية على أن هذه المنطقة تعاني منذ تمزق الدولة الإسلامية المركزية في بغداد على أيدي المغول من تدهور اجتماعي وسياسي لازمها حتى الوقت الراهن ، وهي تحاول التملص منه ولا تزال .
أ : تماثل التطور الاجتماعي في المنطقة :
لقد مرت الأنظمة الاجتماعية في كافة أجزاء الدولة الإسلامية بمراحل وتطورات اجتماعية متماثلة ، قادت جميعها إلى التدهور المستمر في مكونات وتفاعلات تلك الأنظمة ، وهنالك عوامل تقف وراء ذلك التماثل في التطور الاجتماعي منها :
(1) أن النظام الاجتماعي الذي أقره الإسلام وعمل علي نشره وتطبيقه في أجزاء الدولة الإسلامية قد تم علي مستوى مناطق الدولة وأقاليمها في أوقات متقاربة ، ففي خلال قرن من الزمان كانت الدولة الإسلامية قد تحددت بنيتها الجغرافية الأساسية بشكل شبه نهائي، وما أضيف من أجزاء فيما بعد لم يكن له تأثير فعّال علي البنية الأساسية للدولة.
(2) في الفترة من قيام الدولة الإسلامية وحتى انهيار الخلافة العباسية ، تم تشكيل النظام الاجتماعي ، وأرسيت أسس البنى الاجتماعية في كافة أقاليم وأجزاء الدولة ، وكانت هذه الفترة التي بلغت ستة قرون ونصف كافية لإقامة حالة من التماثل في هياكل وتفاعلات ومسارات حركة الأنظمة الاجتماعية في مناطق وأقاليم الدولة.
(3) تماثلت كذلك التطورات التي مرت بها أجزاء الدولة الإسلامية بعد انهيار الخلافة العباسية على أيدي المغول ، وقد تجاوزت بعض الأجزاء الخضوع لتداعيات الانهيار ، ولكن ذلك لم يكن حاسماً في إحداث فروق جوهرية في تطور الأنظمة الاجتماعية.
(4) خضعت كافة أجزاء الدولة الإسلامية تقريباً للسيادة العثمانية ، وقد جاوزت فترة السيادة العثمانية ثلاثة قرون من الزمان ، ساهمت بشكل فعال في ترسيخ حالة التماثل في الأنظمة الاجتماعية بين أجزاء الدولة الإسلامية ، وبصفة خاصة بين العرب والأتراك.
(5) كان التطور الأخير قد تمثل في خضوع كافة أجزاء الدولة الإسلامية للسيطرة الأوربية ، وقد تجاوزت فترة السيطرة الأوربية لبعض الأجزاء قرناً من الزمان ، وكان لها دورها في تشكيل نوع من الوعي الجماعي لدى بعض الطبقات والشرائح تجاه التقليل من شأن الرابطة الإسلامية وتقوية الفكر الجانح نحو الاستقلالية والإقليمية ، وقد وقفت الدول الأوربية قاطبة وراء إنماء هذا الوعي الجماعي إلى أن بات اتجاهاً عاماً لمعظم الشعوب الإسلامية وأنظمتها السياسية ، ويقوى هذا التحليل الموقف الغربي عموماً من فكرة “الجامعة الإسلامية” الذي كان ينظر إليها بفزع !.
ب : إستثناءات غير مخلة بالسياق المنهجي للتحليل :
تجدر الإشارة في هذا السياق إلى وجود بعض الاستثناءات التي اعترضت سبيل الاتجاه العام لوضعية التماثل في تطور الأنظمة الاجتماعية في أجزاء الدولة الإسلامية ، وبالرغم من محدودية تأثير تلك الاستثناءات على الاتجاه العام لوضعية التماثل ، إلا أنه من الأمانة العلمية رصد تلك الاستثناءات ومتابعة آثارها وذلك من خلال الآتي :
(1) الوضع الحضاري والثقافي لبعض أجزاء الدولة قبل الفتح الإسلامي : تمتعت بعض أجزاء الدولة الإسلامية قبل الفتح الإسلامي بوضعية مميزة ، حيث احتكمت تلك الأجزاء علي رصيد لا بأس به من الميراث الحضاري والثقافي ، منحها تفوقاً وريادة على المستوى الإقليمي ، وكذا ميّز أنظمتها السياسية والاجتماعية ، وكان ذلك حال بلاد فارس ومصر بشكل أساسي ، وسوريا وتونس كمستعمرات للإمبراطورية الرومانية بشكل ثانوي.
ولم يكن لهذه الميزات الاستثنائية من تأثير يذكر في الاتجاه العام لوضعية التماثل الاجتماعي بين أجزاء الدولة الإسلامية ، ولكنه بدا في ظروف وتطورات بعينها ، فالميراث الحضاري والثقافي لبلاد فارس تم تطويره وتطويعه والاستفادة منه في أشكال التنظيم التي استخدمهاالمسلمون في إدارة تلك البلاد وحكمها ، وعلى نفس المنوال كان حال سوريا وتونس ، حيث استفاد المسلمون من أشكال التنظيم التي وجدت في هاتين المستعمرتين الرومانيتين السابقتين ، ولم يبد أي تأثير لميزة السبق الحضاري لمصر ، بل أن موقع مصر الاستراتيجي كانت أهميته أعظم للدولة الإسلامية.
(2) الأجزاء التي أتى عليها المغول : أجزاء وأقاليم الدولة الإسلامية التي أتى عليها المغول وتم تدميرها تعرضت اقتصاداتها وأنظمتها الاجتماعية لحالة من التخريب والعبث غير مسبوقة ، ولقد أضّر هؤلاء الهمج بالإسلام والدولة الإسلامية ضرراً بليغاً طال الحضارة والثقافة وحتى الروح المعنوية للمسلمين ، وقد أعاق هذا الغزو كثيراً حركة التطور الاجتماعي في إقليم أفغانستان الذي كان تابعاً لدولة آل خوارزم وكذا أقاليم أخرى ، وقد كان تأثير الغزو المغولي على بغداد وإقليم ما بين النهرين شديداً من الناحيتين الحضارية والثقافية والمعنوية ، ولكنه لم يتطرق بشكل فادح إلى النظام الاجتماعي ، إذ سرعان ما تم إصلاح ما أفسده المغول في بغداد وبلاد الرافدين على عكس بلاد ما وراء النهر، التي ظلت ترزح فترة طويلة تحت تأثير ذلك الغزو المدمر ، وإن كان لا يمكن إيعاز تخلف إقليم أفغانستان اقتصادياً واجتماعياً إلى هذا السبب وحده.
