اغتيال الملك فيصل: خيوط الجريمة (١)
وطن- في عام ١٩٥١ تجمهر الباريسيون حول “ينبوع الأبرياء”- نافورة باريس الشهيرة، مشدوهين من مشهد غريب، شاب عار من ملابسه تماما ويلوح بسيفه وهو ويرقص تحت النافورة، وحوله مرافقوه، بلباس غريب عليهم، يحاولون ستره وثنيه عن ما يفعل، كان كأحد فرسان المعبد القدماء الذين ادعوا الجنون ليهربوا من تهمة الهرطقة، أو كأحد الهاربين من سراديب الموتى في باريس، ولم يتوقف الا بعد أن احاطت به الشرطة الفرنسية وقبضت عليه، ليتبين أن هذا الشاب هو ابن الملك عبدالعزيز آل سعود، ملك السعودية، تلك البلاد التي ينبع منها النفط الذي شربت منه فرنسا والحلفاء حتى الثمالة، فسلموه لوالده.
كان هذا الامير هو مساعد بن عبدالعزيز ، والذي لم يتسامح معه والده، خاصة بعد أن أصبحت فضيحته عنوانا لصحافة فرنسا، فسجنه لفترة ليست بالقصيرة، ثم منعه من السفر، مما أحدث خلافا شنيعا ما بين الولد والوالد، لينضم إلى الأمراء المغضوب عليهم وما اكثرهم.
وفي عام ١٩٦٥ استطاع مشايخ من الوهابيين، تجنيد ابن هذا الأمير الراقص وهو خالد بن مساعد، ليعمل معهم على إيقاف انشاء محطة التلفاز التي كانت في طور الانشاء في السعودية، وكان لا يقل هذا الأمير كراهية لهذه الاسرة عن والده، أو ربما انتقلت اليه بالوراثة، والتي لم تخلو من جينات هذه الاسرة ككل منذ ان ولدت.
ارسل الأمير فهد وزير الداخلية آنذاك فرقة خاصة بقيادة محمد هلال المطيري لاعتقاله من منزله- ويقال انه أمر بالتخلص منه، وبعد تبادل النار مع المطيري، تم قتل الأمير خالد بن مساعد.
طالب الامير مساعد بمحاكمة قاتل ابنه، لكن الأمير فهد رفض رفضا قاطعه بحجة أن رجل الأمن كان يؤدي واجبه، فأوصل الأمر للملك فيصل والذي لم يستطع أن يفعل له شيئا، فكل امير حر في “مملكته” هذا ما تعاقد عليه القوم منذ إزاحة الملك سعود.
دفع له الملك فيصل دية ليست بالهينة، كما دفع له مبلغا مكنه من شراء قصر له في لبنان.
في ٢٥ آذار ١٩٧٥ استطاع ابن آخر للأمير الراقص “مساعد” ويدعى فيصل بن مساعد بن عبدالعزيز أن يدخل الديوان الملكي في الرياض الساعة العاشرة صباحا، حيث كان من المقرر أن يستقبل الملك فيصل وزير النفط الكويتي عبد المطلب الكاظمي، دخل الأمير القاتل بسلاحه ودون تفتيش من الحراس وبكل ثقة، وجلس مع الوزير الكويتي والذي كان يعرفه، وعندما هم الضيف الكويتي للسير نحو الملك فيصل، تبعه الامير القاتل فيصل واطلق على عمه الملك فيصل ثلاث رصاصات ادت لقتله فيما بعد.
كم رهيب من الروايات المتناقصة، والتسرع في بث روايات ساذجة، بل ان الرواة تغيرت رواياتهم من يوم لآخر، بل من ساعات لساعات اخرى، اربع بيانات صدرت رسميا في اليوم الأول، حتى ان وكالة الأنباء “رويتر” بثت في الساعات الاولى بأنه قد تم مقتل الأمير القاتل بناء على تصريح من احد كبار الأسرة، ناهيك عن تكتم شديد في كثير من الأحداث، ليستمر التكتم على حادثة الاغتيال حتى يومنا هذا، وكأن من تم قتله “نملة”، وليس أحد أهم ملوك السعودية في تاريخها كله.
