تصدي القوى الكبرى للثورات العربية (2)
مبدأ الكبار في التعاطي مع الثورات العربية
تتفق كل القوى الكبرى في العالم الخالي من الأيديولوجيا حول مبدأ واحد للعمل وفقاً له وتفعيله في العلاقات الدولية ، ألا وهو “إذا لم تصنع الفعل في هذا العالم ، فينبغي أن تكون قادراً ، إما على توجيهه ، أو احتواء آثاره وتطويعها” .
وقد استخدمت القوى الكبرى الفاعلة في العلاقات الدولية هذا المنهج في مواجهة الثورات العربية ، بغض الطرف عن منافساتها وصراعاتها الأيديولوجية والفكرية والثقافية والاستراتيجية والسياسية والاقتصادية ، فهو شعار الكبار دون هوية أو خصوصية .
والكبار لم يصنعوا الفعل في الثورات العربية ، ومن ثم فليس أمامهم إلا توجيهه الوجهة التي تحقق مصالحهم حتى ولو بإفشاله وتبديده ، وعندما لم يفلح السلوك الأخير ، كان البديل النهائي هو احتواء آثار ونتائج الثورات العربية حتى لا تضر بمصالح أؤلئك الكبار ، وأمسينا الأن أمام حقيقة يقينية ومحاولتين ، فالحقيقة هي أن الكبار لم يصنعوا الثورات العربية ، والمحاولة الأولى التي بذلها الكبار هي توجيه الثورة الوجهة التي تحقق مصالحهم ، والمحاولة الثانية هي احتواء آثار الثورة وتطويعها .
أ : الكبار لم يصنعوا الثورات العربية : لأنها حقيقة ، فلم يستطع أي أحد في الأوساط الرسمية وغير الرسمية في الغرب نكرانها ، بل أقر بها الجميع واعترف ، وهي أن الولايات المتحدة وأوروبا لم يصنعوا الثورة العربية ، بل فوجئوا بنشوبها واشتعالها كالنار في الهشيم .
وسادت في الغرب حالة من الدهشة والتبرم ، أما الدهشة فقد سببتها فجائية الحدث الذي لم يشفع أو ينفع معه كافة أجهزة التخابر والتجسس في العالم ، وأما التبرم فلعجز الغرب وتضاؤل قدراته وإمكاناته أمام إرادة الشعب العربي الذي فعل ما يريد رغم أنف المتنفذين في العالم والمسيطرين على متغيراته ومستجداته .
منذ الحرب العالمية الثانية والقطب الأعظم المتجسد فى الولايات المتحدة ورديفه غرب أوروبا ثم الاتحاد الأوروبي يصنعون الفعل في العالم بكافة أشكاله السياسية والدبلوماسية والاستراتيجية والعسكرية والاقتصادية والتقنية والثقافية والحضارية ، وبمرحلتيه التخطيط والصياغة، ثم التنفيذ ومتابعة النتائج ، وإن كان الاتحاد السوفياتي في بعض الحالات يتولّى القيام بصياغة الفعل بالوصف الذي قدمنا .
والراجح أن الغرب لم يتسن له صناعة فعل الثورات العربية لأسباب عديدة : منها أنه لم يكن يفكر أبداً في صناعة هذه الثورة أو في تثوير المجتمعات العربية ، حتى تظل ترزح تحت نير استبداد وجور وعسف النظم الفاسدة ، ويتضح من ذلك أن الغرب كان يمقت الشعوب العربية ، ولا يريد لها التحرر والكرامة ، لأنها لا تستحق ذلك ، ولا يجدر بها أن تعيش في أوطانها كريمة عزيزة !
ومن الأسباب كذلك في إحجام الغرب عن صنع الثورات العربية تلك العلاقات الحميمية ، الغريبة والمتناقضة بين من يعتبرون أنفسهم قمة الديمقراطية في العالم ، وبين أسوأ النظم الديكتاتورية في العالم ، فالغرب بوصفه السابق يحافظ على النظم العربية بوصفها السابق ، ويضمن وجودها من أجل كبت وقمع شعوبها ، ومن أجل تحقيق مصالحه المتفق عليها بين الطرفين .
أيضاً عزف الغرب عن صنع الثورات العربية لانشغاله بنفسه ، وبأوضاعه الاقتصادية والمالية المتدهورة والمؤرقة ، التي لم تمكنه من التفرغ لصناعة أحداث ليست نتائجها في صالحه .
كذلك لم يعكف الغرب على دراسة أوضاع وتفاعلات المجتمعات العربية بمتغيراتها ومستجداتها بأسلوب منهجي ، ولم يفهم بشكل دقيق طبيعة دواخل وكوامن الشباب العربي ، وأنه يعد لثورة الكرامة العربية .
ب : محاولات الكبار توجيه الثورات العربية :عندما وقف الغرب وجهاً لوجه أمام الثورات العربية ، التي ذكّرته بعجزه ، وأثارت لديه عقدة الذنب ، لم يجد بداً من أن يسلك مسلكين متزامنين ومترابطين ، المسلك الأول هو الاعتراف بالتقصير والاعتذار ولو على مضض للشباب العربي ، والمسلك الثاني المسارعة بمحاولة توجيه الثورات العربية الوجهة التي بموجبها يحقق المصالح ويتلافى الآثار ، وبدا أن لدى الغرب إصراراً على المشاركة في صناعة حدث الثورة ولو جزئياً ، ثم يبدأ في توجيه التفاعلات في دول الثورات العربية .
لقد سارعت القوى الغربية بالتقاط الخيط فشاركت جزئياً في ثورة مصر واليمن وليبيا وسوريا ، في حين تصدت روسيا والصين لتلك الثورات صراحة ، ثم شارك الجميع في المراحل الانتقالية ، وبدا التدخل في التفاعلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مجتمعات الثورات العربية بشكل ملموس .
لقد كان هدف القوى العالمية من التدخل في مجتمعات الثورات العربية في الفترات الانتقالية هو التحكم في القوى الثورية وتوجيهها الوجهة التي لا تخرج بها عن المسار الذي رسمته تلك القوى الكبرى ، ومن ثم توطدت العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبين الفواعل والقوى السياسية والقوى الثورية وحتى بقايا الأنظمة الهالكة ومضادت الثورة ، وبدأت في تحريك كل تلك العناصر وفق ما ترى ، حدث ذلك في تونس بشكل جزئي وحذر ، وحدث في مصر بشكل كلي وثقل ملحوظ ، وحدث في ليبيا بشكل متحسس ، وحدث في اليمن بشكل واضح .
ت : محاولات الكبار احتواء آثار الثورة وتطويعها : وكانت المحاولة الثانية الأكثر تطوراً ، حيث شرعت القوى العالمية بشكل عام والغربية بشكل خاص ، في احتواء آثار الثورة وتطويعها ، من خلال التحكم الصريح والمباشر في ما أنشأته وأسسته من نظم سياسية واقتصادية ، وتنظيمات مثل الإعلانات الدستورية وقوانين المجالس النيابية ، والسلوكات السياسية مثل الانتحابات والاستفتاءات ، حتى انتخابات مجالس النقابات والغرف التجارية .
وأخيراً لم تتورع القوى الغربية من تدمير التجارب التي أفرزتها الثورات العربية ، وكانت مصر أوضح مثال على ذلك ، حيث شاركت تلك القوى بقوة وفعالية في التخطيط والتنفيذ لوأد النظام الديمقراطي الذي أفرزته ثورة 25 يناير ، وتسليم البلاد لحكم عسكري أعاد مصر لمنتصف خمسينيات القرن العشرين ، وبدد ثورة الشباب !!