حين تتوفر الإرادة السياسية القوية والتخطيط الحكيم، تكون النتيجة أن دولة صغيرة في المنطقة مثل قطر، قادرة على أن تغدو بمثابة قلعة مركزية قوية في محيط مضطرب ومرتبك ولا يعرف كيف يدير علاقته بالعالم. صحيح أن قطر ليست الدولة العربية والخليجية الوحيدة التي تتمتع بعلاقات جيدة مع القوى الكبرى في العالم، أمريكا وغيرها..لكنها مختلفة عن الجميع، وهذا ليس كلاما إطلاقيًا دونما علة واضحة، بل سأقول تباعًا، لماذا هي مختلفة..؟
مبدئيًا، يمكن الجزم وبشكل حاسم أن قطر هي الدولة العربية والخليجية وربما الإسلامية التي تتمتع بعلاقات استثنائية مع القوة الكبرى الأولى في العالم، أمريكا. وما دعوة الكونغرس الأمريكي لإدراج قطر في قانون تفويض الدفاع الوطني للسنة المالية 2022، إلا دليلًا إضافيًا، وشاهد أخير أن قطر لم تعد تلك الدولة العادية، مثلها مثل دول كثيرة تقيم علاقات جيدة مع أمريكا، بل هي نموذج مختلف ومتميز، من جوانب كثيرة.
لعل ما يميز قطر ليس امتلاكها لعلاقة قوية مع أمريكا فحسب، بل طبيعة تلك الشراكة ونوعيتها، وبلغة أكثر دقة، يمكن القول إن قطر هي الدولة الوحيدة التي قدمت نموذجًا لشراكة فاعلة مع أمريكا مع احتفاظ كامل باستقلاليتها ومواقفها الحرة من قضايا المنطقة دون ارتهان كامل للحليف القوي.
من قبل أن تقدم قطر هذا النموذج المتميز والفاعل في علاقتها بالقوة العظمى في العالم، كانت الأنظمة العربية، تتصرف بمنطق اذعاني فيه نوع من الدونية، وكأن الحصول على ثقة أمريكا يستلزم تلك الصيغة من الاستلاب السيادي الكامل. جاءت قطر وقلبت المعادلة وصارت الشريك الأول لأمريكا بالمنطقة دون أن تحني السيادة جبتهتها، بل زادت رسوخًا وثقة.
الحدث الأخير الذي تم بموجبه رفع مستوى الشراكة القطرية مع أمريكا، هو مستوى لم تبلغه شراكة أي حليف عربي أو خليجي في علاقته بالقوة الكبرى بالكوكب، وللمتابع هنا أن يتساءل، لماذا قطر بالتحديد..؟ لماذا لم تفعل أمريكا هذه الخطوة مع أي دولة خليجية أخرى، وهي دول_أي بقية دول الخليج_ذات علاقات جيدة بأمريكا، وبعضها أكثر وزنا من قطر في عناصر تكوين الدول.
الجواب: أمريكا دولة ذكية، لا تقيم خططها الاستراتيجية، بناءً على ما تقدمه لها الدول من ولاء مطلق ومشبوه أحيانا، بل اعتمادًا على تقييمها لمدى جسارة وثقة هذا الحليف، والصيغة التي يقدمها في تحالفه معها. أي أن أمريكا تدرك طبيعة التصور المتوازن والفاعل الذي تقدمه لها قطر في سبيل شراكتها معها. وتثق بأنه تصورا يتمتع بديمومة ويقوم على مستوى من الاعتداد بالذات مع الكفاءة بالالتزام بما يعد به، دونما مبالغة في الخضوع ولا شك في القدرة على تأدية متطلبات الشراكة.
ولعل دور قطر الأخير، فيما يخص الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، ورعايتها لمفاوضات الإنسحاب وتحركها الفاعل في اجلاء رعايا بالآلاف وبكفاءة عالية، وكل ما قدمته فيما يتعلق بهذا الحدث، كان شهادة كفاءة لقطر، أسهمت في تخفيف مزالق كثيرة من واقعة الإنسحاب والارتباكات التي رافقتها. وربما لولا قطر لكانت ورطة “بايدن” في إدارة الإنسحاب، أكبر مما يتوقعها أحد.
في كل علاقات أمريكا مع دول المنطقة، تبدل الدول المتحالفة مع أمريكا أكثر احتياجًا لها من حاجة أمريكا لتلك الدول، فيما عدا قطر، وصلت طبيعة العلاقة بينهما، لدرجة إحساس أمريكا أن وجودها وصورتها كقوة عظمى، ستهتز كثيرا، فيما لو لم يكن لديها حليف فعال ونوعي يسعفها لتلافي أخطاء كثيرة أو لنقل حليف تحتاجه بمستوى حاجته لها وبما يجعل العلاقة تتأسس على قاعدة ” الندية المتكافئة معنويًا” وليست علاقة تبعية واستجداء، مع التنبيه لطبيعة الفوارق في القوة بين الطرفين، وهذا بديهي، في علاقة أمريكا مع أي دولة بالعالم، لكن ما يهمنا هنا، هو هذا التماثل المعنوي، والإحساس المتبادل لدى الطرفين أن تحالفهما، يقوم على حاجة مشتركة، وليس تابع ومتبوع، كعلاقة بقية حلفاء أمريكا بالمنطقة.
