فلسطين وشعبها في قاموس الزعامات العربية: “ارفعوا الرايات البيضاء واستسلموا أولا.. بريطانيا لن تفاوضكم تحت النار!”.. وآخر: “أناديكم باسم ثلاثة ملوك!”

وطن – في حزيران من عام ١٩٣٦، وبعد أن عجزت بريطانيا تماما عن إيقاف الإضراب والثورة، كانت على وشك أن تخسر أكبر مشروع في تاريخها الاستعماري، ألا وهو تسليم فلسطين لليهود بما ترتب عليه من ثمن دفعه المرابون اليهود في حروبها الدامية التي لم تتوقف، كما أن قوى استعمارية أخرى تعاديها كإيطاليا بدأت تدخل على الخط محاولة عرقلة كل ما يقوم به الإنجليز.

لذا اضطرت بريطانيا أن تتجه للحكام العرب، بعد أن منعتهم في السابق من التدخل بأي شكل من الأشكال، “عليك أن تعرف أن هناك فرقا ما بين الدول المستقلة والدول التي تحت الانتداب، لذا لا تتدخل”.. هذا ما قاله “أندرو ريان” الوكيل البريطاني في جدة لابن سعود في نهاية نيسان ١٩٣٦، الآن تغير كل شيء، وصار لهؤلاء الزعامات قيمة الآن.

أعطيت المهمة الرئيسية لابن سعود، كما أعطيت مهام أخرى لبقية الحكام العرب.

الأمير عبدالله بن الحسين، أمير شرق الأردن اجتمع بالقادة الفلسطينيين، وأعطاهم وعدا بإيقاف الهجرة اليهودية عبر السلطات البريطانية، وحين أعلن عن ذلك في الصحف، غضب المندوب البريطاني “ووتشوب” وأنكر أن بريطانيا أعطت وعدا له بذلك، فانسحب عبدالله من المشروع برمته ردا على تكذيب المندوب البريطاني، لكنه لم يمانع فيما بعد بتجيير اسمه مع الحكام العرب الذي سيتعهد ابن سعود باسمهم لاحقا.

نوري السعيد وزير خارجية العراق أنذاك، حاول أيضا الدخول على خط التدخلات من خلال اتصالاته بالإنجليز واليهود معا، ولكنه طلب أيضا وقف مؤقت للهجرة اليهودية لخداع الفلسطينيين وحملهم على إيقاف الإضراب والثورة، لكنه لم يحصل على هذا التنازل، لا من الإنجليز ولا من “وايزمن” الذي التقاه في لندن.

بريطانيا تأكدت من إخلاص ابن سعود لها فاعتمدت عليه

فقط صاحب المهمة الرئيسي ابن سعود، سمحت له بريطانيا بتمرير وعوده دون التعهد بتنفيذها، حتى لا تفشل المهمة برمتها، كانت بريطانيا قد تأكدت من إخلاصه لها من خلال البرقيات السرية التي كان يرسلها ابن سعود لسفيره في لندن حافظ وهبة، والذي كان يسلمها بشكل دوري للإنجليز.

كان قد كتب ابن سعود في ١٥ حزيران ١٩٣٦ لسفيره في لندن حافظ وهبة برقية، احتفظ بها الأرشيف البريطاني مع غيرها من البرقيات كوثائق مشفرة حتى عام ١٩٩٩ حين تم فك تشفيرها، حيث كتب:

“تعليماتي لكم هي أن تستكشف الوسائل المناسبة، دون أن تتسبب بشكوك لدى الحكومة البريطانية فيما يتعلق بقضية فلسطين، وخاصة كيف سنختلق الأعذار لأنفسنا في أي عمل قد نضطر في نهاية المطاف إلى اتخاذه فيما يتعلق بالفلسطينيين، كما عليك إخبارهم (الحكومة البريطانية) بأنه يجب عليهم مراعاة ظرفنا مع شعبنا (السعودي) والذي يرفض سياستنا!!”.

(الارشيف البريطاني- البرقيات المشفرة من ابن سعود لحافظ وهبة- ١٥ /٦/ ١٩٣٦ HW 12/204 – 65317)

كما طلب ابن سعود وقتها من حافظ وهبة أن يبين للحكومة البريطانية حقيقة الوضع الذي هو فيه في السعودية والعالم العربي، حيث يتهم بالجبن والخيانة، خاصة بعد أن حاول منع رعاياه في نجد والحجاز من العبور نحو فلسطين.

كما أبلغ ابن سعود المندوب السامي في فلسطين “ووتشوب”، بأن من سيعبر الحدود من مواطنيه نحو فلسطين فسيكون مصيره الاعتقال.

وقد حدث نفس الشيء في شرق الأردن فقد منع الأمير راشد الخزاعي ورجاله مع متطوعين من قبائل شرق أردنية من التوجه من عجلون ومناطق أخرى إلى فلسطين، وقد انتهى الأمر باعتقال راشد الخزاعي ونفيه إلى العقبة.

أما الحاج أمين الحسيني رئيس اللجنة العربية العليا، فقد أبلغت الحكومة البريطانية، المندوب السامي “ووتشوب” أن يعطيه مهلة إن لم يستطع خلالها بتأثيره أن يوقف الإضراب والثورة فإن مصيره الاعتقال.

ورفض المندوب السامي هذا الأمر لما ينطوي عليه من نتيجة سلبية على الجهود الدبلوماسية المتسارعة من كافة القوى التي تسعى لإيقاف الإضراب والثورة بطلب بريطاني، كما يعلم المندوب البريطاني أن الحاج أمين الحسيني واللجنة العربية العليا “ما بتهش ولا بتنش”، ولا علاقة لهم بالثورة سوى أن القساميين من رجالات الثورة قبلوا بهم بشروط للتفاوض باسمهم دون الحيد قيد أنملة عن مطالبهم.