(3) عدم خضوع بعض الأجزاء للسيطرة العثمانية : مناطق محددة هي التي لم تخضع لسيطرة آل عثمان وهي مراكش التي كانت تحت سيطرة الأغالبه ، ولم يترك هذا الاستثناء الذي تمتعت به مراكش دون أجزاء الدولة الإسلامية أي تأثير يخرجها عن الاتجاه العام لوضعية التماثل في تطور الأنظمة الاجتماعية في أجزاء الدولة الإسلامية ، إذ أن حكم البربر الذي بدأ قوياً في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين أخذ في الضعف ، وبالتالي لم يستفد المجتمع المغربي من ميزة عدم الخضوع للدولة العثمانية ، إلا أنه ظل محتفظاً بخصوصية نظامه الاجتماعي الذي لم تعبث به التنظيمات السياسية والإدارية والاقتصادية التركية.
(4) انفراد بعض الأجزاء بفترات تطور وإحداث : انفردت بعض أجزاء الدولة الإسلامية بفترات من التطور والإحداث نتيجة لظروف خاصة ، ومثال ذلك المغرب تحت حكم البربر في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين ، ومركز الدولة الإسلامية في استانبول بعد سيطرة العثمانيين على الدولة الإسلامية ، ومصر في عهد محمد علي ، والمثالان الأول والثالث لم يتركا أثراً فعالاً على النظام الاجتماعي في كل من المغرب ومصر ، نظراً لقصر مدة المحاولتين وضيق أفق القائمين بهما ، أما في المثال الثاني فقد أثّر التطور الذي شهدته تركيا في عهد الإمبراطورية العثمانية على وزنها الإقليمي والعالمي ، وقد وضع بالفعل أسس الدولة التركية الحديثة ، ولكنه لم يخرج بالنظام الاجتماعي التركي على وضعية التماثل التي تربطه ببقية أجزاء الدولة الإسلامية ، حيث انتهى الأمر بتركيا إلى أن تصبح ومعها إيران محميتين أوربيتين منذ منتصف القرن التاسع عشر من الناحية العملية والفعلية.
صفوة القول أن النظام الاجتماعي في أجزاء الدولة الإسلامية قد مر بعدة مراحل وتطورات خلال فترة تفكك وانهيـار هذه الدولة ، وقد ترتب على ذلك سيادة حالة من التدهور والتخلف في النظام الاجتماعي في أجزاء الدولة الإسلامية ، لازمته خلال فترة التفكك والانهيار ، ولا تزال تمثل أهم صفاته وخصائصه في الوقت الراهن ، وينصرف هذا الاستنتاج إلى وضعية التماثل الاجتماعي والنظمي بين شعوب كل القوميات في المنطقة من عربية وفارسية وطورانية وتترية وبربرية .. إلخ .
ثانياً : النظم السياسية المستبدة الفاسدة :
كان للنظم السياسية العربية دورها الجوهري في ما حاق بالمجتمعات العربية من تدهور وفساد صاحبها على مدى قرون وأطبق عليها في العقود الستة الأخيرة ، وبذا تشارك تلك النظم في ترسيخ جذور الاستبداد والفساد في تلك المجتمعات ، ونتناول إسهام النظم العربية في تلك المفسدة والتدهور على النحو التالي :
أ : طبيعة تكوين النظم السياسية العربية :
كان الاستقلال عن السيطرة الأوربية فرصةً سانحةً اهتبلها العناصر ذات الانتماء الإقليمي الانفصالي ، لكي يرسخوا توجهاتهم التي عبّرت عن نظرتهم الذاتية للظروف والأوضاع التي سادت في ذلك الوقت ، وخياراتهم المتاحة لاستثمار تلك الظروف ، والانطلاق منها لتحديد ملامح مستقبل بلادهم التي كافحوا من أجل انتزاعها من السيطرة الأوروبية .
(1) نجاح العناصر غير الإسلامية في تكوين وتشكيل النظم السياسية العربية : بالرغم من اشتراك فصائل ذات انتماءات إسلامية قوية في حركة النضال ضد السيطرة الأوروبية ، إلا أنه لم يقدّر لها السيطرة على نظم الحكم في أيٍ من أجزاء الدولة الإسلامية ، وأسباب ذلك عديدة ومتنوعة ، نأتي على أهمها فيما يليمن بنود وعناصر :
* كانت الفصائل الإسلامية غالباً ما تعمل في سرية سواء في شكل تنظيمات أو خلايا ، ومن ثم فلم يكن يُنظر إليها ، ولا تُعامل على أنها ضمن القوى ذات الثقل والمعترف بها ضمن مفردات العمل السيـاسي الرسمي ، بل كانت النظرة السائدة إليها هي نظرة الشك والريبة .
* كان السائد في كافة الدول العربية أن العناصر المسيطرة على المؤسسة العسكرية هي الأقدر على صنع الأحداث والسيطرة على الأوضاع ، وبالتالي كانت هي أقوى العناصر القادرة على تسلم الحكم بالرغم من خبرتها المحدودة سياسياً .
* كانت القاعدة الشعبية للعناصر غير الإسلامية سواء في حركة الكفاح أو المؤسسة العسكرية أقوى وأكثر تأثيراً ، وقد استثمرت تلك العناصر التأييد الشعبي الجارف لها في تسلم الحكم ، ثم في اختيار التوجهات العقيدية التي تراءت لها ، ثم في تبرير أخطائها فيما بعـد .
