حديث عن المنصف المرزوقي العظيم “ونعتذر للآخرين”
عندما كان رمضان في صائفة 2016، شارك المنصف المرزوقي في قافلة بحرية لرفع الحصار عن غزّة بمعية مجموعة من الشخصيات العالمية المعروفة من صحافيين وسياسيين، أذكر من بينهم الصحافي أحمد منصور ومراسل الجزيرة محمد البقالي، وقد كان من بينهم رئيس سابق واحد هو المنصف المرزوقي، وتسببت هذه القافلة في محاولة طائرَتَي “أپاتشي” إسرائيليتين الهجوم على السفينة والإجهاز على من فيها، لولا تدخلات عالية المستوى لدى القيادة العليا لجيش الاحتلال.
حينها ابتدر إلى ذهني سؤال يتيم، ما الذي زجّ بالرجل في مثل هذه المخاطر؟ رجل برتبة رئيس سابق يتقاضى 30 ألف دينار. (أو دونها) شهريا ويركب مثل هذه الصِّعَاب؟! حينها طبعا كتبت فيه تدوينة من قبيل “بماذا أهجوك وأقبحُ الهجاء فيك مديح”..
المنصف المرزوقي
المنصف المرزوقي (وهو ما لا يعرفه بِساط الحال/ الآخرون) كان الرئيس الوحيد الذي قبل العمل كطبيب أعصاب. جراح مخّ (neurologue) في المناطق الداخلية، يوم أن عَزَفَ زملاؤه أبناء ناناتي والأحياء المخملية عن ذلك، وكان يقسم الأسبوع بين التدريس في كلية الطب وبين التطبيب في إحدى قرى الـ3000 سنة حضارة!
اختارته منظمة دولية كالشخصية الأكثر ثقافة وتأثيرا في العالم من ضمن عشرين معه، واستدعته منظمات حقوقية كبرى لإلقاء خطابات. في مجالات الحقوق والحريات، وكان يلقيها بالعربية أولا (كشرط منه اعتزازا بهويته) ثم يعيد نظيرها بالفرنسية والانڤليزية اللتان كان يتقنهما كما نتقن نحن شرب الماء!
سنة 1994 وبعد حملة المجرم الدكتاتور بن علي على الإسلاميين ومن ثمّة باقي الخصوم، وبعد تحييده للجو العام وحرمانه للتونسيين. من الترشح والإنتخاب، اجترأ المنصف المرزوقي على تحديّه وتحدي آلته القمعية وأعلن ترشّحه للانتخابات الرئاسية ليجد نفسه مرميا في سيلون بسبب الإعتداء على الذات النوفمبريّة العلياء، ثم بعد ذلك خرج بوساطة من عميد السجناء في العالم “نيلسون مونديلا”، الذي التمس له عفوا لدى صانع جريمة السابع من نوفمبر.
كان المرزوقي إذا دعته منظمة دولية للإدلاء بدلوه عندما كان رئيسا، يترك طائرة الرئاسة ويقتطع تذكرةً على حسابه. ذلك أن الدعوة جاءته بوصفه المفكّر لا الرئيس.
اقرأ أيضاً: تونس.. قيس سعيد ينتقم من منصف المرزوقي بعدما فضح انقلابه أمام العالم
لم يسجن المرزوقي صحافيا أو مفكرا أو كاتبا واحدا، ولم يصادر رأيا واحد، حتى تلك التي نالت من عرضه!!
وكم من مثال أعطاه الرجل كتدليل على بساطته عندما كان يبكي ويتأثر مع كل جنازة من جنائز جنودنا وهو يرفع نعوشهم. على كتفيه. ويدفنهم بمعوله ودموعه سكابا، وكان يقتطع 27 ألف دينار من مكافئته الشهرية (شهريا) لفائدة عائلات شهداء الثورة وجرحاها. واكتفى بـ3 آلاف دينار فقط (مأبون من الآخرين ما يعملهاش، والمأبون مصطلح موجود في المعجم الوسيط وهو وصف وليس قباحة)..
ألّف المنصف المرزوقي 27 مؤلفا بمختلف اللغات في التنظير السياسي والفلسفة السياسية والفكرية وكيف تدار الدول مع رعاية حقوق الشعوب وحرياتهم.
شعراء بلا حدود
وآخر مؤلفاته حسب ما جادت به عليّ ثنايا الذاكرة كتاب إسمه “شعراء بلا حدود” أهدانيه مستشاره السابق في الرئاسة أخي وصديقي. وليد بن عمران، وأتذكّر أنني كنت كالقزم الذاهل أمام ديناصور إسمه المنصف المرزوقي، حيث أنني لم أقرأ لكاتب تونسي يمتلك تلك الملَكة في استعمال اللغة العربية الجاهلية بكل ذلك الإتقان..
واليوم، ربما، يرتكب المرزوقي خطأً بعد عديد الأخطاء التي تواتر ارتكابها، مثل أي رئيس في العالم (ولكم في ماكرون أسوةٌ مهزَلة)، ومن لا يعمل لا يخطأ.. ارتكب خطأً ليجد نفسه أمام سيل هادر من الشتيمة والشماتة والشتائم من داصّة دهصاء لا تعرف. من تاريخ الرجل مقدار خردل، وقد قست قلوبها عليه فقط منذ البداية لأنه تحالف مع الإسلاميين ذات تيه أعذُرُه عليه شخصيا، حيث أن رؤيته كرجل علماني متناغم مع نفسه أفضت إلى أنه لا سبيل لتقدم البلاد بغير تحالف بين علمانييها واسلامييها. إسلاميوها الذين دافع عنهم عندما كان منفيا في فرنسا ثمّ أخذتهم بعد ذلك العزة بالإثم فشتموه لأنه انتقدهم.. ولا غِروَ في معدن الرجل وهو يواصل إلى اليوم بنفس الوتيرة وقد تحدى ملوك السعودية ومُلّاكَها بوضع صور المعتقلين في سجونهم من المشايخ كصورة كوفارتور..
سيدي الرئيس:
لا يُحزنك قولهم، فهذا زمن يطلّ فيه الضغث بقرنيه على رأي الدكتور علي فريد.. ولا غرابة في أن يجتمع سِفلَةُ القوم وأراذلهم على رجل بقامتك ومقامك، يأكلون من لحمه ويقتاتون من سمعته بكليشيهات من قبيل الفول والحمص والويسكي، إن هي إلا أسماء سمّوها هم وآباؤهم..
وأقولها ختاما ولا أمضي، من مجامع قلبي، شكرا سيدي الرئيس على وفائك لمبادئك وبلادك وشعبك. وعلى إخلاصك لكل شعوب العالم.. وفي النهاية كلّنا سائر إلى ربّه.. واحد إلى منيّته.. وآخر إلى مُناه..