هناك نقطة مهمة تفسر طبيعة الشراكة المتميزة لقطر مع أمريكا وهو أن ما تقدمه قطر لأمريكا، ليس مجرد أدوار عادية يمكن لأي حليف أخر أن يحل محل قطر في تأديتها، بل أدوارا استثنائية بالمفهوم الإيجابي، ونوعية تلك الأدوار، يعود لأوراق القوة لدى قطر والمتمثل في علاقاتها وحضورها المركزي في قضايا كثيرة مهمة ومتشابكة. ولعل ما أشرنا له مسبقا، من دورها في الملف الأفغاني، مثالا لهذا. فقطر تنتهج استراتيجية كاملة في تأسيس علاقات نوعية مع كل الجهات والأطراف والقضايا الساخنة بالمنطقة وتشتغل لتعزيز حضورها في كل مكان وبما يجعلها قادرة بأي لحظة أن تكون الطرف المركزي في رعاية أي توافق وحوار وتقارب في أي قضية مهمة بالمنطقة تحظى باهتمام غربي. والأمثلة كثيرة.
وساطاتها في قضية الحرب اللبنانية، علاقتها المتوازنة مع الأطراف اليمنية_لولا ارتهان بعض أطراف الصراع لدول متناحرة بالمنطقة وبما جمد الدور الممكن لقطر كي تنجح بتفعيل دورها_ تواصلاتها مع فصائل المقاومة بغزة، وعلاقاتها الجيدة في دول أفريقية وأسيوية وشرق اوسطية كثيرة، كل تلك الأدوار المهمة والحضور المتواتر والاشتغال لتعزيز نفوذها مع أغلب الجهات الفاعلة بالمنطقة، يجعلها أكثر دولة قادرة على أن تؤدي دورا محوريا في حلحلة كثير من الملفات الشائكة في هذه البقعة الملتهبة من العالم. ويضاعف من ثقة العالم بها
وهنا، يمكن قول فكرة إضافية، حيث الحليف الدولي يتابع حيوية حلفاءه، وطريقتهم في إدارة علاقاتهم بالمحيط وتنمية نفوذهم وأوراق قوتهم، ومن بين كل حلفاء المجتمع الدولي، وأمريكا تحديدا، يقع الخيار على قطر، ليس لكونها الحليف الوحيد كما أسلفنا، بل لكونها الحليف الذكي، الطرف الذي يراه العالم متميزا في إدارة سياساته بعقلانية وتوازن وحكمة وفي مختلف التقلبات. حتى في أكثر القضايا تهديدا لقطر، متمثلة بالأزمة الخليجية، ظلت قطر تتحرك بهدوء ولم تنزلق نحو ردات فعل غوغائية ومتشنجة وهو ما رفع من ثقة القوى الدولية بكفاءة هذه الدولة وامتلاكها لعقل تخطيطي منضبط ويخضع لموجه مؤسسي وليس رهينة للأمزجة والأهواء الشخصية والمنفلتة كما يبدو عليه الحال لدى بقية دول الخليج والمنطقة_باستثناء الكويت_حيث يمكن القول أنها تشترك مع قطر في انضباط مواقفها مع فارق الفاعلية والحضور بين الدولتين.
أخيرًا: لعل الدرس المركزي الذي تقدمه قطر في سياستها بإدارة تحالفات فاعلة ومتميزة مع القوى الدولية، هو أنها دولة تجيد توظيف مفهوم” القوة الناعمة” لتعزيز حضورها الدولي وبأقصى تجليات القوة الناعمة وكفاءة هذا النوع من الدبلوماسية، قليلة الكلفة وعظيمة الأثر، فالأمر لا يتعلق بالمال ولا الإعلام ولا الوزن التقليدي للدولة ومساحتها وسكانها، بل الإدارة الذكية للعلاقات والعمل الممنهج على كافة المستويات ومراكمة أدوات القوة والنفوذ والحضور والنجاج في قراءة طبيعة العقل الغربي ونقاط قوته وضعفه ومداخله ومخارجه وبما يمكنك كدولة أن تنتزع من حليفك مكانة متقدمة بل وتدفعه للحرص على علاقته بك، بدلا من أن تظل أنت الذي تقدم التنازلات تلو التنازلات؛ كي تضمن ديمومة علاقتك به. قطر قلبت المعادلة، وجعلت أمريكا بنفسها، تبادر، لرفع مستوى شراكتها معها، وهذا درس في السياسة الذكية بل ومدرسة من المدارس السياسية في المنطقة، وربما يجدر بالعرب عمومًا والخليج تحديدًا، أن يتوقفوا طويلا لدراسة النموذج الذي تقدمه قطر في دبلوماسيتها وتكتيكاتها ونهجها في كيفية التشبيك الرفيع مع العالم.
(*أنيس منصور – رئيس مركز هنا عدن للدراسات الاستراتيجية)