* كانت الفصائل التي انخرطت في حركات التحرر ضد السيطرة الأوروبية هي الأوْلى موضوعياً بالحكم ، والأكثر استحوذاً على رضاء وقبول الشعوب ، انطلاقاً من رصيدها الوافر من العطاء والكفاح .
* لقد كان للدول الأوروبية المسيطرة إسهام ملحوظ في ترتيب القوى السياسية في المجتمعات العربية الخاضعة لها ، في سلم أفضليات معين قدّرت بموجبه قوة وثقل كل قوة ، وبالتالي أهميتها في العمل السياسي وجدارتها بتسلم الحكم والسلطة في تلك المجتمعات ، وعلى هذا الأساس بدأت القوى الأوروبية في التفاوض مع تلك القوى ، وتأهيلها لتسلم التركة حين الرحيل ، ولم يكن رصيد الفصائل الإسلامية بأي حال من الأحوال لدى الدول الأوروبية يمكّنها من منافسة القوى الأخرى ، فقد كانت تلك الفصائل مصدر إزعاج للدول الأوروبية على مستوى الحكومات وحتى الشعوب ، فقد ارتبطت تلك الفصائل بإعادة الإسلام إلى سالف عهده حيث القوة والمنعة ، وهذا يسبب للأوروبيين شعوراً بالألم والمرارة .
* كانت المحصلة النهائية لجملة التطورات التي تبلورت سريعاً فور حصول الدول العربية على استقلالها من الدول الأوروبية وربما قبل ذلك بقليل ، هي إقصاء الفصائل ذات التوجه الإسلامي عن الحكم في تلك الدول قدر المستطاع ، وربما التنكيل بها في ما بعد ، ومحاولة استئصال شأفتها في مرحلة لاحقة .
(2) أسباب ضعف واستبعاد العناصر الإسلامية والتوجه الإسلامي من النظم السياسية العربية التي تشكلت بعد الحصول على الاستقلال : ما تقدم كان كفيلاً بأن يستبعد التوجه الإسلامي من الخيارات المطروحة أمام العناصر العسكرية أو المناضلين القدامى لتوجهات أقاليمهم في المستقبل ، إلاّ أنه قد أضيفت متغيرات أخرى ، قللت من شأن التوجه الإسلامي ، وخففت من وزنه في نظر العناصر التي قُدّر لها الوصول إلى الحكم ،ومن تلك المتغيرات يمكننا رصد ما يلي:
* لقد كان التوجه الإسلامي في نظر هؤلاء يمثل قيداً يفرض عليهم العودة إلى الرابطة الإسلامية ، وإحياء أمل الدولة الإسلامية الموحدة بشكل من الأشكال ، في الوقت الذي طربوا بالحصول على الاستقلال ، ولم يكونوا مستعدين لتقييد نظمهم من جديد بقيود وارتباطات جديدة .
* لقد كان السائد في وعي هؤلاء ومداركهم أن الارتباط بالتوجه الإسلامي والدولة الإسلامية الموحدة هو نوع من العودة إلى الماضي الذي اقترن في ذاكرتهم بالتفكك والانهيار، فهو أذن ارتباط غير مجدٍ ، وليس هناك من يتحمس له ، في الوقت الذي يرغبون في استباق الزمن لتحقيق طموحات وآمال شعوبهم في الاستقلال والحرية والتطور !
* لقد أُدخل في روع العناصر الإقليمية التي سيطرت على الحكم في أقاليم الدولة الإسلامية ، أن التوجه الإسلامي يرتبط بالتخلف والارتداد للخلف ، ويعوق حركة التقدم التي تنشدها شعوب تلك الأقاليم ، وقد ساهمت الدول الأوربية بدور فعال في إزكاء هذه الأفكار القاصرة الخبيثة.
* ساند ما تقدم وقوّى من ترسيخه لدى الحكومات الجديدة ، وحتى لدى الشعوب العربية، بما في ذلك صنّاع الرأي فيها ، أن الثقافة الإسلامية المتعلقة بترتيب وتنظيم حركة الإنسان ونشاطه داخل المجتمع من سياسة وإدارة واقتصاد واجتماع وثقافة .. الخ ، كانت في أدنى مستوياتها ، ولم تكن بالفعل ترتقي إلى مستوى الطروحات التي تغري تلك العناصر باحتضانها والتحمس لها وتطبيقها على أرض الواقع.
* لقد كان خلو الساحة الثقافية والعقيدية من الطروحات الإسلامية ذات الشأن والثقل والقابلة عملياً للتطبيق ، كفيلاً بأن تتجه العناصر التي سيطرت على الحكم إلى طروحات أخرى غير إسلامية .
* كما كان تجرد الفصائل الإسلامية من التسلح بطروحات إسلامية عملية قابلة للتطبيق على أرض الواقع ، وتقديمها كبدائل جاهزة للتطبيق هو الآخر كفيلاً بأن يدحض مزاعم هؤلاء في وجود طرح إسلامي قابل للتطبيق وقادر على إخراج تلك البلاد من تخلفها وترديها ، ومكّن للعناصر المسيطرة على الحكم لأن تصف الفصائل الإسلامية “بالدجل” السياسي والرغبة في الحكم ليس إلا .
(3) الظروف التي حددت مسار النظم السياسية العربية بعد الاستقلال : وبدأت العناصر العسكرية بعد وصولها إلى الحكم ، ولربما قبل ذلك في فترة الكفاح ضد الأوربيين في تحديد التوجهات التي ستتبناها في مرحلة ما بعد الاستقلال ، وتأثرت تلك الاختيارات بالظروف التي كانت سائدة في ذلك الوقت ، وهي كما يلي:
* ظروف داخلية : في كافة الدولة العربية سادت جملة من الظروف كان لها أهميتها في التوجهات العقيدية التي سلكتها العناصر التي سيطرت على الحكم في تلك الأقاليم عقب الاستقلال عن السيطرة الأوروبية ،ومن تلك الظروف نذكر ما يلي:
ـ عانت الدول العربية جميعها من حالة من التخلف والفقر ، مثلت ضغطاً شديداً على العناصر التي وصلت إلى الحكم ، جعلها تستعجل برامج وسياسات الإنماء للخروج من تلك الوضعية .