كما أن المندوب السامي لا يريد قطع الشعرة التي بين الشعب الفلسطيني واللجنة العليا، وهي التي تتكون من الإقطاعيين ورؤوس الأسر الكبرى الذين وإن ضعف دورهم ولم يعد كالسابق قبل الثورة، إلا أن تأثيرهم على الشارع الفلسطيني لا زال فيه بقية ثقة من أجل تسيير أموره، فقد اصطف عامة الشعب الفلسطيني مع الثوار، إلا أن هذه اللجنة لا زالت مقبولة “إنجليزيا”، حيث لا بديل عنها.

في شهر يوليو اشتدت خلافات الزعامات العربية فيما بينهم، فكل واحد فيهم كان يحاول أن يثبت أن لديه القدرة في التأثير على الفلسطينيين وأخذ قرار منهم بإيقاف الإضراب والثورة، نوري السعيد قال لأمين الحسيني إنني أحدثك بإسم ثلاثة ملوك عرب، تبين أنه كان “خرطي”.

ابن سعود تواصل مع أمين الحسيني تارة عبر كامل القصاب وتارة عبر حافظ وهبة، والتقاه شخصيا في مكة أيضا.

كما حاول ابن سعود أن يضم جهود مصر لجهوده من أجل إيقاف الثورة، لكن السفير البريطاني في مصر “لامبسون” رد عليه بأن بريطانيا فعلت الكثير من أجل إبعاد مصر عما يجري في فلسطين لذا لا أحبذ أي تدخل مصري.

في ٣٠/ ٨/ ١٩٣٦ أبلغ ابن سعود الإنجليز عن كافة مراسلاته مع الفلسطينيين، وقدم لهم الرسائل والبرقيات التي أرسلوها له كي يثبت للإنجليز إخلاصه لهم، وأنه يعمل لصالحهم. وأبلغهم أنه قال للفلسطينيين: “ارفعوا الرايات البيضاء واستسلموا أولا.. بريطانيا لن تفاوضكم تحت النار”.

(الأرشيف البريطاني البرقيات المشفرة من ابن سعود لحافظ وهبة- ٣٠ /٨/ ١٩٣٦ HW 12/207, 66083)

بريطانيا استخدمت الحكام العرب لخداع الفلسطينيين ووقف الإضراب

كما وعد بأن بريطانيا ستنصفهم بالذات في إيقاف الهجرة اليهودية، وأن اللجنة الملكية التي تحقق في أسباب الثورة الفلسطينية ستكون منصفة مع الفلسطينيين. أنكرت بريطانيا أنها أعطت أي وعد بخصوص الهجرة اليهودية، لكنها أوعزت ذلك لخطأ في الترجمة من قبل سفير ابن سعود، حافظ وهبة!.
وأخيرا اعتقدت اللجنة العليا وزعيمها أمين الحسيني أن ابن سعود لن يخذلهم فأعلنوا أنهم سيدرسون تقبل وساطته.

في نفس الوقت استطاع أن يضم ابن سعود إلى صوته صوت العراق وصوت اليمن، ولكن الدولتين لا زالتا تصران على وقف الهجرة اليهودية من أجل ضم اسمهما، فأبلغ ابن سعود بريطانيا بذلك، لتنضما لاحقا وتضعان كل شيء على كاهل ابن سعود.

فلسطين وشعبها في قاموس الزعامات العربية.. شيخ الأزهر: “وفلسطين دي تبقى ايه؟”

في ٨ أكتوبر ١٩٣٦ صدر النداء الأول الشهير من ابن سعود إلى اللجنة العربية العليا:

“لقد تألمنا كثيراً للحالة السائدة في فلسطين فنحن بالاتفاق مع إخواننا ملوك العرب، والأمير عبد الله ندعوكم للإخلاد إلى السكينة حقناً للدماء. معتمدين على حسن نوايا صديقتنا الحكومة البريطانية ورغبتها المعلنة لتحقيق العدل، وثقوا بأننا سنواصل السعي في سبيل مساعدتكم”.

في اليوم التالي صدر نفس صيغة هذا البيان باسم ملك العراق، وبيان آخر بإسم ملك اليمن.

بعد ٤ أيام وفي ١٢ أكتوبر أصدرت اللجنة العربية العليا بزعامة الحاج أمين الحسيني، بيانا تعلن فيه وقف الإضراب والثورة، توقف الإضراب، وغادر بعض الثوار الذين جاؤوا من خارج فلسطين مع فوزي القاوقجي والذي كان دوره مريبا في الثورة من الألف إلى الياء، وتحول إلى خيانة واضحة جدا فيما بعد، عام ١٩٤٨.

وبفك الإضراب تنفست بريطانيا الصعداء، كانت هي صاحبة كل شيء فيما جرى، وصدق شعبنا الخديعة ولكن الحق أن كثيرا من الثوار لم يغير مكانه ولم يستسلم، وظل حذرا، حتى كشفت الخديعة فيما بعد، حين تعنتت بريطانيا إزاء كل مطالب الشعب الفلسطيني، عبر قرارات مندوبها السامي، وعبر “احكام” اللجنة الملكية، لجنة بيل، فأعلنت الثورة استمرارها، لكن الإضراب توقف ولعل هذا أكبر فرج لبريطانيا في تلك الآونة.

يتبع الجزء الخامس..

Exit mobile version