ورد في الساعات الأولى من أن الأمير مختل الشعور، وهو ما تم نفيه لاحقا، كما ورد أن الأمير قام ما قام به “منفردا”، وقبل التحقيق معه، ولعمري هذا ما يبعث المزيد من الريبة والشك، وكأن الجريمة كان ينقصها غموضا.
كما تم إهمال إسعاف الملك فيصل، والذي بقى ممددا ينزف دمه لفترة ليست بالقصيرة، كما يؤكد وزير النفط الكويتي عبد المطلب الكاظمي، ولم تجر له حتى عملية إسعافات أولية في الفترة التي بقى فيها الملك ممددا على الأرض.
زكي يماني وزير النفط السعودي وحده، تغيرت روايته عدة مرات، وبعد فصله من وزارة النفط واختلافه مع الملك فهد فيما بعد، وانتقاله خارج السعودية، قدم أيضا رواية مختلفة تماما، فقد ذكر لجيفري روبنسون كاتب سيرته، بأن الأمير القاتل صارع من أجل قتله أيضا بعد إطلاق الرصاص على الملك، كي يضفي على نفسه هالة من الإثارة وسمة بطولية ما، مع ان ما ثبت أن القاتل بعد إطلاق النار على الملك وضع المسدس بهدوء ولم يقاوم أحدا.
وليس هذا فحسب، فزكي يماني والذي ليس بعيدا عن الشبهة، فتظاهره بعدم معرفة الأمير القاتل امام الوزير الكويتي، يثير الريبة والشك، وهو الذي يعرف كل شاردة وواردة في أسرة آل سعود ويعرف كل امير بالذات جيل الأمراء الأبناء والذي يعد فيصل بن مساعد من مشاهيرهم لما له من سوابق.
الشاهد الوحيد الذي لم تتغير روايته آنذاك وفيما بعد – رغم تحذيره من قبل الأمير نايف من الحديث عما رآه – هو وزير النفط الكويتي عبد المطلب الكاظمي، ومع ذلك تم اسكاته فيما بعد نهائيا، وهو الوحيد الذي يعتمد على روايته رغم قصرها وقلة معلوماتها، لكنها مقنعة تماما.
وكان يعتقد أن التكتم في اليوم الأول كان لسبب أمني، ولكنه حين استمر حتى يومنا هذا (٤٨ عاما).
لكن اخطر ما ورد حول جريمة إغتيال الملك فيصل باعتقادي، هو ما جاء على لسان “خالد خضر آغا” في برنامج زيارة خاصة والذي بثته قناة الجزيرة عام ٢٠٠٤.
وأهم ما ورد في هذا اللقاء، أن “خالد خضر آغا” قال أنه لا يمكنه أن يكشف ما جرى فعلا عن إغتيال الملك فيصل والا لن يبق حيا!، فما الذي كان يخشاه؟، مع انه رمى بخيط خطير جدا، وهو أن “سام الزاخم” اخبره بأن الأمير فهد ارسل الأمير القاتل فيصل بن مساعد إليه في “كولورادو” من أجل غسيل دماغه، وسام الزاخم لا زال حيا ونشطا، ولم يقم بنفي المعلومة على خطورتها لا وقت بث المقابلة ولا فيما بعد، كما أن “الزاخم” شخصية ذات نفوذ في أمريكا وكان سفيرا لها في البحرين وهو ماروني من اصل لبناني، ارتبط اسمه بأكثر من قضية فساد في امريكا ومنها ما هو مع أنظمة عربية في الخليج، كما أن صاحب التصريح، خالد خضر آغا، شخصية لبنانية استخبارية من الطراز الخطير وله نفوذ كبير ايضا، فقد تم تجنيده للمخابرات الأمريكية والسعودية عبر كمال ادهم، نسيب الملك فيصل، وارتبط بأجهزة مخابرات عربية ودولية أخرى، وكان على علاقة قوية مع السلطة في السعودية حيث عمل لصالحها منذ بداية الستينات من القرن الماضي وتوطدت أكثر في عهد الملك فيصل.