ـ كذلك عايشت دول عديدة من الدول العربية صراعات على الحكم والسلطة بعد الاستقلال ، وكان لتلك الصراعات آثارها على الشعوب والمجتمعات ، حيث شكلت تلك الصراعات عنصر عدم استقرار صاحب الأنظمة السياسية لتلك الدول فترات طويلة ، حتى اشتعلت ثورة الكرامة العربية في أواخر العقد الأول من الألفية الثالثة .
ـ كانت الشعوب العربية تعقد أمالاً وطموحات قوية على حكوماتها الجديدة ، وترى فيها المخرج والمنقذ من حالة التخلف والفقر التي عانت منها أزمنة طويلة .
ـ بزغت في فترة ما قبل الاستقلال ، ثم ازدهرت بعده ، توجهات فكرية قوية تزكي الفكر القومي الإقليمي وتغذيه ، وكان لهذه التوجهات آثارها الحاسمة في التوجهات العقيدية لدى العناصر التي سيطرت على الحكم ، نأت بها عن التوجه الإسلامي ، وحسمت لديها عملية المفاضلة لصالح التوجهات غير الإسلامية .
* ظروف إقليمية : وعلى مستوى منطقة الشرق الأوسط ، تجمعت ظروف كان من شأنها الدفع بالتوجهات الإقليمية قدماً ، وتمثلت أهم تلك الظروف في الآتي:
ـ الانكفاء على الداخل في كل أقاليم الدول العربية ، نتيجة الكفاح من أجل الحصول على الاستقلال من السيطرة الأوروبية ، وهذا الانكفاء زكى النزعة الإقليمية الانفرادية ، وهنا يلاحظ أن المعونات والمساعدات المادية والمعنوية التي قدمت من دولة إلى أخرى في إطار الكفاح من أجـل التحــرر ، قدمت بدعاوى قومية بالأساس ، ونكاية في الدول الأوروبية المسيطرة .
ـ بروز وترسخ النعرات القومية الإقليمية متجسدة في كيانات إقليمية غايتها تعديد الهويات العرقية ، فكانت الدعوة للجامعة العربية لتجمع الدول الناطقة بالعربية ، والتأم كيان الفارسية في إيران ، والتركية في تركيا الحديثة ، وكان الروس قد سيطروا على الجمهوريات الإسلامية، وهكذا تحددت معالم الكيانات القومية الإقليمية .
ـ تزامن مع ما تقدم انحسار الدعوة إلى الرابطة الإسلامية ، التي أثارتها تركيا وعرفت بالجامعة الإسلامية ، وقد حوربت هذه الحركة بعنف وضراوة من الدول الأوروبية شعوباً وحكـومات ، نظراً لما يمكن أن يترتب عليها من تكتل الدول العربية والإسلامية في رابطة أو كتلة ، تفرض نفسها بإمكاناتها ومقدراتها على الواقع الدولي بما فيه من قوى صاعدة قد تضار من جراء صعود هذه الكتلة المنافسة .
* ظروف عالمية : وعلى المستوى العالمي استجدّت مجموعة من العوامل كان لها تأثيرها المباشر في مسارات النظم السياسية العربية ، ومن تلك العوامل ما يلي:
ـ تزامن مع حصول مناطق وأقاليم الدول العربية على استقلالها من السيطرة الأوروبية ، تبلور معالم نظام عالمي جديد قائم على أساس ظاهرة شهيرة في العلاقات الدولية هي ظاهرة القطبية الثنائية ، حيث انقسمت زعامة العالم بين دولتين عملاقين هما الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية ، هذا في الوقت الذي أفل نجم أوروبا في سماء العلاقات الدولية ، وأصبحت قوى من الدرجة الثانية تابعة أيديولوجياً وسياسياً وحتى عسكرياً واقتصادياً للولايات المتحدة الأميركية ، ولم يكن انقسام العالم إلى قطبين مسألة شكلية وفاقية لتوزيع القوة في النظام الدولي ، ولكنه كان انقساماً صراعياً حاداً بين قوتين مختلفتين على طول الخط، كما أن ذلك الانقسام لم يكن بين الدولتين الأعظم فقط ، ولكنه جرّ إلى انقسام العالم خلف الدولتين إلى معسكرين متناحرين ، ودخل العالم فيما عرف “بالحرب الباردة” أو “السلام الساخن” .
ـ كان الانقسام الأيديولوجي العقيدي ، الذي صاحب النظام العالمي الجديد منذ منتصف القرن العشرين ، ورسخته ظاهرة الاستقطاب الثنــائي ، من أهم النتائج التي ترتبت على الحرب العالمية الثانية ، ومن أخطر الصراعات التي شهدها العالم خلال النصف الثاني من القرن المنصرم ، حيث انقسم العالم إلى معسكرين متصارعين سياسياً واقتصادياً وفكرياً ، وانعكست تلك الصراعات على الشعوب بشكل لم يكن دائماً لصالحها.
ـ تبلور المسعى الأيديولوجي الأميركي خلال الحرب الباردة في الدفاع عن الأيديولوجيا الرأسمالية والقيم الغربية ، ونشر الأيديولوجيا الرأسمالية ، وضرب الأيديولوجيا الماركسية ، وعلى الوجه المقابل تبلور المسعى الأيديولوجي السوفياتي في مساندة قوى التحرر الوطني من الاستعمار والسيطرة الغربية ، وتأييد القوى المناوئة للولايات المتحدة والغرب ، وإقامة النظم الاشتراكية ، وضرب الأيديولوجيا الرأسمالية من خلال إثارة الفتن والقلاقل داخل المعسكر الغربي .
ـ انتقل الانقسام الأيديولوجي بين الأعظمين إلى منطقة العـالم العربي ، وقاد ذلك إلى انقسام دول المنطقة إلى فريقين يتبع كل فريق أحد القطبين ، ويعتنق أيديولوجيته ، ويتلقى دعماً معنوياً ومادياً منه ، وتحولت المنطقة العربية إلى ساحة للصراع بين دولها وأنظمتها السياسية والاقتصادية نيابة عن الدولتين الأعظم .
* التوجهات الأيديولوجية في العالم العربي : أفضت الظروف سابقة الإيضاح بمستوياتها الثلاثة الداخلية والإقليمية والدولية إلى توزع دول العالم العربي بين ثلاثة توجهات عقيدية ، بيانها كما يلي :
ـ التوجه الاشتراكي الأكثر شيوعاً : كان التوجه الاشتراكي في منطقة العالم العربي أكثر انتشاراً وقبولاً لدى معظم الدول العربية ، ويقف وراء ذلك عدة أسباب:
السبب الأول : أن التوجه الاشتراكي كان دائماً نتاجاً لإحدى حركات التحرر الوطني ضد السيطرة الأوربية ، وكان على الأنظمة السياسية الجديدة أن تتبنى أيديولوجيات مناهضة للأيديولوجيات الغربية ومغايرة لنهجها في الحياة.
السبب الثاني : كان الاتحاد السوفياتي صاحب الأيديولوجيا الاشتراكية أكثر نشاطاً في منطقة العالم العربي التي يعتبرها مجاله الحيوي ، إلا أن التوجه الاشتراكي لم يحظ بقبول جيرانه ، تركيا وإيران وأفغانستان ، فالعداء السوفياتي التركي معروف والحرب الروسية التركية لم ينساها الأتراك بعد ، والجمهوريات الإسلامية وشبه جزيرة القرم التي انتزعها الروس من الدولة العثمانية في أخريات أيامها توقد جذوة ذلك العداء ، كذلك فالخلاف السوفياتي مع جارتيه إيران وأفغانستان لم ينفض أبداً ومناوشات وخلافات الحدود لم تنقطع .
السبب الثالث : لقد تلقت معظم دول العالم العربي دعماً قوياً من الاتحاد السوفياتي خلال مرحلة النضال ضد السيطرة الأوربية ، كما استمر ذلك الدعم مادياً ومعنوياً بعد الحصول على الاستقلال في بناء اقتصادات تلك الدول على أسس اشتراكية ، إضافة إلى المساندة السوفياتية لتلك الدول في قضاياها الإقليمية والعالمية مثل الصراع العربي الإسرائيلي وغيره من الصراعات السياسية والأيديولوجية .
ـ التوجه الرأسمالي : على العكس من التوجه الاشتراكي ، كان التوجه الرأسمالي أقل انتشاراً وقبولاً لدى دول العالم العربي في فترة خمسينيات القرن العشرين ، وتقف وراء ذلك عدة أسباب:
السبب الأول : أن التوجه الرأسمالي ارتبط دوماً بالسيطرة الأوربية التي عانت منها شعوب العالم الإسلامي ، وكان السوفيات قد نشطوا في نشر الشعور بالخوف والقلق لدى شعوب المنطقة من التوجه الرأسمالي .
السبب الثاني : لقد ارتبط التوجه الرأسمالي بالسياسة الأميركية والغربية عموماً ، الهادفة إلى نشر سلسلة من الأحلاف مثل : معاهدة حلف جنوب شرق أسيا ، أو ما عرف بمعاهدة مانيلا ، وكانت الباكستان عضواً فيها ، وحلف المعاهدة المركزية ، أو حلف بغداد ، وكانت كل من تركيا والباكستان وإيران والعراق أعضاءً فيه ، وقد نظرت بقية دول العالم العربي إلى هذه الأحلاف نظرة شك وريبة واعتبرتها موجهة إليها ، وقد افلح السوفيات في تغذية هذه النظرية وجني ثمارها.
السبب الثالث : لقد وقفت الدول الغربية ، وبالذات بريطانيا وفرنسا ثم الولايات المتحدة موقفاً مؤيداً بشكل دائم لإسرائيل في صراعها مع العرب ، وكان لذلك الموقف أثره البالغ في العداء الذي نشأ بين تلك الدول ودول العالم العربي من جديد ، وبصفة خاصة أن كافة دول العالم العربي تعتبر إسرائيل العدو الأول للعربوللإسلام .
السبب الرابع : لقد أثار العدوان المسلح الذي قامت به كل من بريطانيا وفرنسا ومعهما إسرائيل على مصر عام 1956 م حفيظة العالم العربي ، بل والعالم أجمع ، ورسخ شعوراً بالكراهية للدولتين لدى الدول العربية حتى الموالية للتوجه الرأسمالي .
ـ التوجه الإسلامي :تجربة وحيدة ظلت متمسكة بتوجهها ، وهو التوجه الإسلامي الشكلي ، هي التجربة السعودية ، حيث كان قد تم تأسيس المملكة العربية السعودية وإقامة النظام السياسي الموسوم بالإسلامي على يدي الملك “عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود” ، وشرعت المملكة منذ أربعينيات القرن العشرين في نهضة إنمائية مادية شكلية دون مساس بالواقع والتكوين العقلي والفكري لأفراد المجتمع ، ودون مساس بتكوين النظام السياسي وآليات عمله ، وظل النظام السياسي السعودي نظاماً أبوياً متخلفاً ، يناظر نظم العصور الوسطى.
فالحياة السياسية في السعودية لم يطرأ عليها أي تقدم من العصور الوسطى ، بل أنها أمثل نموذج معاصر للعصور الوسطى ، فالنظام السياسي هو نظام أبوي يشبه نظيره في عصر الإقطاع في أوروبا ، حيث لا مكان ولا مجال للممارسة السياسية من جهة المواطنين ، ولا موضع للتعبير عن الرأي بأي شكل من الأشكال ، ونقد هذا النظام الأبوي أو تقييمه ، هو في عداد الخيانة العظمى .