إذن نأخذ بهذه الرواية بجدية وأي جدية، وسيعيننا على الأخذ بها، ان معهد “اسبن” والذي تجري فيه عمليات غسيل العقول والتحكم بها، في كولورادو حيث يقيم “سام الزاخم” وله ارتباط بجامعتها، كما أن لهذا المعهد ارتباط بالحكومة الأمريكية والمخابرات الأمريكية، كما أن الجهة التي تنفق على معهد “اسبن” هي عائلة روكفلر، وهي الأسرة التي كان يعمل لصالحها هنري كيسنجر قبل أن يخوض مجال السياسة فيما بعد من خلال ادارتي الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد، فهل ارتبط الأمير بهذا المعهد؟.
كما أن أول تلميح عن التخلص من الملك فيصل، والسيطرة على السعودية، جرى بعد حرب أكتوبر عام ١٩٧٣ بتسعة أيام، وكان من خلال مهاتفة تلفونية ما بين رئيس معهد “اسبن” روبرت اندرسون وهنري كيسنجر، فاندرسون الذي كان قد قابل شاه إيران والملك فيصل في وقت سابق، أخبر كيسنجر أن الملك فيصل ليس عنده الإيمان بالسيطرة على الشباب السعودي، كما وأبدى قلقة من شاه إيران والذي اعتبره أكثر من مراقب، فيما لو سيطرت أمريكا على السعودية بطريقة شبه عسكرية، ورد عليه كيسنجر في نفس الاتصال الذي تم ما بينهما في ١٥/ ١٠ / ١٩٧٣، بأن السوفييت اذا انتصروا على إسرائيل (بواسطة مصر وسوريا) فإن مستقبل الملك فيصل حينها لا يستحق اللعنة!!.
كانا يعلمان أن الملك فيصل هو عراب هذه الحرب وشارك فيها من الاعداد وحتى تمويل شنها.
والإعجب أن روبرت اندرسون هو ممول مجلة “هاربر” ومنقذها من الإفلاس، وهي المجلة التي دعت لاحتلال حقول النفط العربية لمدة عشر سنوات، وقد طلبت ادارة الرئيس الأمريكي جيرالد فورد من هنري كيسنجر أن يخبر الملك فيصل والأمير فهد في الاجتماع الأخير بينهما قبل اغتيال الملك فيصل، أن المجلة صهيونية ولا علاقة للحكومة الأمريكية بها!.
ثم يأتي رئيس المراسيم الملكية “احمد عبدالوهاب” والذي رأى القاتل قبل دقائق من مقتل الملك، ولم يعترض على وجوده ولا حتى اثناء سيره نحو الملك بجانب وزير النفط الكويتي عبد المطلب الكاظمي، كما أنه المسؤول الأول عن ادخال “شخص” سبق وان تم التحذير من دخوله للقصر، وفوق ذلك وهو يحمل سلاحه.
اما رواية زكي يماني عن الفنزويلي “كارلوس الثعلب” بخصوص اغتيال الملك فيصل، اثناء اختطافه مع وزراء اوبك في النمسا، بأن كارلوس يعرف عشيقة الأمير القاتل كريستينا سورما، وسخر منها لعلاقتها ب”اقطاعي” مثل هذا الأمير، فردت عليه بأنه سيسمع عن بطولته قريبا، قصة ساذجة لا يمكن الأخذ بها إطلاقا لعدم الثقة بالناقل والذي تباينت رواياته عدة مرات، ولا المنقول عنه ايضا كارلوس الثعلب، الشهير بالكذب على الدوام.
كارلوس عندما اختطف وزراء الاوبك ورآهم يرتعدون رعبا، بالذات زكي يماني، قال لهم: لا تخافوا انا مسلم .. عربي مثلي مثلكم .. انا سوري اسمي محمد ابو الخير!”.
مع اننا لا ننفي أن لكريستيا سورما عشيقة الأمير القاتل دورا استخباريا ما، لكن دخول الفنزويلي كارلوس على خط الاغتيال بهذه القصة، ما هي إلا “عرطة” من عرطاته الكثيرة، أو أنه يريد أن يزيل عن نفسه شكا ما، خاصة وأن كارلوس كان ممن يعملون لصالح “الجناح السديري في السعودية“، وكانوا يدفعون له خمسة ملايين دولار من أجل مهمات ما وحماية مصالحهم في لبنان.