ثمة مؤسسات سياسية شكلية ، لا يصنعها ولا يشارك فيها الناس ، ولا علاقة لها بمؤسسات صناعة واتخاذ القرارات وفق مبدأ الديمقراطية أو الحكم الرشيد ، أما عن المؤسسات السياسية غير الرسمية مثل جماعات المصالح والضغط والرأي العام والإعلام ومؤسسات المجتمع المدني بمعناها المتعارف عليه ، فلا وجود لها في هذه الدولة التي تمثل التوجه الإسلامي ، ومن ثم فالمجتمع في السعودية يخلو من التفاعلات التي تثريه ، وتجدد نشاطه ، وتدلل على متابعته للأحداث والتطورات .
ب : فساد النظم السياسية العربية وإخفاقها في التهوض بمجتمعاتها :
قبل أن يستشري الفساد في المجتمعات العربية ، كان قد اجتاح الأنظمة السياسية وأتى على كل ما فيها ، وتركها قاعاً صفصفاً لا نفعاً منه ولا جدوى ، ونوضّح ذلك من خلال ما يلي :
(1)التعادي بين الحكومات والشعوب : من الظواهر التي شاعت في الدول العربية بعد الحصول على الاستقلال ، وتركت أثراً سيئاً بمجتمعات تلك الدول ظاهرة التعادي بين الحكومات والشعوب ، حيث تسود حالة من انعدام الثقة والتوجس بين الطرفين ، وتحليل هذه الظاهرة في المجتمعات العربية ، يقتضي التطرق إلي جملة من الإشكالات ذات الطبيعة المركبة السياسية والاجتماعية والنفسية ، ومن هذه الإشكالات نذكر ما يلي:
*إن الأنظمة السياسية في الدول التي تظهر فيها هذه الظاهرة لا تمثل شعوبها تمثيلاً حقيقياً ، ومن ثم تسود حالة من انعدام الثقة المتبادلة بين الأنظمة والشعوب ، تجعل كلاً منهما يظن بالآخر الظنون : فالأنظمة تظن أن الشعب يسعى لإزالتها ، والشعب من جهته يظن أن الحكومة لا تعمل لصالحه .
*كثير من الأنظمة ـ كما سبق الإيضاح ـ ذو خلفيات عسكرية ، ومن ثم فهي تتعامل مع شعوبها بالعنف والشدة ، وتفتقد أساليب ووسائل الحوار واحترام أفراد الشعب ، ما يجعل الأفراد يكنون الكراهية والبغض لكل ما يتعلق بالنظام السياسي.
*سوء استعمال السلطة من قبل أفراد النظام السياسي ، وإمعانهم في الإساءة إلى أفراد الشعب ، يجعل هؤلاء الأفراد يسحبون حكمهم على هؤلاء الأفراد إلى النظام بكامله ، ويضمرون له الحقد الدفين .
*الاعتقاد الخاطئ لدى الأنظمة السياسية بأن المجتمعات والشعوب العربية هي مجتمعات متخلفة ، ولا يصلح في سياستها إلاّ أساليب الشدة والعنف ، وهذا الاعتقاد قاد إلى توسيع الهوة بين الأنظمة والشعوب ، وأوضح كذلك أن تلك الأنظمة لا تحترم آدمية وإنسانية تلك الشعوب .
*إخفاق كثير من الأنظمة السياسية في تحقيق آمال وطموحات الشعوب ، جعل الأخيرة لا تثق في أنظمتها وتتمنى زوالها .
*ظهور حالات من الاستنكار العام والسخط الشعبي احتجاجاً على سياسات الأنظمة وسلوكاتها ، غالباً ما يؤدي إلي ردود أفعال قمعية لدى تلك الأنظمة ، ما يزيد الهوة بينها وبين شعوبها ، ذلك الذي تحول إلى ثورة شعبية عارمة ،تلك كانت ثورة الكرامة العربية .
(2)انتشار الظواهر الغريبة والسلوكات الدخيلة والأفكار المستوردة : عن طريق مصدري التغيير اللذين سبق الحديث عنهما ، غصت المجتمعات العربية بغريب الظواهر ووافد الأفكار ودخيل السلوكات ، فالظواهر الغريبة عمت كافة مناحي الحياة دينية ودنيوية ، ولم تقتصر هذه الظواهر على القادم من خارج الحدود ، بل شملت كذلك ظواهر مرتبطة بالموروثات الحضارية والثقافية للشعوب العربية التي تسبق دخولها الإسلام ، أما الأفكار المستوردة من المجتمعات الغربية ، فقد ساهمت بدور فعّال في إحداث فجوة واسعة بين أبناء المجتمعات العربية وبين القيم والثقافة الإسلامية.
(3)ظهور جرائم غير معهودة في المجتمعات العربية : ألفت المجتمعات العربية في فترات ما بعد الاستقلال أشكالاً من الجرائم لم تعهدها تلك المجتمعات من قبل ، مثل السطو على المال العام ، والاختلاس ، وسرقة أموال الدولة ، والفساد السياسي والإداري ، والرشوة ، والمحاباة ، والنصب والاحتيال .. الخ.
وهذه النوعية من الجرائم والشكل الذي انتشرت به ، وتفشيها داخل النظم السياسية بشكل مروع ، أدى إلى حدوث حالة من فقدان التوازن داخل المجتمعات العربية ، واهتزاز ثقة هذه المجتمعات في ذاتها ، وفي قيمها الإسلامية ، التي انسحبت منزوية في أعماق الناس ، ولا يقدرون على البحث عنها أو استخراجها .
(4)الميل إلى الهروب من الواقع الاجتماعي : لقد أصبح الواقع الاجتماعي في المجتمعات العربية على اختلاف توجهاتها [الفردية والشمولية] عبئاً ثقيلاً ، ناء بحمله أفراد تلك المجتمعات ، ما ألجأها إلىالهروب من ذلك الواقع بشتى الطرق والوسائل ، وكان أهم تلك الوسائل : المخدرات ووسائل تغييب العقل وإبطال مفعول الحس ، والسفر والهجرة ، وكانت عواقب ذلك وخيمة ومؤلمة.
(5)البطالة وإهدار مقدرات العنصر البشرى : يدرك الجميع أن أهم مجالات الاستثمار وأجداها وأطولها نفعاً هو الاستثمار في العنصر البشرى ، فلا إنماءً ولا إحداثاً حقيقياً إلا بإنماء وإحداث العنصر البشرى ، فالإنسان هو هدف الإنماء وهو في ذات الوقت وسيلة الإنماء الناجعة ، ولم تعر النظم السياسية العربية هذه المسلّمة أدنى اهتمام ، بل أهدرت عن عمد مرة وعن إخفاق وفشل ذريع مرات تلك المقدرات ، بل صورتها في كثير من الأحيان على أنها عبء ثقيل ، والسبب المباشر وراء ذلك أن تلك الأنظمة ، ومن خلال مرئياتها القاصرة ، لم تملك من سعة الأفق واتساع المدارك ، ما يمكّنها من صياغة الخطط والسياسات التي تمكنها من استغلال مقدرات العنصر البشرى ، وتحويل تلك الطاقات المهدرة إلى قوة فعاّلة تمثل أهم وسائل وأدوات الإنماء والإحداث في كافة المجالات.
وكانت المحصلة النهائية لتخبط وإخفاق الأنظمة السياسية في احتواء مقدرات وطاقات العنصر البشرى ، هي تحوّل تلك المقدرات إلى معول هدم وقوة ضاغطة ، بل خانقة تضغط على تلك النظم ، فتفقدها وعيها وصوابها ، وتزيد من تخبطها وتُراكم من إخفاقاتها ، وتنتشر في تلك المجتمعات البطالة بنسب تفوق أي تصور ، وتشير أكثر الإحصاءات تفاؤلاً إلى أن غول البطالة المهلك ، ينتشر بين أهم أعمار الحيوية والعطاء ، فيما بين اثنين وعشرين وسبعة وثلاثين عاماً ، وشرعت تلك الظاهرة المدمرة تفرز آثارها التي بدأت في الإتيان على الأخضـر واليابس ، إلى أن أشعل هؤلاء العاطلين المعطلين أنفسهم ، وأشعلوا معها ثورات هي الأعنف في الألفية الثالثة ، هي ثورة الكرامة العربية .
لقد بذلت كثير من الأنظمة السياسية في الدول العربية ذات التوجه الفردي جهوداً مضنية فكرية وعملية ، مستهدفة إقناع نفسها والآخرين بضرورة تقليص دور الدولة في الحياة والمجتمع، وإطلاق العنان للقطاع الخاص ، الذي تركت له الحبل على الغارب ، ليتصرف وفق مصالحه ، فتحول إلى مارد أخذ أكثر مما أعطى ، وأفسد أكثر مما أصلح ، وانسحبت الدولة من معترك الحياة ، وتنصلت من مسئولياتها في الإنماء والإحداث ، وصياغة الخطط الشاملة الطموحة والواقعية متوسطة وطويلة الأمد ، التي تمكّنها من استيعاب العنصر البشرى ، وتحويله إلى طاقة خلاّقة مبدعة ، إن الدولة وفق المنطق السابق ، لم يقدّر لها الفهم الدقيق لعلاقة التوافق أو الاعتماد المتبادل ، بين دورها الذي لا ينبغي أن ينتهي أو يتقلص ، والقطاع الخاص الذي يجب أن يتشكل بمعايير دقيقة ، تحقق مصالح المجتمع والمردود الاجتماعي قبل مصالحه.
(6)التمرد والميل إلى العنف : كثرت في المجتمعات العربية حركات التمرد الاجتماعي ، وشاعت ظاهرة الميل إلى العنف وجنوح الأحداث وانحرافات الشباب ، والتمرد الاجتماعي يقصد به تعمد الخروج على أصيل التقاليد وثابت القيم وقويم العادات ، وبصفة خاصة بين الشباب ذكوراً وإناثاً ، والتقى ذلك التمرد مع ميل إلى العنف واستخفاف بكل ذى قيمة أصيل ، ونعته بالتخلف والتَفَه ، وضمن عوامل كثيرة برزت منها ثلاثة كان لها الدور الأهم في تفشى هذه الظواهر:
*انعدام قدرة النظم السياسية وحكوماتها على تفعيل دورها في المجتمع ، من خلال البحث عن دور يدرك معه الشباب أن هناك من يبحث عنهم ويهتم بهم ، وانطلاقاً من انعدام تلك القدرة وضياع ذلك الدور ، أيقن الشباب بعدم جدوى الحكومات ، وتسرب إليهم اليأس في الصلاح والإصلاح ، وأمعنوا في الخروج على القانون والنظام .
*البطالة وإهدار مقدرات العنصر البشرى قوّت من ساعد العامل المتقدم ، ووسعت الهوة بين شرائح الشباب وبين الأنظمة السياسية ، وبات من الصعب البحث عن لغة للتفاهم بين الطرفين في أجواء معبقة بانعدام الثقة والتوجس .
*انتشار الأفكار والسلوكات الدخيلة زادت الطين بلة ، حيث بدت المجتمعات العربية صدى لغريب الأفكار ومستهجن السلوك ، اعتملت هذه العوامل مع كثير غيرها ، وأفرزت ظاهرة التمرد والميل إلى العنف التي انتشرت في كثير من المجتمعات العربية .
(7)ظهور حركات الإرهاب والتخريب ذات الشكل الديني : كذلك برزت إحدى أهم الظواهر الاجتماعية في المجتمعات العربية ، وهي ظاهرة الإرهاب والتخريب باسم الدين وتحت شعاره ، وهذه الظاهرة لا تدرس أو تحلل إلا في هذا السياق ، الذي أدرجناها فيه كمفردة من مفردات المجتمع العربي في هذه المرحلة الخطيرة والحساسة، حيث تفاعلت هذه المفردة مع غيرها من المفردات ، وتضافرت من أجل تشويه المجتمع العربي ، ووصمه بالسمات والخصائص التي جاهد الآخرون منذ قرون من أجل وصمه بها نكاية وتنكيلاً.
إن ظهور حركات التخريب والإرهاب ذات الشكل الديني ، هي نتاج لتراكم ضخم ، وتفاعل طويل ، لمزيج مركب من التداعيات داخل المجتمعات العربية ، أساسه وجوهره التخلي عن الطروحات المستنبطة مباشرة من الإطار المرجعي النهائي للإسلام ، وهو الشريعة الإسلامية ونماذج الممارسة العملية في دولة الرسول والخلفاء الراشدين .
ولعل استقراءً ممحصاً للتاريخ العربي كفيل بأن يبرز هذه الحقيقة بشكل لا مراء فيه ، فعلى مدى هذا التاريخ لم تنتشر هذه الحركات ، ولم تنم وتفرز آثارها ، إلا عندما يبتعد العرب عن إطارهم المرجعي ، وكلما اتسعت الهوة ، سنحت الفرصة لظهور تلك الحركات ، فهي تعمل دائماً على شغل ذلك الفراغ ، وتقديم نفسها كبديل ، وحلقة وصل تربط المسلمين بمرجعيتهم ، إلا أنها غالباً ما تسيء القيام بدور الوسيط ، فتُدخِل البدع والضلالات ، وتسير بالمسلمين الذين يتبعونها في طريق الغواية ، فكل من قام بدور الوسيط وقدّم نفسه كبديل ، لقيادة المسلمين وإعادتهم إلى مرجعيتهم ، لم يكن على علم وفهم بأمور الدين والدنيا معاً ، يمكّنه من القيام بذلك الدور ، ومن ثم أساء للإسلام وطوّر ذلك الدور لاكتساب الأمجاد الشخصية والمآرب الذاتيـة .
وإذا قصرنا التحليل في هذا الموضع على حركات التخريب والإرهاب في المجتمعات العربية في الوقت الراهن ، فسوف ندفع بجملة من الظواهر والتداعيات والمتغيرات ، تجمعت في خليط مركب ، وأفرزت ثم ساعدت تلك الحركات على أن تترعرع ويشتد عودها ، وتثمر ما لا يسمن ولا يغنى من جوع ! ، وتوضيح ذلك من خلال الآتي:
*لقد تعمّق واشتد جهل كثير من الأنظمة السياسية في الدول العربية بالدين وطروحاته من أجل تنظيم الحياة وترتيب شئون المجتمع ، وترتب على ذلك الجهل تجاهل مقصود أو غير مقصود لاستدعاء تلك الطروحات وتمكينها من القيام بدورها ، وكان ذلك حرياً بأن يرسم صورة غير سوية لهذه الأنظمة في عقول ووجدان شعوبها ، استثمرت فيما بعد لغير مصلحة الجميع .
*اختفاء “ثلة الراسخين في العلم” موضع ثقة الأمة وضميرها الذي لا يغفـو ، الذين يقع على كاهلهم تبعة تقديم الطرح الإسلامي في كافة شئون ونواحي الحياة ، وإقران ذلك بآليات وأدوات وضعه على أرض الواقع .
*ما تقدم أفسح المجال لظهور فئة من “أنصاف المتعلمين” ، الذين نصبّوا أنفسهم علماء وفقهاء يصدرون الفتاوى والأحكام ، ويستمرؤون الكذب على الله وعلى الناس ، واستغل هؤلاء جهل العامة وانتشار الظواهر الاجتماعية التي سبق الحديث عنها وبصفة خاصة البطالة بين الشباب في استقطاب أعداد كبيرة ، كذلك استثمروا الطبيعة الخاصة للمجتمعات العربية المتمثلة في الميل الطبيعي إلى التدين ، واحترام وتقديس كل ما يحمل شعار الدين، ومناصرة المتحدثين باسمه .
*تزامن مع ذلك عدم رضا طبقات وشرائح مهمة في المجتمعات العربية عن نظمها السياسية وحكوماتها ، ما جعلها تهتبل الفرصة للكيد لها ، بتشجيع تلك الحركات ومناصرتها ، حتى دون أن تدرك حقيقة هويتها أو توجهاتها .
*استغلت قيادات تلك الحركات متغيرات وظروفاً إقليمية ودولية معينة ، لإلهاب حماس الناس ، وتأجيج مشاعرهم ضد قوى دولية بعينها ، ما زاد من أعداد أتباعهم ومناصريهم ، وبالفعل افلحوا في إيقاد جذوة الحقد والعداء لدى المجتمعات العربية تجاه دول مثل الاتحاد السوفياتي ثم الولايات المتحدة ، وكان رد فعل تلك القوى الدولية وبالذات الولايات المتحدة ، استنفار كل القوى للإساءة إلى الإسلام فكراً وسلوكاً ، شعوباً وحكومات ، وتبارى ذوو الحقد الدفين والفكر المعتل المنكوس من المفكرين والساسة في إلصاق التهم بالإسلام .
*أشاع قادة حركات التخريب والإرهاب لدى أبناء المجتمعات العربية ما يفيد أن الدين أداة للتغيير ولو بالوسائل العنيفة ، وأن الإرهاب أداة لتخويف أعداء الإسلام وردعهم ، فأصابوا الإسلام في مقتل ، وارتبط الدين بالعنف واتصف الإسلام بالإرهاب ، وثقلت تبعات ذوى الفكر الرشيد من أبناء الإسلام ، إذ أصبح لزاماً عليهم أن يفكوا الارتباط بين الدين والعنف ويزيلوا وصمة الإسلام بالإرهاب .
*كانت النظم السياسية ذات التوجهات الفردية أكثر مواءمة لانتشار هذه الحركات من النظم ذات التوجهات الشمولية ، لوجود نوع من التماس الفكري المحدود بين توجهات وأفكار هذه الحركات وطبيعة المجتمع ذي التوجه الفردي ، التي تعطى قدراً من الاعتبار لحرية المعتقد والتعبير عن الرأي ، عكس المجتمعات ذات التوجهات الشمولية ، التي لا تعطى أي فرصة للتعيير عن الرأي ، ناهيك عن العداء التقليدي بين الأفكار الشمولية [الاشتراكية] والدين عموماً والإسلام خصوصاً .